شيء من الذاكرة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

١- هذا شيء من الذاكرة مع معالي الشيخ محمد بن محمد المختار حفظه الله تعالى ومتع به طلابه وعموم المسلمين.

٢- أرصها تحدثًا بأيادي الله عليّ، ووفاء لمرابع الفضل، وعطفًا لأعناق شداة العلم على حياضه.

٣- الآباء كثيرون لكن: "لعن الله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه"....

٤- ثمان وعشرون سنة من الاتصال العلمي والروحي... وفي طلاب الشيخ من هو أولى به مني لكن استنصتتني نفسي فحدثتني حديث المحب.

٥- كان عام ١٤١٢هـ فارقًا .. خرجنا من المسجد النبوي مع بعض طلاب العلم، سألت أحدهم: إلى أين؟ قال: إلى شيخ له علم ووعظ مختلف .

٦- لم يكن البيت فائتًا عن مسجده ، أظنه لا تفصله إلا ما صار ساحة اليوم بعد التوسعة... البيت كان من بيوت المدينة القديمة له فناؤه الصغير...كُنّيّفٌ مليء خشية وفقها.

٧- وإذ دخلنا مجلسه صَدّقتْ كلمةَ صاحبي أولُ دمعة أرسلها الطرف في حياته مع أول كلماته.

٨- كان الشيخ يسقينا بيده المتواضعة مع العلم والوعظ حليبًا شيب بالماء الحار...

٩- حدثنا ساعة ثم قام معنا ليقلبنا واحداً واحداً.. كان يطيب أكفنا ولحانا الصغيرة لدى الباب، أظنه بطيب الورد الطائفي الذي كان يحبه.

١٠- اجتمع لنا في تلك الليلة انشراح طَيْبَة مع سكينة المجلس وأحسن الحديث... وصارت الروح تحدث نفسها ! والعين تسأل أختها متى تراه؟... حتى كانت النُقلة إلى أم القرى.

١١- عام ١٤١٧هـ كان عامًا فيه يغاث طلابه وفيه يعصرون .. حين جلسوا على فضاء الفقه في مسجد التنعيم، وفقه السنة في جامع الملك سعود بجدة، وبدأت ريشة أخرى ترسم منهجا آخر للتدين غير مألوف من قبل... لقد آنس الطلاب نور التدين بفقه، واستسقوا مزنة الإخلاص فَسُقوا.

١٢- لم يكن العاكف في مجلسه والباد يظفر بأفراد المسائل فحسب، بل الظفر الكبير هو بالمنهج المطرد المتصل بسنن المتقدمين، والفوز برائحة الإخلاص، وعبق التأصيل.

١٣- كان شيء كثير ينتظم في هذا المجلس العلمي انتظام حبات اللؤلؤ في العقد: كان تفريع المسائل على الكلمات والجمل.. كان ربط كل مسألة بدليلها الخاص أو العام.. كانت الإشارة إلى الخلاف.. كان تعظيم أئمة الدين.. كانت المناقشة والردود والترجيح... كان ربط العلم بالخشية...

١٤- كانت التربية على الصبر على العلم والتأني في أخذه ﴿ولا تعجل....وقل رب زدني﴾.. كانت النفس تُعظِم أن يضرب الشيخ الأرض من المدينة النبوية إلى مكة لشرح جملة صغيرة في الزاد ثم ينعطف أدراجه لينفتل غدا إلى جدة لشرح حديث واحد.. وهل فقه هذا يحتاج لكل هذا العناء ؟ أجل.

١٥- في معاتبة مع أحد أئمة الحرم الأُول على ترك درسه في الحرم ذكّرته صبر الشيخ... قال مستأبدًا: ومتى سينتهي الشيخ المختار؟ من أخذ معه أول الكتاب لن يدرك آخره..! لقد كشفت الأيام فضيلة الصبر..ختم الشيخ الزاد وعاوده وشرح معه ما يقارب ثلث الترمذي والعمدة والبلوغ وعمدة الفقه والموطأ...

 

١٦- لم يكن الطلاب يعدون الأوراق متى يختم الشيخ الكتاب... منهم من لازال يقضي نحبه، ومنهم من يستكمل عبر التسجيل، ومنهم فسائل جديدة يوشك أن تؤتي أكلها بعد حين... ثم إن معاملة الشيخ الكبرى مع الله وما أراده سيمضيه.

١٧- في شرح الترمذي بجدة تنصت للون آخر من العلم، تكسوه هيبة الوحي، ويتزين بالطريقة الشنقيطية في الإلقاء المرتب المسترسل المرتل الذي عهدناه في دروس العلامة محمد الأمين المسجلة في التفسير.

١٨- ترك الشيخ هذه الطريقة بأَخَرَةٍ؛ أظنه ليقطع شارّة حاسد حسد وملاسنة متربص شاغب، ولئلا تطغى الوسيلة على الغاية.

١٩- في المجلس بعده سكّن غيرة طلابه وأرشدهم إلى قطع المقاولة، ونصّ في طريقه.

٢٠- الذي يأخذ بحُجَز طالب العلم في مجلسه هو السرد العجيب للمسائل.. تفريعها على الحروف والكلمات والجمل، على سنن مطولات الفقه، يبدأ بالعناوين والتراجم فيشرح ألفاظها قبل أن ينساب كالسيل في فقه الحديث ومواعظه...كان اختلاط الإيمانيات بالفقه على القلب كاختلاط السمن بالشهد.

٢١- استمع لشرح حديث أنس مثلًا: أن جدته مليكة دعت رسول الله إلى طعام صنعته، قال فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس فنضحته بالماء، كيف يقف فيحدثك عن الخادم أنس ثم جدته ثم حصيره وإطلاق اللبس على الجلوس وأحكام النضح ...

٢٢- لا ترى في مجلسه عِوج الحزبية ولا أمت الهوشات، فالشيخ حفظه الله شيخ جماعة وعامة، لم تكن الطبوليات التي يحدثها بعض الدعاة تلك الأيام تأخذه إليها، سواء في المسائل العلمية أو السياسية أو الفكرية.

٢٣- للشيخ خصوم يحملهم ظلم الحسد وجهل التحزب، وكان يدافعهم بالصبر والإعراض ، أردت حضور أحد دروسه مع طلابه في الجامعة فلقيني واحد ظهر أنه من هؤلاء، دعوته للحضور معي فاستعاذ بالله... وصل الشيخ إلى هيئة كبار العلماء ولازال هذا وأمثاله ملقون على سابلة اللغو.

٢٤- كان لجأه عند الخصومة إلى الله.. ولقد حدثنا عن دعوة عامة قديمة قد غلب على ظنه أنها وقعت موقعها على كل من وقف في طريقه في العلم ونشره ، وله دعاء خاص على بعض المغرضين لا يكاد يخطيهم.

٢٥- وضع أحدهم على الشبكة مقطعًا فيه نيل من الشيخ وتصنيف جائر، فانتصر أهل الإنصاف في التعليقات بما عرفوه من الحق، ونزلوا على المغرض بما يستحق من الدعاء والتقريع...لم يحذف المقطع بل أبقاه يتروى به قلبه المريض، لكنه اضطر إلى حجب تعليقات المنصفين عليه.

٢٦- تعلم طلاب الشيخ منه حرصه على الجماعة، وحفظه لحق ولاة الأمر من الأمراء والعلماء، وفقه المرحلة التي يعيشها ولو لقي الأذى في سبيل ذلك، وموقفه آخرًا لمّا سُمح للنساء بقيادة السيارة يشهد بذلك.

٢٧- لما صدر قرار تنظيم عمل الهيئات قلت له في اتصال: إني مستبشر بهذا ولم أكرهه. قال: وأنا كذلك... لقد رأى الشيخ أن في مثل هذا القرار أخذ بحجز المحتسبين إلى الفقه وفقه الاحتساب خاصة، ومعرفة مراتب المسائل، وشق لشباك المتصيدين، وحراسة لسور الشريعة أن يقحم فيه ما ليس منه.

٢٨- وهذا شيء ذكرته لبعض رؤساء المراكز وأعضاء الهيئة في مرحلة الماجستير في دراسة فقه الاحتساب، وهو برنامج كان لجامعة أم القرى السبق والفضل في تبنيه وإشاعته... العاطفة لا تصلح إلا بزمام العلم.

٢٩- تعفف الشيخ من الدنيا والشهرة ينطق به حاله قبل الرقيم، ولقد سمعته يذكر أنه غُلب ولم يسع إلى هيئة كبار العلماء، وذكر أنه لا يأخذ على ذلك ريالًا ولا إركابًا ولا إسكانًا، لا تحريمًا لكن يتخفف..هذا شيء كنا نقرأه في بعض التراجم، وشيء لا يكاد يطيقه كثير حتى ممن يحدث في الورع والزهد بيننا.

٣٠- تعظيم الأئمة وحفظ مكانتهم ظاهر في خطاب الشيخ من جميع المدارس الفقهية، مع الدعاء لهم والترحم عليهم بصدق وإخلاص..فإذا جاء البحث العلمي انتصر للحق والسنة، وبهذا الخلق الرفيع سلم طلابه من جرأة الطاعنين وجهالة الناقمين على أمثال أبي حنيفة أو ابن حزم أو النووي بحجة الغيرة على العقيدة.

٣١- لقد عشنا في عقد كان بعض الغلاة يُحرّق شيئا من كتب هؤلاء ديانة وما هو إلا الجهل.. ذاك الزمان الذي كنا نحاذره.. في قول كعب وفي قول ابن مسعود..

٣٢- تربى طلابه على أمور معظمة عنده لا يكاد مجلس من مجالسه إلا ويشد فيه أطنابها ويقوي وطائدها: الإخلاص إجلال الدليل حق الوالدين الأدب مع الأئمة والعلماء التحذير من الشذوذ عنهم حقوق المسلمين عامة والضعفة والمساكين خاصة.

٣٣- في التحذير من الشذوذ اذكر عام ١٤٢٢هـ أطلعته على رسالة العالمية في الأقوال الشاذة في بداية المجتهد قبل المناقشة، وهو كتاب يعتني به الشيخ ودرسه سنين في الجامعة الإسلامية..فرح لنا واتصل مباركًا ومشجعا ومذكرًا بأهمية النصح للأمة في تجنب الأقوال الشاذة ..خاصة المعاصرة منها.

٣٤- بعض طلاب العلم يطربون للتفرد والإغراب،وربما تزينوا بها، وهذا شيء لا يعرفه الشيخ بل لا يكاد يخالف ما عليه الأكثر لغير دليل ظاهر، ومن هذه البابة كان قد أفتى حفظه الله بأن المسافر يدرك المقيم في آخر صلاته أن له أن يصلي صلاة مسافر ثم رجع عن ذلك بعدُ إلى قول الأكثر وكره أن يخالفهم.

٣٥- للشيخ عناية تامة بفقه الفتوى، فلو ترجح عنده قول وخشي استعماله على غير وجهه ورّى في إجابته، كإظهار قول ابن عباس رضي الله عنهما في توبة القاتل وإن كان مرجوحًا عند من يتساهل فيه وفي وسائله، وتعظيم أمر صلاة الجماعة وأمر حجاب المسلمة عند ذكر الخلاف فيهما، لا كما يستعمله بعض دعاة التفلت.

٣٦- من فقه الفتوى عند الشيخ حفظه الله: تنزيل مسائل الاجتهاد منازلها وذكر الخلاف فيها، والنهي عن الإنكار لأجلها، وهذا شيء قديم عنده، لا كما يظن بعض المتعالمين اليوم أنهم كشفوه للناس، أو أن العلماء كانوا يكتمون شيئا منه أو يجهلونه... وإنما أذكركم بواحدة وهي فتواه في اللحية من قديم.

٣٧- وفي ذكر اللحية، أعرج بكم على هذا الموقف المؤنق، والإطلالة المليحة: جاء الشيخ الدرس مرة وكأن في لحيته شيئًا خشيَ أن يفهمه بعض الطلاب على غير وجهه، فذكر أنه لم يأخذ منها لكنه أدنى هو أو آخر -لا أذكر- المبخرة فأخذت منها شيئًا يسيرًا.

٣٨- ذكر له أحد الطلاب بعد درس ما انتشر له من صور ومقاطع وهو لايرى التصوير، وكأن بالطالب يريد قولا حازما يلّوح به في وجه كل من نشر صورة للشيخ، لكن جواب الشيخ جاء مفاجئًا، فيه فقه وإعذار في مسألة فيها ما فيها، فقال: ماذا نفعل من الحب ما قتل. انتهى.

 

٣٩- مما تقر العين به في الشيخ قرار منهجه، فهو على سنن واحد في التعليم والفتوى والفكر، لا تميل به خاصة ولا عامة، ولم يقف -بفضل الله عليه- يومًا ليعتذر عن قول أو فعل كان بالأمس، لا أعني الرجوع في أحاد المسائل فهذا واقع من كل الأئمة لكني أعني المذبذبين بين ذلك، والعصمة في الإخلاص والتأصيل.

٤٠- ليس غريبًا زهد الشيخ في الماديات، الغريب زهده حتى في المعنويات كالشهرة، إنها تطارده ويفرّ منها فرار الخائف من الأسد، لا يكاثر بدروس ولا طلاب ولا كتب ولا منصب، لقد أعرض عن شيء تطاولت له أعناق الخاصة والعامة اليوم، بل كاد التكاثر في وسائل التواصل يخطف عقولهم،كلما لاح لهم سعوا فيه.

٤١- بعد تعيين الشيخ في هيئة كبار العلماء كره أن يخاطب في الدرس والأسئلة بصاحب المعالي، كان يقول: صاحب المعالي من علا بدينه، واتقى ربه، وامتلأ قلبه من خشية الله ولو كان مرقع الثياب... الألقاب الرسمية في موضعها لا في مجالس العلم.

٤٢- وقِرن هذا وصنوه عدم قبول شيء تلقاء الدعوة، في مظهر من مظاهر الإعراض عن الدنيا والتعالي العام بالنفس والعلم، لقد زايلها بكليته.. لا ينتثل الهدايا والمنح والجوائز والدروع ... وهذا كله أثر في طلابه، وأظن على الشبكة مقطع يفصح عن هذا في ثكنة عسكرية رسمية لم أجده.

٤٣- كتابه أحكام الجراحة الطبية عمدة في بابه ومرجع لكل كاتب في المسائل الطبية، لا يأخذ على طبعاته المتكررة شيئًا، وقد نال عليه مرتبة الشرف الأولى وجائزة المدينة في التميز البحثي وتبرع بقيمة الجائزة... شرحه للزاد تبنت هيئة كبار العلماء طباعته، وقد طبع منه مجلدان ويوزع مجانًا.

٤٤- توقف شيخنا مدة عن الدروس حتى هيأ كتاب والده -رحمه الله- في شرح النسائي، وهو شرح حافل على الطراز الأول، وصل فيه إلى كتاب الافتتاح من الصلاة، يتكلم على رجال الحديث ثم تخريجه تخريجًا موسعًا،ثم اللغة والإعراب والمعاني، ثم الأحكام والفوائد والمسائل.. ثم طُبع ووزع على طلاب العلم مجانًا أيضًا.

٤٥- سأعود بكم إلى غدق مجلس الشيخ، وأبث عنه أطيب النشر، لكني أضارع السفر، وأتلطف القلم، فخذوها على مكث: سأخرج من بين البيوت لعلني... أحدث عنه النفس بالليل خاليًا..

٤٦- عادة الشيخ في درسه يصلي المغرب في الطريق.. منا من يصلي الراتبة ومنا من ينتظر، ثم تنيخ أرواحنا على خوخة المحراب ترقب إطلالته.

٤٧- إن صلى المغرب معنا وأدركها في أخريات المسجد خاصة في جدة والحرم.. فرحت ثلة من الآخرين كنت أحيانا بينهم، ولربما حبسوه بالأسئلة فماشاهم يتعجل الدرس، ويرى أن حق السابقين أوكد.

٤٨- إذا سلم إمام المغرب تداعى الطلاب سراعا آمين الكرسي كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، حتى لا يجد القائم موضع سجدته، ولربما تعرضوا لتفقه من يقول ها أنا ذا... كان الشيخ يعتذر لطلابه، ويذكر شرف العلم على الراتبة وإن كان الجمع أفضل.

٤٩- وأما الشيخ فيقدم تحية المسجد على تحية الجالسين، أذكر أنه يستأنس بحديث المسيء... ثم يسير العَنَق ويتبوأ مقعد أهل الذكر:

بَلغنا السماء بجدِّنا وجدودِنا   وإِنّا لَنرجو فوق ذلك مظهرا

٥٠- في قدومه وجلوسه يحني رأسه متواضعا... لا يشخص بصره في طلابه حياء ولا يصوبه ولكن بين ذلك.

٥١- الشيخ -رفع الله عنه كل بأس- يشتكي ما يجعله يتأخر في الدخول، وربما تعجل الخروج من الدرس للعلة، وكم تصبر بالدواء ما يتهادى به مدة الدرس.

٥٢- في إقباله يحيي العموم بالسلام ويردونها بمثلها إلا أنها تملأ أركان المسجد، ثم يخص المتحلقين حول كرسيه بأخرى.

٥٣- ربما كانت للشيخ ابتسامة تستتر خلف عباءة هيبته فإذا كشف عنها أحيانا أخذت بالقلوب ووقعت في محلها من الإعراب.

٥٤- شيئان يمكن أن تُرجِع إليه كل هذا القبول والحب في قلوب الخلق في الداخل والخارج لشيخنا: مُكنة العلم مع الإخلاص، وكثرة عبادة السر...وفيه يصدق قوله سبحانه: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". فأحبته السماء "ثم يوضع له القبول في الأرض".

٥٥- كادت القلوب تصوم عن نبضها في ذات درس ونحن نرى سماحة الشيخ ابن باز-رحمه الله- بيننا في مسجده بالعزيزية نترقب دخول الشيخ.. أقبل على شيخه مسلمًا معتذرًا عن أن يتقدم بين يديه،لكن غلبه إصرار الشيخ.. دفّ كرسيه وجلس على الأرض إجلالًا لشيخه وشيخنا وشيخ الإسلام،ثم كان يحيل عليه عند الترجيح.

٥٦- حضور سماحة الشيخ كان بلسمًا، بيد أنه كان قاسيًا على دعاة القطيعة قسوة تطلع على الأفئدة، لا ينظرون إلا تأويله.

 

٥٧- الشيخ منابذ للبدع، مهتم بالعقيدة، له شرح قديم لكتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، غير تنبيهاته في عامة دروسه وفتاويه.

٥٨- كان الشيخ من أوائل المستنكرين لنهج الخوارج والقاعدة ثم ربيبتهم داعش، اذكر أحداث أمريكا عام ٢٢ه وقعت يوم الثلاثاء وطار بها فرحًا بعض المنتسبين للدعوة والتدين، ويأتي في درس الأربعاء ليستنكرها ويبين ضررها على المسلمين

٥٩- وما سوى ذلك مما يلوكه الحاسد والجاهل، وفِرىً يقدحون بها منهجه وعقيدته فإنما هو ثغاء، لو خرط أحدهم القتاد لكان أهون عليه من إثباته، ولكن: ..وليس في الكذاب حيلة وقلَّ أن يدلي أحد بمثل ما أدلى به الشيخ إلا كان له من يكثر عليه:

يطوي على حنقٍ حشاه لأن رأى..عندي كمالَ غنى وفضل بيان

٦٠ - دعونا من بنيات الطريق، ما كان لي أن أعرج عليها، لولا حذر المزايدة، وإلا فالشيخ قد جاوز القنطرة وملأ السمع والبصر:

وأكرمُ نفسي أن أُطارح حاسداً .. وأن أَتلقَّى بالمديح مُذمَّما وعطفا على المكارم

٦١- طالما قدّم الشيخ بين يدي درسه صدقة.. ذلك خير وأطهر... وكان سمح اليدين بالعطاء، وكنت ألقاه حينا إلى حين من السيارة إلى باب المسجد للسؤال فتستقبله مُسنة سوداء أظنها اعتادت نواله، فيمد يده في جيبه لا ينظر ما يَخرجُ لها، لكن قد حان مني التفات إلى زرقاء !

٦٢- أرسل له طالب مكي يخبره أنه وصل بأمه وبعض أهله إلى المدينة، وأحب أن يراه فواعده البيت حتى إذا كان عنده جاءه رجل، فقال: الشيخ مسافر ويسلم عليك، وأوصى لك بهذا... فتح ظرفا فيه عشرة آلاف.

٦٣- في المدينة بيوت يتعاهدها بظهر الغيب بالصلة، غير من يقصده من الطامعين في جوده، وأعرف أيضًا ويعرف غيري أناسًا في مكة وغيرها يتعاهدهم ويتفقد أحوالهم وأحوال أسرهم بالمال والاتصال.

٦٤- دفعت له مؤسسة خيرية قديمة خطابًا وهو في الدرس؛ ليحث الناس على التبرع، أظنه كان لمسلمي البوسنة، فتكلم عن أحوال المسلمين عمومًا وهناك بكلام آسر ثم دف ظرف الخطاب ساعة دفه وبه ألفان.

٦٥- في الاتصال لا يرضى إلا أن يكون منه وعليه، ويقول : كل شيء بأجره...كان أهل الحاجات والأسئلة الخاصة يناوشونه أرقامهم بعد الدرس، ثم يبادهُ كلَ راقمٍ على رقمه بعدُ.

٦٦- صار الشيخ يتحامى الاتصال الصوتي بأَخَرةٍ بعد أن توعك في أذنه ، رفع الله عنه كل ضر، ومتع محبيه به، ومتعه بقواه ومن قال آمين.

٦٧- ما كان الشيخ يقر على رقمٍ لجوال؛ شحاً بوقته، وفراراً إلى الله من خلقه.

٦٨- وأما وسائل التواصل فقد قلاها، ذكر مرة تويتر، وقال: في النفس من اسمه شيء... أُدخل عليه مرة حتى فاته ورده من الليل وعده مصيبة عظيمة، وصدق الشيخ، فلا أظن راكنًا إليها يبلغ المُنى في علم أو عمل.

٦٩- عودًا على مجالس العلم: مما لا يكاد يُشهد به لغيره وقد ظفرت بفضل الله بطائفة من الرياض عند غيره: الوقوف الطويل بعد الدرس لمدة قد تزيد على الساعتين وهو يجيب أسئلة الطلاب... يعود الجدي من مكة إلى بيته أو المكي إلى مكة قبل أن ينفض الناس عنه.

٧٠- هذه الأسئلة العامة، يتخللها أقوام يناجونه، يأخذ واحدهم بيده إلى ناحية الطريق أو الساحة؛ يبث كلٌ مسألته أو حاجته،..وربما حبسه طويلا حتى يقول القائل قد تعب، وإذا رأى سائلة أشفق وفزع إليها، وفي المدينة تصحبة ظلة من السائلين والآخذين من كرسيه إلى سيارته في بطن الساحة القبلية.

٧١- إنصاته واحتفاؤه بأسئلة العوام وصغار الطلاب مع التلطف في الجواب... والصبر على الجهل، حتى فاز بالرضى والقبول، ويرجى له حسنُ ثواب الآخرة:

وقـل مـن جـد فـي أمـر يؤمله ... واستصحّب الصبـر إلا فـاز بالظفـر.

٧٢- على أن للشيخ عتب وثورة تارة أخرى؛ فيعتب على من عرف تقدم جلوسه في العلم حين يسأل عما تم تفصيل القول فيه، ويثور عند الاعتداء في السؤال.

٧٣- سمعت سائلا حديث عهد بالبلوغ، يقول: جارنا صوفي ... فثار فيه الشيخ خشية العجلة والاشتغال بالتصنيف من أول العقبة: وما هي الصوفية؟ ومراتبها، وكيف عرفت صوفيته؟ ثم بين له هدي السلف في التعامل مع أهل البدع، بالصبر وحسن الخلق مع المناصحة بالحكمة والدليل.

٧٤- وكان الشيخ يطرب للأسئلة الذكية المتعلقة بالدرس، التي تنم عن فقه دقيق، واستحضار لعموم الكلام وخصوصه ومفهومه ولوازمه، ويحمد الله أن جعل في طلابه هذا، ثم ينشط ويجود في الجواب:

وأنت الذي أعطى المكارمَ حقها .. ولم يحكِ جدواكَ السحابُ ولا البحرُ

٧٥- في الأسئلة المتعالية والتي قد يزكي المرء فيها نفسه ويحقر غيره ينفذ إليها الشيخ بالبصيرة، وينتزع هذه الجذوة المحرقة من قلب صاحبها قبل الفتوى.

٧٦- استيقظت اليوم على محاولة اتصال ورسالة من الشيخ رضي الله عنه، وظننت أن وراءها ما وراءها، فعاجلت الزمن ونثرت شيئا مما قرأ القارئ وما يمكن أن يقال بعضه قبل أن يحبسها حابس.

نص الرسالة:

-- شيخنا أحسن الله إليكم وغفر لكم ولوالديكم، أشكلت مسألة:

مريد للنسك من بلده لما أتوا على الميقات غفل أو كان نائمًا في طائرته ولم يذكر أو يستيقظ إلا بعد مدة، هل تكفيه نيته الأولى، أم يلزمه العود، أم يسقط للعذر ويهل من حيث أنشأ؟

-- شيخنا عافاكم الله وأحسن إليكم، أرسلت سؤالًا قبل أيام... إلم يكن بكم عارض فلا أبالي وسلامتكم غاية الأماني... أسأل الله أن يحفظكم ويمتع بكم.

فكان جواب الشيخ:

-- وأسعدكم ورضي عنكم وأرضاكم، لم يصلني أي شيء فضيلة الشيخ، وكنت أريد مهاتفتكم حفظكم الله. إذا كان قد أحرم ونوى قبل الميقات من بلده فلا يؤثر مروره بالميقات بالصفة المذكورة، وإن كان لم يحرم فإنه يلزمه الرجوع وإن أحرم بعد الميقات لزمه الدم، والله أعلم.

٧٧- ثم هاتفني العصر -وقد أطلعه بعض الإخوة على ما كتبت- وأعرب عن عدم رضاه التام عنه، وطلب إلي محوها؛ لأربع: *خوف الفتنة على نفسه  * وخوفها على العامة * وأن الواجب صرف الناس إلى الوحيين لا إلى الأشخاص * ولئلا يقتحم هذا كل أحد ويكتبون ما لا يُرتضى.

٧٨- وهذا شيء قد والله علمته من قبل من حال الشيخ، ولم يزدني كلامه إلا يقينا فيما كتبت بعضه عنه، ولا والله ما سعى لهذا ولا تشوف إليه ولا علم به من قبل، ووالله إن ذهاب بعض دمي ومالي أحب إلي من شيء يسوءه، وأسأل الله أن يقينا وإياه سائر الفتن، وأن يجعل بيننا وبينها بابًا لا يكسر ولا يفتح.

٧٩- وهذا الموقف العظيم والالتفات إلى صلاح الباطن هو الذي عُهد من دعوة شيخنا، وهو الذي أسست عليه دعوة النبي في أكثر مدتها، وإغفال الشباب له عند التدين في العقود الثلاثة الماضية سبب انتكاسات ومراجعات واعتذارات، بعد أن شغلوا أنفسهم والمجتمع بأعمال الظاهر ولمّا تقع أعمال القلوب موقعها.

٨٠- والشيخ لا يحيل الفضل في ما تقدم أو تأخر من علمه وعمله إلا على الله وحده، ولا يرجو ثوابًا إلا منه سبحانه، وقد تقدم أنه لا يزهو بشيء هو محض فضل الله... هذا هو عنوان الشيخ الكبير .

٨١- نصف ساعة من الاتصال والشيخ يعذر إلى الله خوف الفتنة وطمعًا في البقاء في ركن الله وحده.. تذكرت وهو في هذا ما افتتن به العامة والخاصة حتى من طلاب العلم، كلما صعدوا شعفًا بفضل العلم طاروا به، بل وصارت المصورة كما يسميها الطنطاوي -رحمه الله- كالنصُب في قبلتهم وهم يصلون ويتباكون.

٨٢- الشيخ لا يسلك هذه السابلة البتة، كان ولازال همه نشر العلم ولو لم ينسب إليه منه شيء أو يشار له به، فضلا عن أن يتحدث أو يكاثر به، وهذا ضرب من التعبد معروف عند الأئمة، وهو الذي رواه الربيع عن الشافعي-رحمهما الله-في قوله: "وددتُ لو أن الخلق تعلموا هذا العلم، ولا ينسب إلي منه شيء".

٨٣- ونظير هذا الإنقطاع ما يروى عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قيل له:"جزاك الله عن الإسلام خيراً, فقال من أنا وما أنا..!!! بل جزى الله الإسلام عني خيراً"..

رباه ها أنا ذا خلصت من الهوى....واستقبل القلب الخلي هواكا

٨٤- وهبْ أن الناس قالوا فيك كل مديحة فكيف يغنيك ذا عن منحة الباري:

تسليمُ أمري إلى الرحمن أمثلُ بي...من استلاميَ كفَّ البرِّ والقاسي

٨٥- لقد نهج بنا ذكر الشيخ مناهج القاصدين، وأنزلنا منازل السائرين، وأنسانا أنفسنا... سأعود بكم لاحقا إلى معارج القبول، وأحط الرحل في خيمته، وننظر كيف نخرج من تبعة طلبه، والله يهدي إلى سواء السبيل.

٨٦- ﷽ أولًا وآخرًا، والحمد له ظاهرًا وباطنًا:

وأسأل الله من أثواب رحمته ... سترًا جميلًا على الزلات مشتملًا

  وأن ييسر سعيًا لي أكون به ... مستبشرًا جذلًا لا باسرًا وجلًا

٨٧- هذا وأما بعد: فلئن وجد علي الشيخ بعض الموجدة، فلقد اخترت إيثار علمه وتركته وإيثاركم به على نفسي، وأسأل الله أن يغفر لي وأن يصلح نيتي، وأن يرضيه عني، ولقد تحنن علي، وتلطفت معه حتى استجمع ضاحكًا، فلا يظنن بي ظانٌ ضربًا من العقوق.

٨٨- وقد خرجت من العهدة بأمرين: الحب والفقه: فأما الحب، فلقد علمت ما تفضل علي به في قلبه من الود، فعسى أن يأتي على هذه الموجدة. وأما الفقه : فإن مخالفة رغبة الشيخ في محو ما رُقم في حقه لا تعد عصيانا في حالتين: إذا كان الامتناع إجلالًا للشريعة والعلم أو كان إجلالًا لحق الآمر.

٨٩- فمن الأول ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من الامتناع ابتداء عن الحِل بالحديبية؛ إعظامًا للنسك. ومن الثاني: امتناع عليٍ رضي الله عنه أن يمحو اسم رسول الله لما طلبه سهيل بن عمرو؛ إعظامًا لحق رسول الله لا عصيانًا.

٩٠- ولقد قال ربيعة:"لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه"؛ فكيف لظافر بهذه البقية من بقايا الأولين أن يضيع نفسه ويحرمها أجر الدلالة عليه:

من ضيع الحزم جنى لنفسه...ندامة ألذع من سفع الذكا

٩١- ولئن دعا الشيخ تواضعه وخشيته إلى مثل هذا الموقف العظيم فينبغي أن يدعونا خوف التقصير في حقه ورجاء الثواب في نشر علمه إلى الإقدام، وإني لأرجو بحسن نيته أن يعم النفع.

٩٢- لكن الذي ينبغي ألا يدرس من ذهن كل طالب ما نبه عليه الشيخ، وزاد فيه وأعاد من أن هذا العلم لا يمكن أن يكون له ساق وثمر إلا على قاعدة الإخلاص.

٩٣- وكان في فواتيح الدروس والمحاضرات كثيرًا ما يذكر طلابه بأمرين في طريق العلم: الإخلاص والصبر ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.

٩٤- ولقد قال لي: إني أدرس في الحرم، وخطبت في قباء، وأتيت على العباسية ثمَّ، ولا أشعر بشيء من هذا"... هذا حال الشيخ لا يشعر بزهو المكان فضلا عن أن يتحدث به أو يدلي به على الناس، وهذا كله فضل الله وحده عليه، وهو شيئ لا يكاد يطاق، ولا تصل له النفس إلا بولوج بابٍ من المجاهدة عظيم.

٩٥- يقول الشيخ وهو يدافع كتابتي فيه: إني لم أترجم للوالد مع أحقيته وسابق فضله... وهذه قاعدة الشيخ في نفسه وما يدعو طلابه إليه، ألا يكون للنفس ولا لأحد في العلم حظ، وأن يوكل الأمر فيه لله وحده، وما كان له أمضاه ونفذ، وهذا أيضا لا يكاد يحتمل إلا من النقاوة.

٩٦- ولأهل التبصر أن يراجعوا كلام الغزالي في الإحياء عن الرياء، وكيف تتلاعب النفس بصاحبها، ولِمَ كان أخوف ما خافه علينا، ثم إنه -أي الغزالي- قال: فهذه درجات الرياء ومراتب وأصناف المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات.

٩٧- وشيخ شيخنا ووالده هو -محمد المختار-رحمه الله-ت ١٤٠٥ سيأتي شيء عنه، وتقدمت الإشارة إليه وإلى شرحه على النسائي، له ترجمة أنيقة في كتاب المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم، وفي ثناياها لاح للمؤلف برق شيخنا في صغره وتفرس فيه.

٩٨- وشيخنا استجمع الوفاء والبر لمشايخه ووالده خاصة، ومنه -أي هذا الوفاء والبر- ذكره اختياراته ومواعظه تارات في الفتاوى والدروس...

 

٩٩- ومنه الدعاء الصادق لمشايخه وذبه عنهم، وكانت نفسه الأبية تكاد تطير من بين جنبيه إذا ترك أحد الأدب معهم فضلا عن أن يقع فيهم، بل لا يرتضي الولوغ في عرض مسلم في مجلسه فضلا عن زينة الأرض.

١٠٠- روى مجاهد -رحمه الله- عن الحبر -رضي الله عنه وعن أبيه- في قوله تعالى: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ قال: العلماء زينة الأرض.

١٠١- مما حفظته من ذكره لوالده -رحمهما الله- ويشهد لما تقدم من التجرد: أنه كان يقرأ عليه في درس الحرم، فلم يبق في الدرس أحد سوى الشيخ وولده، فهمَّ الولد أن يقلع عن القراءة، فقال الوالد: ألست تقرأ لله، امض، فمضى... أي والد وما ولد: إذا مات منا سيدٌ قام بعده...نظير له، يغني غناه ويخلفُ..

١٠٢- ووالده هو شيخه الأول والكبير، وهو الذي حشاه بالعلم منذ صغره حتى ضلّعه، فكان يستصحبه معه في دروس الحرم، ولربما نام في حجره بين الناس، حتى إذا بلغ سن الغزو توسم فيه وأمره بالقراءة عليه، فختم عليه البخاري ومسلمًا والموطأ، وكان أول ما قرأ عليه سنن الترمذي وابن ماجه ولم يكمله.

١٠٣- وقد علمت من حال شيخنا أنه كان مع القراءة لهذه المطولات لا يكتفي بالجرد بل يدون نوادر الأحكام والفرائد، فقد سألته مرة عن عمدة المالكية في التفريق بين المدير والمتربص في زكاة العروض، فاستأنى بي، قال:حتى أراجع تعليقاتي مع الوالد -رحمه الله- على الموطأ.

١٠٤- وفي الفقه قرأ على والده -رحمه الله- رسالة القيرواني، ودارسه أكثر بداية ابن رشد، والبيقونية وطلعة الأنوار وتدريب السيوطي في المصطلح، وحضر دروسه في اللغة، وقرأ عليه شيئا من الأصول.

١٠٥- وكانت دروس والده -رحمه الله- بعد كل فرض في الحرم النبوي سوى العصر ففي بيته:

العلم كنز وذخر لا فناء له .. نعم القرين إذا ما صاحب صحبا.

١٠٦- ومن روائع الموافقات لهذا الوالد الكريم، أن توفي وشيخنا يقرأ عليه الختمة الثانية لمسلم، أظنه عند قول المصنف: باب الترغيب في سكن المدينة، وحديث: "لايصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعا".. فدعا على غير عادته ألا يحرمه الله ذلك، وأمنَّ الحاضرون تأمين ملفتا، وكان آخر المجالس.

تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ ... وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن

١٠٧- ممّا نفعنا الله به من ذكر شيخنا لهذا الوالد المبارك، أنه لا يمكن أن يفرط في حزبه من الليل، يقول شيخنا: يتفق له أن ينشغل في بعض الدعوات عند بعض القرابة إلى هجيع الليل الآخر، ويعود متعبًا، لكن متى انتصب قائمًا لله كأن شيئًا لم يكن، وهذا لا يتأتى إلا بالمجاهدة إلى درجة الأنس بالله.. وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله من أهل القرآن.

١٠٨- وقد اجتمع لنا بعض علم هذا العلامة الوالد وذكره وفضائله من طريقين: من طريق شيخنا حفظه الله ومن طريق الشيخ الدكتور الكفيف أحمد بن عبدالرزاق الكلبيسي نسبًا، العراقي أصلًا، الحنفي مذهبًا.

١٠٩- درسنا على الكبيسي في الكافي للموفق، وكان يحدثنا ببعض أخبار الشيخ المختار رحمه الله، ولا أدري ما الذي أخذ عنه؛ لأن فقه الحنفية قد غلب عليه، حتى أنه اشتد علينا يوم جمعنا في مسجد الجامعة في ليلة مطيرة لأنهم لا يجيزونه، ومن قبيله أيضا اشتداده على من يقول بعدم إجزاء صدقة الفطر نقدًا.

١١٠- وهذا التنوع المذهبي بين مالكي وحنفي وحنبلي قد يثري المتلقي ما لم يصل إلى السيلان المذهبي كما يسميه بكر أبو زيد -رحمه الله- فإنه يضر المنتهي إذا اعتمد مجرد الخلاف دليلًا على الجواز أو عدمه، ويشوش على المبتدئ؛ خاصة إذا لم يتأصل في كل مذهب، ويتبع الدليل.

١١١- قد ندّ بنا القلم؛ لكنه وفاءٌ لمن جرى على لسانه ذكر أهل الفضل.

١١٢- وكان لشيخنا أوائل العقد الماضي محاضرة في جامعة أم القرى أظنها عن طلب العلم، واجتمع الخلق حتى ضاقت القاعة بما لم ترحب؛ لأنها كانت صغيرة، لا تليق بجمع يجتمع لمثل شيخنا، ومن فضل الله على الداعي أن الشيخ اعتذر، وإلا حطمهم الناس.

١١٣- فقام الدكتور الكبيسي في البقية الباقية وتحدث بشيء عن الشيخ ووالده رحمهم الله جميعا.

١١٤- ولما جاء الشيخ لميقاتٍ آخر، احتاطت الجامعة بقاعة أكبر لكنها لم تغن شيئا؛ ... ولن أحدثكم عن مقولهِ فيها ولا عن أثرهِ في الطلاب؛ فهذا شيء تعرفونه من فضل الله عليه، لكن الحضور تقلدوا في أولها ما لو انصرفوا به لكفاهم، وسأحدثكم عن ذلك :

١١٥- أما المقدم وهو أستاذ في الجامعة فأراد في فاتحتها أن يشنف أسماع الحاضرين بشيء من حلية شيخهم، وأما الشيخ فقد اعتاق اللاقط تواضعا، وقال الكلام في العلم يكفي:

وأحسنُ مقرونَيْنِ في عينِ ناظرٍ ... جلالةُ قدرٍ في خمولِ تواضع

١١٦- هذه ذكريات يتناوشها القلم من زوايا الذاكرة على غير ترتيب، فاقبلوها واغفروا ، وإلى منزلة أخرى من منازل القمر، نتحرى إهلالها غدًا، إن شاء الله.

١١٧- من وفاء الشيخ لمشايخه وعلماء الأمة كان إذا ثُلم المسلمون بواحد منهم توجع وبكاه وذكره في درسه، وذكر بعض مناقبه، ودعا له دعاءعظيمًا، فعله لما مات الأئمة: ابن باز في محرم عام ٢٠ هـ، والألباني في جمادى الآخرة عام ٢٠هـ، وابن عثيمين في شوال٢١ هـ، وابن عقيل في شوال ٣٢ هـ رحمهم الله تعالى.

١١٨- ولما توفي ابن عثيمين -رحمه الله- استعظم ذلك، قال: لأن ابن باز -رحمه الله- مات وخلفه لنا وسد بعض ثغرته، وأما اليوم فإنا لله وإنا إليه راجعون.

١١٩- وشيخنا استهل عام ١٣٨١ هـ، وأدرك الشيخ العلامة محمد الأمين ت ١٣٩٣هـ، لكن لم أتحقق هل جلس في مجلسه في الصغر وأخذ شيئا عنه، أم حُبس في مجالس والده رحمهم الله جميعا.

١٢٠- والناس يخلطون بين العلاّمتين، ويظنون أن شيخنا من أولاد الأمين، وليس الأمر كذلك، فصاحب الأضواء كتابًا وذيوعًا هو العلامة: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، ت في ذي الحجة 1393 هـ، ووالد شيخنا ت ١٤٠٥ هـ، يوافق اسمه المركب اسم والد الأمين، وبينهما -رحمهما الله- قرابة عمومة فقط.

١٢١- وفي برقيات عام 1393 هـ، برقية من الشيخ ابن باز في 18/ 12/ 1393هـ يعزي فيها والد شيخنا العلامة محمد المختار في وفاة العلامة محمد الأمين، ويخبره بمرضه ونقله للمستشفى، وصلاتهم عليه بعد الظهر في المسجد الحرام.

١٢٢- وننبه أيضًا إلى أن في أولاد الأمين ابنه: محمد المختار، أصولي درّس أيضًا في الجامعة الإسلامية، واسمه مركب كاسم جده وكاسم والد شيخنا، وأما شيخنا فمحمد بلا تركيب ابن محمد المختار، وبعض الطلاب ينسبون بعض أقوال الأول ومواقفه لشيخنا، وقد وقفت على شيء منها، وهو خطأ لا يُرتضى فيتثبت.

١٢٣- والأسماء المركبة شائعة لدى المغاربة وفي شنقيط خاصة، وأظنهم يطلقونها تفاؤلًا وتمييزًا أو تعظيمًا.

١٢٤- وأما الشنقيطي فهو واحد الشناقطة نسبة إلى مدينة شنقيط ومعناها "عيون الخيل" باللغة الأمازيغية، تقع شمال موريتانيا، تأسست سنة 660هـ، وأما موريتانيا فأظنه اسم استعماري، والشناقطة عامتهم عرب أقحاح استوطنوها في أول الفتوحات الإسلامية، وطغت هويتهم العربية والإسلامية على أصل هوية البلاد.

١٢٥- وشنقيط مشتهرة بكثرة علمائها ومدارسها الدينية، الذين حفظوا الدين في علوم وسائله ومقاصده، وكانت قوافل الحجيج منهم بركة على ما يأتون عليه من بلاد الإسلام، بنشرهم العلم إلى أن شع نورهم في بلاد الحرمين إلى اليوم.

١٢٦- والجَكْنِي في نسب شيخنا نسبةً إلى الجكنيين أو قبيلة تجكانت من ذرية جاكان الأبر، أحد قادة المرابطين الفاتحين، العائدين نسبا إلى صنهاجة الحميري ثم قحطان اليمن، أبو العرب العاربة، أهل علم وسيف:

١٢٧-

جاكان أسد لدى الهيجاء ضارية..وهم لكعبة بيت المجد أركـان

وحيثما كان مجد كان معشرهم..  ولو يكون مقر المجد شوكان

 وحيثما رحلوا فالمجد مرتحـــل..     وحيثما سكنوا فالمجد سكــان

  جنات عدن لمن يرجو نوالهــــم..    وللمناوئ نيران وبركـــــــان

١٢٨- عودًا إلى مرابع الفضل، وعوالق الذكرى.

١٢٩- الشيخ له طلاب لا يحصون، في الداخل وأرجاء العالم، منهم من شرف بمجالسه، ومنهم من يتتبع مواقع قطره.

١٣٠- وللشيخ مواقع كثيرة لا يشرف عليها بنفسه، متفاوتة في جودتها ونشاطها، تحوي دروسه ومواعظه، ويمكن للمريد أن يبحث عنها باسمه في محركات البحث المختلفة، خاصة من أراد سماع تالد الدروس.

١٣١- وليس له في مواقع التواصل نافذة إلا ما فطره المحبون، وهي كثيرة تنشر نتاجه، يبحث عنها باسمه وتظهر لكم، سواء في تويتر أو الفيس أو اليوتيوب أو التطبيقات المختلفة، إلا أن الشيخ قد نبه إلى أن ما يتعلق بإعلانات دروسه ونشرها يختص به هذا الحساب  @shankeety1

١٣٢- ولقد شرُفتُ -بفضل الله- بمجالس علمٍ كثيرة، كمجالس للأئمة ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين رحمة الله على الجميع، ولست من خواص طلابهم، ولكن كنت في سواد الناس، فلم أر حضورًا يضاهي في الكثرة من يتحلق حول شيخنا من طلاب العلم في الحرم وغيره.

١٣٣- وأنا أتكلم عن حملة الدفاتر والدواة، وأما طلاب الفتوى والسمت والهدي وغيرها من العامة فكثير جدا حول هؤلاء الأئمة، خاصة دروس الشيخين ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- في الحرمين فكانت مشهودة، قد حطمهم الناس فيها.

١٣٤- وكراسي علم الشيخ خمسة: في المدينة، ومكة، وجدة، والرياض، ثم في الطائف، وأما المحاضرات والمواعظ فجاب بها أرض السعودية المباركة، ولقد شَرُفتْ به حتى مرابعنا الخضراء في "الديرة" شمران والقبائل المجاورة، في محاضرة مشهودة حضرتها، كانت في سبت العلايا قبل عقدين.

١٣٥- وكان له محاضرة في القصيم، امتنع فيها عن الفتوى، تواضعا وأدبا مع مفتيها وشيخها وشيخ المسلمين محمد ابن عثيمين -رحمهما الله تعالى.. لله أبوك شيخنا:

وليس على المجد والمكرمات ... إذا جئتها حاجبٌ يحجبك

١٣٦- وأما الخارج فعلى سَنَن الأئمة من مشايخه، ليس لها فيه نصيب، وهذا أظنه من فضل الله عليه؛ لأمرين: الأول: قد تهيأ للعالمين الإفادة بلا نُقلة. والثاني: أن غالب الدعوات من الخارج لها نَفَس حزبي، ومظلة الشيخ أوسع من سُرادقها، وهذا أمر ظاهر للمتوسمين.

١٣٧- وهذه الدولة السعودية المباركة في مراحلها الثلاث استطاعت بفضل الله أن تعم العالم بخيرها وبدعوة التوحيد خاصة من خلال خمس طرق رئيسة أغنت عن خروج علمائها الكبار أمثال شيخنا:

١٣٨-  * بعثاتها الرسمية من الدعاة  * البث الإعلامي خاصةإذاعة القرآن * طباعة المصحف الشريف وكتب العقيدة والسنة وتوزيعها في الأرض احتسابًا * دعوة وتعليم بعثات الحج والعمرة * استقطاب المبرزين من طلاب المنح في جامعاتها وتعليمهم الدين الصحيح: ﴿ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.

١٣٩- وعطفًا على ما فات؛ فالتتلمذ على يد الشيخ يسير من خلال الإفادة من دروسه وتراثه، وأما الملازمة الخاصة فكان للشيخ مجلس في بيته عصر كل جمعة ثم تركه صيانةً لهيبة العلم، ودفعًا للجدال المذموم.

١٤٠- والشيخ له سياسة مع طلابه، على وجه يتوسطون فيه بين الزهد في العلم والجرأة عليه قبل تمام آلته، فتجدون في دروسه الكثير من حث طلاب العلم على ضبطه، والصبر على الأذى في سبيله، لكنه أيضا يمسك بزمام المجترئ، ويتحوط في التزكية شفقة على طلابه، ونصحا للدين والأمة.

 https://twitter.com/i/status/1140206336153706496

١٤١- وقد قلت للطلاب من قبل: لا تحرج مشايخك بطلب التزكية، فإن بعضهم يتورع عنها لأمرين: ١-ألا يكون الطالب أهلا عنده. ٢-أو عدم أمن الفتنة على حي.. وذكرت حديث محجن السلمي قال: أخذ رسول الله بيدي فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فقال لي: من هذا؟ فأثنيت عليه خيرا. فقال: اسكت لا تُسمعه فتهلكه".

١٤٢- وكان أهم ما يرعاه الشيخ في طلابه أن يضبطوا العلم، وأما تبليغه فيوكلونه إلى الله، وما كان لله فسيجعل له مخرجًا من حيث لا يحتسب صاحبه: ﴿إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا

في ازدياد العلم إرغام العدا..وجمال العلم إصلاح العمل

لاتقل قد ذهبت أربابه..كل من سار على الدرب وصل

١٤٣- في عام ٢٨هـ حصلتُ على الدكتوراه فتعاظمتُ نفسي، واستسمنني بعض الطلاب وطلبوا درسًا، فاستجزتُ الشيخ، فقال: لا، ابق معنا سنة.. بقيتُ سنة، وكشفت الأيام أن الشيخ كان أعلم بي من نفسي، ووددت والله أنها كانت أكثر، وأني تريثت؛ فإن ما كان لله سينفذ، لكن سبق القلم، وأسأل الله أن يغفر جرأتي...!

١٤٤- ولهذا فإني أؤكد على البقية الباقية أن يلزموا وصية الشيخ في أمرين: قوة الضبط، وكثرة التعلق بالله أن يجعل العلم خالصًا نافعًا. فكم من ضابط لم يبارك له، فلم ينتفع أو ينفع بعلمه، وقد شاهد الشيخ هذا في بعض أقرانه، وكم من مخلص تعجل قبل الضبط وجاء يمشي لكنه:

يمشي على ثلاثة..كمشية العرنجلي

١٤٥- هؤلاء طلاب الشيخ، وهذا شأنه معهم، وهو يحبهم، ويدعو لهم بظهر الغيب، ويتفقدهم ولو ما شعروا، وهم ملء السمع والبصر، يسيرون على طريقه، لكن ليس فيهم من بلغ منتهى بسطة شيخه، بل سعوا فلغبوا.. سبقهم بالعلم والخشية، ولكن نرجو من الله أن يجعل فيهم من ترتفع به درجات شيخنا، ويبقى بهم أثره.

١٤٦- وقد قال لي مرة: طالما دعوت الله أن يبارك لي في طلابي.. فالشيخ كما حفظ ود مشايخه، عطف بقلبه على طلابه، وكثيرا ما سمعنا منه مقالة الشافعي-رحمه الله-: "الحر من حفظ وداد لحظة وأنتمى لمن أفاده لفظة".

١٤٧- وقد أشعرته بالحب الذي غشيه منكم في تويتر عبر ما وصلني من تعليقاتكم ورسائلكم الخاصة، فدعا لكم دعاءً عظيمًا، وهذه عادة الشيخ ، يدعو لمن سعى في نشر علمه، أو دعا له وذكره بخير بظهر الغيب، أن يجعل الله له أضعاف ما سأل له.

١٤٨- وقال: تويتر صار نعمة عظيمة على من تابعه العدد ثم ذكرّهم بآية أو حديث أو حكم.

١٤٩- وطلاب الشيخ من أساتذة الجامعات، وأئمة الحرم، والقضاة، والمعلمين كثير، ونرجو من الله أن يكون لشيخنا مثل أجور أعمالهم.

١٥٠- والذين باشروا القراءة عليه كثير، وإن كان بعضهم ألزم له من بعض، والقراءة على الشيخ مترسلة، لا يجاوز الجملة في المتون، ولا يزيد على حديث في السنة حتى يستوفي الكلام حولها، وربما استعاد القارئ مرة أو مرتين.

١٥١- سمعت له شرح عمدة الموفق وكان الذي يقرأ عليه هو الدكتور عبدالله الجهني إمام الحرم المكي اليوم، فربما غلبه الحدر كعادة الشيخ في تلاوة التراويح، حتى يوقفه شيخنا، ويقول: اصبر شوي شوي.

١٥٢- وللشيخ منهج في تلقي الفقه، تجدونه في مواقع علمه، والأصل في طريقته -حفظه الله- ونصحه للمبتدئ بعد حفظ المتن، أن يتلقاه عن شيخه، كل مسألة بدليلها العام أو الخاص من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو غيرها من أدلة الفقهاء، إلى تمام أبواب الفقه قبل أن يشتت نفسه في الفقه المقارن.

١٥٣- الشيخ تجاوز كتاب الفرائض من الزاد في دورته الأولى، ووعد بشرحه بعد ختم الكتاب ولم يتيسر بعد، وقد أحالني -حفظه الله- وأنا أشرح الرحبية على شرح العمدة، فقد أتى على فقه نصوص المواريث، وهو مسموع ثري مليء على الشبكة، وذكر لي أنه مفرغ عند أحد الطلاب لكن لم أقف عليه، فينظر.

١٥٤- ولد شيخنا في المدينة النبوية عام ١٣٨١ هـ، فهو أسنّ مني بتسع لكنه أكبر مني بكثير... تخرج من كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية ١٤٠٣ هـ، والعالية "الماجستير" ١٤٠٧ هـ والعالمية العالية "الدكتوراه" ١٤١٠ هـ.

١٥٥- رسالة الماجستير كان عنوانها : القدح في البينة في القضاء، أشرف عليه الشيخ الدكتور: نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية سابقا، وأما الدكتوراه ففي أحكام الجراحة الطبية، وسأحدثكم عن ذلك:

١٥٦- أما في مناقشة الماجستير فقد جاءها شيخنا شابًا يسعى، لم يكن فيها طالبًا البتة، ولقد ناقشتُ رسائل في الفقه كثيرة ونُوقشتُ من قبل، وحضرت مناقشات؛ فلا والله ما سمعت باحثًا يفري فريه.

١٥٧- كان هذا الطالب اللوذعي متوثبًا مقارعًا بالحجة، مستحضرًا لما كتب مع دقة موضوع البحث، لقد انتصر للعلم، وأشفى مشرفه ومحبيه وطلابه الذين اجتمعوا له، ووُجد في بعض اللجنة منصفًا خضع له.

١٥٨- وأما في الدكتوراه فجاءها شيخنا يمشي مطمئنًا..اللجنة كانت عالية في العلم، أحدهم الشيخ القاضي عطية سالم تلميذ الأمين، ومكّمل الأضواء..عرف قدرهم، وعرفوا قدره وقدر بحثه، فأنزلهم منازلهم، وأنزلوه منزلته، وكانوا على كلمة سواء، حتى خرج بمرتبة الشرف الأولى، من غير إيجاف خيل ولا ركاب.

١٥٩- المناقشتان مرفوعتان للعالمين على الشبكة.

١٦٠- الشيخ -حفظه الله تعالى- ناوش الستين، عشرون أسس فيها علمه، وأربعون سبّل فيها منافعه لله تعالى في بث العلم والنصح لأمة محمد ، ولم أر في شَعَره شيبًا، لعله يُغير في بياضها في آخر الأيام، وكان إذا حرك عمامته في الدرس انكشف شعر طويل يضرب منكبيه.... على كل حال هذا شيء يذكر بشيء.

١٦١- مشاركاته الإعلامية عبر الرائي لا توجد، وأما الإذاعية غير المباشرة فكثيرة جدًا، خاصة عبر الإذاعتين المباركتين: إذاعة القرآن وإذاعة نداء الإسلام، حيث أفادتا من دروسه ومواعظه، فكانت تُبثُ في مثل برنامج: دروس من الحرمين، ومحاضرة الأسبوع وغيرهما.

١٦٢- وأما المباشرة منها فقد بدأ في محرم عام ٣٣ هـ في برنامج الإفتاء: سؤال على الهاتف، وهو برنامج رائع بدئ فيه مع الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- قديمًا، وبعد موته تعاقب عليه ثلة من هيئة كبار العلماء.

١٦٣- لم يطل أمد الشيخ فيه، فما كاد طلابه يستبشرون به ويتناقلون خبره، حتى ترك، ويوجد منه حلقات أظنها ثمان مسجلة منشورة.

١٦٤- والشيخ يتحرج من الفتوى عمومًا، ومن تعميمها خصوصًا، لاختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة، ولربما أُخذت على غير وجهها، أظن هذا الذي منع الشيخ من المضي في هذا مع إيثار شغل وقته بالتدريس.

١٦٥- ومن هذا الباب أيضا تورعه -رحمه الله وحفظه- عن تسلم منصب مفتي المدينة النبوية، حيث عُين اثنا عشر مفتيا عام ٣١ هـ في مناطق المملكة، اثنان منهم استَعْفيا؛ شيخنا استعفى تورعا وإيثارا لتدريس الطلاب، وآخر اعتراضا على الراتب والسلم الوظيفي.

١٦٦- ولو لم ينشر هذا في صحيفة تتلى ما ذكرته، لكن لتعلموا أننا ما أكثرنا في حق شيخنا:

خلق الله للخطوب رجالًا .. ورجالًا لقصعة وثريد

١٦٧- وكم من شخص تخلفت به لعاعة عن النايفات..وقد ذكرت قبلُ رجلًا جاهد حتى وصل الصف الأول عند الكعبة لكنه في سجوده ثمَّ شُغل بالتفكير في العشاء أهو رز أم ملوخية!! هذا ضرب من الحرمان، والموفق لا يمد عينيه وفكره فضلا عن يديه إلى شيء يحول بينه وبين منازل المقربين، وأما الحرام فمعاذ الله.

١٦٨- ننقلب لمنهج الشيخ في الفتوى:

١٦٩- ثمة ثلاث مسائل كان يتحفّظ الشيخ في الفتوى فيها، ونصحني وغيري بالتثبت فيها: النوازل ومسائل النزاع والطلاق وأسئلة المسلمين التي ترد من الخارج.

١٧٠- وكان يحيل في الفتوى على المفتي؛ خاصة في الطلاق، وما يتعلق بقضايا الأمة، وربما أحال على أهل الاختصاص، وقد سمعته يحيل على بعض الأطباء.

١٧١- الذي يقرأ الأسئلة على الشيخ كان موفقًا في اختياره، ولعله قد التزم توجيه الشيخ.. يورد ما له علاقة بالمادة العلمية، ثم يختم الدرس والأسئلة بما له تعلق بالرقائق والإيمانيات، فتكون هذه الكلمات التي كثيرًا ما تختلط بعبرة الشيخ زادًا للمستقنع، موصلة له بإذن الله إلى منتهى الإرادات.

١٧٢- وأما تحوّط شيخنا في الفتوى والنوازل خاصة فمشهور... ذكر أنه بقي في بعضها خمس عشر سنة لم ينته فيها إلى رأي، ليس عجزًا فهذا بحث الدكتوراه أربى فيه على غيره وهو في النوازل، ولكنه الورع، وتعارض الحجج.

١٧٣- وتحوطه -حفظه الله- ليس تشديدًا، بل يتضمن التيسير، ولو أراد التشديد لجزم بالتحريم مثلًا، ولهذا فإني وغيري نفرح كثيرًا بالرخصة تأتي من الشيخ أكثر مما لو جاءت من غيره، لأنها تأتي يانعة، ورحم الله سفيان الثوري القائل : إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد .

١٧٤- سألته أول ما بديء في توسعة المسعى فتوقف، وقال ملاطفًا: أما أنا فسعيت قبل أيام في القديم وعكست السير،لكن أبشرك لم أُعط مخالفة.. فعله شيخنا خروجًا من خلاف الأكثر، والخروج من الخلاف مستحب كما في القواعد إن أمكن،  وهذا يتأتى مع مسار العربيات،أو في غير أوقات الزحام، أوفي المساعي العلوية.

١٧٥- ومع ذكر النوازل، ومنهج الشيخ في الفتوى، فقد وقع لي معه واقعة فيها عبرة، اشتد علي الشيخ فيها وتَغيَّظَ لأول مرة، تمنيت ساعتها ما تمنى أسامة -رضي الله عنه- حين قَتَلَ المتعوذ، أَقُصّها عليكم:

١٧٦- جاءني استفتاء من فرنسا حول واقعة غاية في الغرابة تضمنت أربعة أسئلة، والمسلمون في الغرب عموما سواء من الجدد أو من المهاجرين فيهم تدين، وأسئلتهم كثيرة جدًا، وفيها غرائب لغلبة الجهل، ولأثر الخلطة مع غير المسلمين، ولتذبذبهم بين الشريعة والقانون ، وعندهم جرأة على العمل قبل العلم.

١٧٧- ولذا فإن أسلمَ طريقة للإنفكاك عن هذا هو الهجرة إلى بلاد الإسلام، وإن بقاءهم هناك مع القدرة على ذلك أمر محرم، خاصة مع العجز عن إقامة دينهم، أو إخضاع عباداتهم ومعاملاتهم وأنكحتهم وغيرها للقوانين الوضعية.

١٧٨- هذا السؤال الذي وردني عن رجل مسلم هناك: متزوج بامرأة يحبها لكن لم يرزقا بولد، فتوافقا على أن يتزوج أخرى طلبًا للذرية، على أن تبقى معه... لكن القانون لا يسمح له حتى يطلق الأولى.

١٧٩- فتوافقا أن يطلقها ظاهرًا لا باطنًا ، أي أمام القانون فقط، وتبقى الزوجية، وفعلا فعلتهما، وطلقها أمام المحكمة، وهذا هو السؤال الأول: هذا الطلاق الذي لم يقصده هل وقع؟ أم لا زالت الزوجية قائمة؟

١٨٠- علِمَ أهل المرأة بهذا الطلاق فغضبوا وأخذوها، وقالوا: قد طلقتها، وسافروا بها إلى مدينة أخرى كُرهًا، فهي تريد زوجها وهو يريدها لكن غُلبا.

١٨١- أرادا أن يتراجعا؛ فجعلا لهما حيلة: اتفقا مع رجلٍ عنين لا رغبة له في النكاح، أن يسافر إلى أهلها ويخطبها ظاهرًا لا باطنًا ويعقد عليها عقدًا صوريًا؛ لأنهما يعتقدان بقاء الزوجية الأولى، ويأتي بها إلى بلد زوجها الأول ويسلمها له.

١٨٢- فعل هذا الرجل المستعار فعلته التي فعل، وجاء بها وسلمها لزوجها الأول وأهلها لا يعلمون؛ وهذا هو السؤال الثاني: ما حكم هذا العقد الصوري في ظنهم؟ والسؤال الثالث: ما حكم وطئه لها، هل هو وطء مباح أم محرم أم وطء شبهة؟

١٨٣- لما رُزِق من الزوجة الجديدة بولد، شاء الله تعالى أن تغار الزوجة الأولى وتحمل وتلد أيضًا، وهذا أمر يتكرر في الضرات، تثور شهوتها غيرةً بعد ضعفها وتحمل، كما حصل لسارة مع هاجر عليهما السلام بفضل الله عليها وإعجازه سبحانه وتعالى. وهذا السؤال الرابع: ما حكم هذا الولد؟

١٨٤- لما جاءني السؤال استلبثت السائل، ولجأت بعد الله إلى الشيخ -حفظه الله- أرسلت له السؤال، وتفاجأت بالرد؛ لقد كان مفاجئًا وقاسيًا.

١٨٥- لماذا تتعرض لمثل هذه الأسئلة، أليس هناك جهات للفتوى؟ لماذا لا يكاتبونهم؟ وهذه مسألة فيها حقوق واثبات نسب واستباحة فروج! وهناك جرأة على أمور لم يكن لها أن تكون قبل أن يعرفوا حكمها.... ثم أنت قد درست معنا أحكام النكاح أركانه وشروطه، والطلاق صريحه وكنايته !

١٨٦- هذا ما استطعت أن أفهمه من ردود شيخنا؛ لأن الدرس كان مفاجئًا وكنت منصدمًا.

١٨٧- أنهيت المحادثة مع شيخنا -حفظه الله- وأنا في كرب عظيم، وبدأت أعاتب نفسي ما الذي أدخلني في هذا النفق؟ قلت لها : أنت تعلمين منهج الشيخ في الفتوى لماذا ولماذا...؟ لا أدري الآن ما هي اللماذات التي قرعتها بها....!

١٨٨- بت شر ليلة، حتى نمت فرأيت في المنام من ينتصر لي، ويقول: من يتصدى لنوازل وأسئلة المسلمين إذا لم يكن الشيخ محمد في طليعتهم؟ وهل هذه إلا وظيفته هو وأمثاله من العلماء؟ وهل فعلتَ أنت منكرًا وقد استجبت لأمر الله في قوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾؟ وما زال يطمئنني حتى أصبحت.

١٨٩- فرحت بالرؤيا وقلت: الآن حصحص الحق ! كاتبت الشيخ بما رأيت... لكنني أيضًا لم أخرج بشيء! بل تكسرت النصال على النصال:

نَصيبُكَ في حَياتِكَ من حَبيبٍ .. نَصيبُكَ في مَنامِكَ من خيَالِ

١٩٠- لقد بدأ الشيخ يسألني عن صفة ما رأيت، والشيخ له علم بالتأويل، ولي معه حادثة أخرى في الرؤى سأحكيها بعدُ، لكن دعونا نخلص من هذه الورطة!

١٩١- قال لي: صف لي من خاطبك في المنام! قلت: لم أرَ وجهًا، وإنما أسمع حديثه معي. قال: لو كانت الرؤيا لمَّةَ ملَك لرأيتَ من يخاطبك، وأما ما سمعت فلا يعدو حديثا حدثتك به نفسك لتأثرك وتعلقك بشيخك، ولا يمكن لي أن أترك منهجي وشيئًا أدين الله به من أجل ما رأيت.. أعرض عن هذا .

١٩٢- انتهت الواقعة، لكني لم خرج خالي الوفاض، بل عَظُمَ شأن الشيخ في قلبي، واحتطت لنفسي، واعذرته، فإن تدافع الفتوى مشهور من هدي السلف.. لكن السائلين لا يعذرون، ولا يرحمون، ولا يستغنون، والله المستعان.. وجزى الله شيخنا خيرًا على هذا الدرس:

ختمت على ودادك في ضميري .. وليس يزال مختوما هناكا

١٩٣- بقي ما وعدت به من ذكر تلك الرؤيا؛ فإني سمعت شابًا قبل سنين يناجي الشيخ وحده يقص عليه رؤيا رآها، فكان فيها وفي تأويل الشيخ لها فوائد وموعظة وذكرى:

١٩٤- قال الشاب: رأيت رسول الله على صورته، وكنت منشرحًا للرؤيا، وكان بين جماعة من الناس متهلل الوجه، كأنه يزرع أُنسًا؛ لهذا مرة ولهذا مرة، يقول الشاب: فاقترب مني فطمعت في السلام عليه وضمه إلى صدري، فمددت يدي فمد يده ثم وقع ما آلمني... لقد عاد وقبض يده، ولم يصافحني.

١٩٥- يقول: استيقظت مسرورًا بالرؤيا، خائفًا محزونًا مالذي وراءها، ولِمَ كفّ عن مصافحتي؟ وخشي على نفسه الانتكاسة، هكذا قال للشيخ -حفظه الله-، لا يسمعه مع الشيخ إلا أنا.

١٩٦- فاجأه الشيخ وسأله:

ما هو كسبك؟

فقال: راتبي وراتب زوجتي ..

قال الشيخ: أين هو؟ قال: في البنك.

قال الشيخ: أوصيك بأمرين: تورع عن مال زوجتك وأخرج دراهمك من البنك..!

قال: يا شيخ إنه في بنك ...!

قال الشيخ: ولو، ولا تتحدث بهذا عني.

١٩٧- ثم بين له الشيخ وجه تأويله؛ بأن اليد تتعلق بالكسب، ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾، ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس﴾، ﴿فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا.

١٩٨- انتهت، أما أنا فقد انتفعت والله بها، وحفظ المال ممكن في غير البنوك كما أمكن البشرية قبلنا، وكانت أموالهم أثقل وأنفس من أموالنا، ولكن الشيطان يخذلنا، وأظن الشيخ -حفظه الله- إنما نهاه عن التحديث بهذا لأنه مسلك لا يطيقه العامة، بل هو خاص بأهل الورع.

١٩٩- وأنا أتحدث به قبل موتي تأثُّمًا، ولأنني وجدت بركة ذلك، ولعل الله أن يقذفه في قلوب خاصة أوليائه، وكان الشيخ ناصر الدين كما كان يسميه شيخنا غالبًا -رحمهما الله- لا يفتي إلا بهذا، ويذكر قوله تعالى: ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

٢٠٠- ولهذا فلا أظن لشيخنا شيئا مدخرًا في البنك؛ لثلاث: لورعه وزهده وجوده. بل أشعرني بعض بني عمومته أن الديون ركبته بالملايين لسد حاجات القاصدين:

فتى كملت خيراته غير أنه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا

٢٠١- وأموال أكثرنا ليست بالكثرة التي نعجز عن حفظها، والحفظ له طرائق، منها:

أ- حفظها بالصدقة.

ب- بالقرض الحسن للثقات، فإذا علمت ثقة محتاجًا من إخوانك فأقرضه، ينتفع بالمال، وتسلم من تبعته إلى وقت الحاجة.

ج- ومنها: الدخول به في مضاربات شرعية، مع ثقات أيضا، يتاجرون به في مباح السلع..

٢٠٢- كان بعضهم يقول: ضعوها بين الكتب، فإن الشطّار إذا دخلوا البيوت أخذوا كل شيء إلا الكتب..جربوها أو غيرها: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا ۝ ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾.. ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا﴾. وأعيد فأقول: الكلام للخاصة من أهل الورع فقط.

٢٠٣- ربما أثقلت، وكنت أحدث نفسي أن أقف على رأس المئتين، لكن لا زال في الزوايا خبايا، وإيفاء الشيخ حقه متعذر، والله يغفر تجاوزنا وتقصيرنا، ولو جُعل الأمر للمحب فماذا تراه يقول؟

٢٠٤- شيخنا من أهل الله وخاصته، ولا نزكي على الله أحدًا، له عناية عظيمة بالقرآن الكريم، في استدلالاته، ومواعظه، ودروسه، وله سلسلة في تفسير سورة النور، تجدونها على الشبكة، كأنك تستمع للعلامة محمد الأمين في تفسيره، يتكلم على أسرار السورة والآية واللفظة، ولغتها وأحكامها ومواعظها...

٢٠٥- كان يتفق لنا في أوائل دروس الشيخ أن يصلي بنا العشاء، كانت هذه الصلاة زادًا وحدها في خشوعها وطمأنينتها وحسن صوته فيها ، كان كثيرا ما تكون تلاوته من أواخر النمل أو القصص أو الذاريات أو عبس، فيأخذ بالقلوب.. (وجوه يومئذ مسفرة...).    

٢٠٦- وأما مواعظ الشيخ فقد ارتوى منها الناس، وضربوا بعطن، وهي مبثوثة على العالمية، بلغت مشاهدات بعضها الملايين، ما على القاصد سوى أن يكتب اسم شيخنا، وتنبجس له ينابيعها، ثم يختار، وقد علم كل أناس مشربهم.

٢٠٧- على أني اذكر رافعيها بالله تعالى أن يجنبوها الآهات والمؤثرات، فإن النفوس السليمةتمجّها، والشيخ ربما أثّم فاعلها، تعظيمًا للوحي وما بني عليه من العلم والوعظ، وقد ذكر-حفظه الله-أن قوة الدين والوحي لا تكتسب بمثل هذا، بل هو قذائف بنفسه، مستغن عن غيره: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

٢٠٨- والشيخ واعظٌ من النسيج الأول، وعْظُ الوحي والصدق، لا وعْظُ القُصّاص الذين يخلقون ما يقولون، ويقولون ما لا يفعلون، ويفسدون أكثر مما يصلحون.... بل وعظُ شيخنا وعْظٌ على طراز مواعظ ابن الجوزي وأضرابه من الفقهاء والمحدثين.

٢٠٩- واجتماع الفقه والوعظ في العلماء طَّرِيفُ طرافة السحاب في الصيف، فقلَّ أن تجتمع رقة القلب وجفاف البحث والجدال الفقهي، أعني في الدرس والتأليف، وإلا فأصل موطن الخشية قلوب العلماء.

٢١٠- وبكاؤه الشديد في مواعظه هو بكاء الصادق في نصحه ووعظه، ولربما انفجر في أول موعظته حتى يُشفق عليه، استمعوا لمثل محاضرة: دمعة في الحج واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، أن تقول نفس يا حسرتى...

٢١١- دعاءُ الشيخ إذا دعا دعاءٌ كما أمر الله، بتضرع وخفية وخيفة، لا تعدٍّ فيه ولا صخب، أذكر دعاءه دائما كلما سمعت أدعية بعض الأئمة في القنوت والختمة.. تشفق عليهم، أين هم وأين عبادة الدعاء؟ اكتبوا على الشبكة: دعاء الشيخ الشنقيطي وأمنوا فقط.

٢١٢- كانت له شفقة في مواعظه وفتاويه على العصاة، فهو يُحسن ربطهم بالله تعالى، ويُعَظّم رجاءهم وحسن ظنهم فيه، ويحذّرهم أن يحول الشيطان أو غيره من الإنس بينهم وبين ربهم.

٢١٣- وشيخنا لم يتزوج بعدُ؛ لعلة، وشأن طائفة من الأنبياء والصحابة والأئمة، وما وراء ذلك من البحث فضول، وغايته ترك مباح، ومن قال باستحبابه فمتوقف على حال المؤمن، والنظر في المصالح والمفاسد.

٢١٤- ومما علّقناه عنه -حفظه الله- أن النكاح على أصل الإباحة، فتاركه تارك لمباح، وقد تعترية بقية الأحكام التكليفية الخمسة.

٢١٥- وأما قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا﴾ فكقوله : "وأتزوَّج النساءَ، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مِنِّي"، فإنه ردٌّ على من حرّمه أو استنكره على الأنبياء أو على نفسه، أو جعله فاضلًا في حق كل أحد.

٢١٦- بر الوالدين والشنقيطي كلمتان متلازمتان، فلا يذكر بر الوالدين ولا أسمعه في آية أو حديث أو كلام خاص أو عام إلا وتذكرت الشيخ، لفعله وقوله، فأما فعله فظاهر في حسن عهده لأبيه، وصدق دعائه له ولأمه، وهذا شيء يعرفه كل من اتصلت له سابقة مع الشيخ.

٢١٧- وكان وفيًا مع أمه في صحتها، ولمّا مرضت حبس نفسه معها، وترك الدروس، وكان يمرضها بنفسه، في البيت والمشفى.

٢١٨- ولما ماتت -رحمها الله ووالدينا- شهدنا جنازتها في الحرم المكي معه، واختار دفنها في المعلاة في جوار الصحابة، ولكثرة الزائرين والداعين.

٢١٩- وقد كانت جنازتها مشهودة من العلماء وطلاب العلم والمسؤولين والعامة، ببركة صلاحها وما أعانت عليه من علم زوجها وابنها ..

٢٢٠- أردت أن أركب معه ومعها في التي أقلّتهما من الحرم إلى المعلاة فاستحييت منها ومن الشيخ.

٢٢١- ولا يزال شيخنا يتردد على قبرها إلى اليوم، وما أكثر من حدثنا ممن رآه عند قبرها، ويوم دفنها ومع زحام الناس أطال الوقوف على قبرها داعيًا باكيًا ما كاد يغادر عنها.

٢٢٢- بل إن الشيخ يفرح بالباريّن ويأنس إليهم ويصلهم، ويبغض العاقين وينفر منهم، ولطالما حذر في دروسه ومواعظه من القطيعة والعقوق، ولربما حرج على العاق أن يخرج من مجلسه، وهذا شيء مشهور عن الشيخ حفظه الله.

٢٢٣- هناك كلمات لا أسمعها ولو في طائرة تطير بجناحين إلا تذكرت الشيخ:

الفقه- الإخلاص- بر الوالدين- الكرم- والسخاء- الدعاء- والتعلق بالله-حسن المعاملة مع الخلق.

٢٢٤- حبيبان إذا لقيتهما قبّلتُ كفيهما: أمي والشيخ محمد -حفظهما الله-، هذا شيء أفعله ويفعله غيري من طلاب الشيخ، لا على سبيل الالتزام والعادة، ولا على هيئة الخضوع والعبودية كما تفعله الطُرقية، بل قبلة إجلال وعرفان بالفضل.

٢٢٥- وهو أمر ربما أخذه عليه وعلينا بعض الجهال والجفاة، البعيدين شيئا عن أخلاق الإسلام ورقة أهله، وإن زعموه غيرةً على العقيدة.

 

٢٢٦- وهذا الخُلق أكثر شيوعًا في أهل المدينة النبوية، أظنه لرقة أهلها، وطيبتهم الرابية على غيرهم، وهو قليل في غيرها؛ لجفاء الطباع، ونفخةٍ في الصدور بالدين أو الدنيا.

٢٢٧- وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه مع النبي كما عند أبي داود وغيره، وفعلوه مع بعضهم في آثار متعددة، كأبي عبيدة مع عمر، وابن عباس مع زيد، وفي السير فعله جماعة باليد المجاهدة يد الفارس الكبير سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أخرج لهم كفًا بايع بها رسول الله كخف البعير فقبّلوها.

٢٢٨- وهذا خُلق رخص فيه أئمة زماننا الثلاثة، وقبلهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وإمام أهل السنة -رحمهم الله جميعا-.

٢٢٩- بل نص النووي -رحمه الله- على استحبابه، فقال: "وأما تقبيل اليد، فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه أو علمه أو شرفه وصيانته ونحوه من الأمور الدينية فمستحب، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته ونحو ذلك فمكروه شديد الكراهة".

٢٣٠- وفي الكشاف عندنا: "فيُباح تقبيل اليد والرأس تديّنًا وإكرامًا واحترامًا مع أمن الشهوة، وظاهره عدم إباحته لأمر الدنيا، وعليه يُحمل النهي".

٢٣١- كذلك يُكره إذا اُلتزم، أو صاحبه سجود على الكف، أو قُصد التبرك، أو خشي العالم على نفسه العلو والكِبر، أو خُشي عليه، وقد يصل إلى التحريم.

٢٣٢- يد الشيخ بل الشيخ كلُه إذا لقيته حسبته قد خرج من جونةِ عطار، رائحة الورد الطائفي لا تكاد تغادره:

تضوعَ منه الورد حتى كأنما .. ترجّلَ بالريحان رطباً ويابسا

٢٣٣- وكان يتحسس من العود والعنبر، لكن بعض المحبين يدهمه يطيّبه به وهو لا يدري، وكما يقول بعض الشيبان عندنا في القرية -وهو من الفصيح-: بعضُ البرِ عَوق.

٢٣٤- كان الشيخ يضع يده أمام فيه عند مناجاة غيره، أو إذا ازدحم حوله الطلاب، يكره أذيتهم، ويتقي بعض الأذى.

٢٣٥- والشيخ قليل الزيارة لطلابه وغيرهم، استزرته فقال: بلغت الدعوات -يومئذ- أكثر من مئتي دعوة، والعدل أحب إلي، ولا يتأتى إلا بأن يعذرني الجميع؛ فعذرناه.

٢٣٦- والاتصال كما تقدم يؤذيه للعلة، وأنا ممن يتحرج منه خشية إزعاجه، وحفاظًا على وقته، ودفعًا للأذى الذي يلحقه، لكن النفس تشتاق...

٢٣٧- أرسلت له مرة قول ابن عثيمين في إحدى رسائله لشيخه ابن باز -رحمهما الله-: "والحقيقة يا شيخ أنني أحب الاتصال بكم؛ لأن اتصالي بك يزيدني علماً وإيماناً"... فبادر واتصل:

على ذلك الوجه مني السلام .. ولا أوحش الله من مؤنسي

٢٣٨- كنا نستدرك ما يفوت من درسٍ عبر الأشرطة القديمة، كنا نختم عليها بالاسم، ونفهرسها حتى إذا طمع فيه طامع أو اُستعيرت وخرجت تأرز إرز الحية إلى جحرها كما دخلته أول مرة.

٢٣٩- ثم عَلِمَ الله أن فينا ضعفًا؛ فجاءت"السيديهات"، الواحد منها فيه عشرات الدروس، وكانت نعمة عظيمة أدهشت العقول حينئذ...

٢٤٠- والحال الآن كما ترون من فتح الباري، أَطَّتْ المواقع على الشبكة -والحمد لله- بالدروس والكتب، لا يفرط معها إلا محروم، اكتب فقط: دروس الشيخ الشنقيطي ثم ادعُهُنَّ يَأتينَكَ سَعيًا.

٢٤١- بل اليوم يتابع طلاب المشارق والمغارب الشيخ أو غيره من العلماء في لحظته، ويرسل سؤاله إليه وملاحظته، ويأتيه العلم مُتَّكئًا على أريكتِه.. فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

٢٤٢- على أني ذكرتُ قبل مدة أن الانتفاع لا يكون تمامًا على التي هي أحسن إلا إذا وضع الطالب القلم في إحدى يديه، وأسند الكتاب إلى ركبتيه، وعلق الفوائد والفرائد على طرته، وأما مجرد السماع فأنسُ ساعته وحسب.

٢٤٣- أربع والله وجدت بركتها في يومي وليلتي وأهلي ومالي؛ اذكرها دلالة ونصحاً: القرآن، والصلاة، وقرب أمي، وصلتي بالشيخ.

٢٤٤- أجلس مع أمي فأحدثها حديثًا يُطربها حتى تكشف عن ابتسامتها؛ ولَهَذا السحرُ والذي نفسي بيده أحبُّ إلي من إطلالة على شلالات طرابزون أو نياجرا التي يصورونها.. وأما إذا زدتُ وباسطتُها حدَّ القهقهة فهذا نعيم يشبه نعيم الجنة التي يتحدثون عنها.

٢٤٥- الوالد -رحمه الله- توفي بعد وفاة والد شيخنا بثلاث، أقول لأمي اليوم: ثلاثون سنة وتزيد والوالد إن شاء الله- يتمتع بالحوريات وأنتِ هنا !!! فتضحك وتدعو له وتهنئه...

٢٤٦- موازين الآخرة تُغيّرُ كلَ شيء... بينما يوم تزوج عليها واحدة في الدنيا كسّرت صحافاً كثيرة، كالصحفة التي كسرتها أمُّنا عائشة رضي الله عنها ولم تضمنها.

٢٤٧- جرى القلم بشيء لكن سأخبركم ما الذي أجراه، الذي أجراه أنني أود أن أقول: إن تعظيم الشيخ لوالديه وحديثه الأسيف عن بر الوالدين سيغير خارطة طريقك مع أمك وأبيك، فإن كانا حيين أحدهما أو كلاهما فأدرك حظك من السعادة.

٢٤٨- مما انتفعت به من الشيخ، رعاية حق أهل البيت النبوي، من السادة ذرية الحسن-رضي الله عنه-، أو من عامة الأشراف، وهذا شيء يُقصّر فيه العامة للجهل، وبعض أهل العلم للجفاء الذي أشرت إليه آنفا.

٢٤٩- كان شيخنا إذا لقي أحدًا منهم احتفى به،وأكرمه، وحفظ حق قرابتهم لرسول الله ، يتمثل قوله تعالى: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.

٢٥٠- ومما لا ينبغي أن يكون: أن يصبح أهل البدع كالرافضة وغيرهم أقرب إلى أهل بيت رسول الله منا، بل أهل السنة وأهل البيت بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، نتولاهم، ونغني فقيرهم، ونعرف قدرهم بلا غلو ولا تفريط.

٢٥١- نعطف على ذكريات الدرس، كان يحضره صبي من متلازمة داون، ربما زاحم وتعنّى وصافح الشيخ وتهلل له، كانت صورة تبعث الأنس، وتتنزل معها الرحمة والطمأنينة.

٢٥٢- ومنها ما فيه إحياء لما رَمَّ أو يُخشى أن يَرمَّ من أخلاق العلم: قام سعدٌ متعالما يورد الإبل ويستدرك ويشرح ويرجح بعد درس الشيخ!!!  كأننا سمعنا من يقول: ردوها عليَّ، ما هكذا تورد الإبل يا سعدُ ...

٢٥٣- كان يعلم أن الجمع الكبير الذي كان يجتمع للشيخ لم يجتمع إلا له، وأن الشيخ لا يرضى أن يستغله أحد، لكنها كانت فرصة أن نشهد غارة من غارات شيخنا المشهودة، كجلمود صخر حطه السيل من علِ، فكان مما قال: هلا جلس في بيته أو مسجده فينظر هل يُصغى له...

٢٥٤- الشيخ لم يقل هذا غيرة أو حسدًا، ولكنها الغيرة على العلم، فأي منهج هذا أن يتلقن طلابه منه شيئًا بالدليل ثم يأتي من يجعل عاليها سافلها في أذهانهم؟ هذا من أضر المناهج على الطلاب.

٢٥٥- وهذا التقريع منهج قد يسلكه العلماء مع هؤلاء الأغرار، يُحكى في سيرة شيخنا ابن باز -رحمه الله- مع حلمه الواسع: أن متعالمًا قام يتكلم في مجلسه، فقال الشيخ-رحمه الله-: اجلس اجلس عرفنا أن عندك علم، كأنه يقول له ولأمثاله:

قد يفتح المرء حانوتا لمتجره .. و قد فتحتَ لك الحانوت بالدين

٢٥٦- ومن أخطر العلل على طالب العلم أن يرى نفسه شيئا، وأن يتقحم بها على العلم والعلماء بكرة، وإن أعظم ما يمكن أن يوصى به المبتدئ أن يتريث، فإن خروجه في الضوء مع طرو عوده يعرضه لليَبَس ضحوة، واليابس لا ينبت بعدُ ولو كان في حميل السيل.

٢٥٧- ولا يمكن أن يعصم طالب العلم من هذا المزلق إلا الله، وأنا أحدث عن طالب من طلاب الشيخ، فلقد كان في قصته عبرة، يقول: كنت أخطب وأحاضر من سنوات قبل أن أجلس مجلس الشيخ، يقول: صدّرني الجهل، وناداني بالشيخ، وتشبعت زورا بشيء يقال له علم.

٢٥٨- وشاء الله أن يعرض للأمة عارض كالذي يعرض لها اليوم، يصلح مسرحًا للحديث... فقلت: سأتحدث.

٢٥٩- يقول: وبعد ذات درس لشيخنا في أول جلوسي عنده زوّرت شيئا في نفسي، وكنت أعلم أني لو تكلمت أطربت، ليس لشيء عندي ولكن لأن نفوس الناس في تلك الأيام هُيِّجت على هذا، قال: وشاء الله أن يمنعني لطفه وهيبة المجلس، لازلت أعمل لتلك النعمة أعمالًا أشكره سبحانه وتعالى عليها أن عصمني.

٢٦٠- يقول: لو تكلمت لما نطقت بعلم، ولا قمت بحكمة... وصرنا نرى أناسًا يتجرأون على العلم والعلماء والنوازل، ووددت لو أسمعتهم تبصر الرازي يوم قال: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". انتهى

٢٦١- وقد كان شيخنا يتابع ويتألم لما يحل بالمسلمين من نوازل، ويدعو لهم دعاءً مؤثرًا، وعلى الشبكة مقاطع شتى لهذا مع كل نازلة، فيها حثٌ على نصرة المظلومين بما يطاق وبأعظم سلاح وهو الدعاء، نذكر هذا حتى لا يزايد مزايد اليوم على العلماء فيه.

٢٦٢- وأنا أظن أنه من الغرور وقلة التوفيق أن يعتقد شابٌ يتفطر قلبه على إخوانه المسلمين أنه سبق العلماء إلى ذلك، هو يظن هذا لأنه يراهم لا يفعلون ما يريد ولا يقولون ما يهوى، ولو اعتقد أنهم يفعلون ما يريد الله، ويقولون ما تحمد عقباه لأعذرهم.

٢٦٣- وفي السيرة المحمدية مشاهد لو شهدها هؤلاء لربما قالوا في رسول الله بعض ما يقولونه اليوم في ورثته، كترك الأصنام حول الكعبة مدة، وترك إعادة بناء الكعبة، وترك المستضعفين في مكة يواجهون محنتهم إلا من الدعاء، وما جرى في صلح الحديبية، وإعراضه عن المنافقين.... الخ.

٢٦٤- وهذه المسألة وقف لها شيخنا -حفظه الله- مواقف مشهودة، هي مواقف مشايخه من أئمة زمانه: فتوجّع لإخوانه.. وانتصر فيها لحكمة العلماء.

٢٦٥- فكان مما يقول: لئن كان هؤلاء الشباب غيارى على الإسلام وإخوانهم المظلومين؛ فإن العلماء أشد غيرة، لكنهم لجموها بلجام حكمة العلم، فيتكلمون إذا كانت الكلمة خيرًا لهم وللمسلمين، ويعرضون إذا كان الإعراض خيرًا لهم.

٢٦٦- وهذه الموازنة بين المصالح والمفاسد لا يدركها على وجهها عامة الناس ولا طلاب العلم، وإنما تدرك بمنظار الرسوخ، وسلامة المنهج، وحكمة الحياة.

٢٦٧- وهو شيء رأيناه بأمات العيون في العقود الثلاثة الماضية، وقد تداعت فيها نوازل عظيمة بالمسلمين، طار فيها من طار من طلاب العلم، وصعّد فيها دعاةٌ لبسوا فيها تاج سلطان العلماء، ثم تكشف لكل منصف كيف كانت مواقف علماء الملة كهيئة كبار العلماء أعلم وأحكم وأسلم.

٢٦٨- ولذا فإن الكلمة التي يمكن أن تقال للشباب عند كل نازلة: تذكروا دائما قول سهل بن حنيف -رضي الله عنه- بعد صفين وقد انكشف غطاء الفتنة ورآه كل أحد بعد أن عصفت بمن عصفت حين هجومها، كان -رضي الله عنه- يقول ناصحًا كما في البخاري:

٢٦٩- "اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له".

٢٧٠- وأما لِما هذا الاسترسال؛ فلشيء أودُ أن أقوله، وهو: إن من أعظم مِنَنِ الشيخ على طلابه بعد منّة الله أن سلك بهم هذا المسلك العدل، فكان يمسك حُجز طلابه وعامة الشباب به، ولذا يندر أن تجد من طلابه -من فضل الله عليه وعليهم- من دبّ في فتنة.

٢٧١- وسير العلماء إنما تكتب لهذا، وإلا كانت حروفًا مقطعة، ألم تقرأوا آخر هذه الآية: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾.

٢٧٢- وشيئان أحوج ما يكون إليها المؤمن وطالب العلم خاصة في الفتن والنوازل: الهداية للحق والثبات عليه، وهذان الأمران تجدهما في القرآن ثم في سير الأنبياء وورثتهم، ففيهما: الهدى في ظلمات النوازل، وفيهما: الرحمة والثبات على الحق:

٢٧٣- ففي القرآن: قال سبحانه: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾، هذه الهداية، وقال: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا﴾، وهذا التثبيت.

٢٧٤- وفي القصص والسير تقدمت آية يوسف في الهداية، وفي التثبيت: قال سبحانه: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.

٢٧٥- نعود ونسرح في أفياء الدرس: الشيخ -حفظه الله- كان يكره ما يشوش عليه درسه، من الأطفال أو غيرهم، وربما قطعه لذلك، ويكره اشتغال الطالب ولو بالسواك في مجلس العلم عنه.

٢٧٦- لبّسَ علينا ذات مرة بعض الرافضة في مسجد عائشة- رضي الله عنها- بهتافاتهم البدعية- لا أدري ما الذي يجعلهم يترددون أحيانًا على هذا المسجد المبارك مع براءة عائشة- رضي الله عنها- منهم- على كل حال هكذا كان، فقال الشيخ: من هؤلاء؟ قطع الله دابرهم، ثم أمر بعض الحاضرين أن يزجرهم.

٢٧٧- كان أحظانا بالشيخ في درس جدة أخٌ من السودان نسيتُ اسمه، يعمل في التسجيلات، يصافح الشيخ كل درس ويهيئ له اللاقط، ويبدأ التسجيل، سيكون بنيته شريكا في هذه الدروس التي حفظها للأمة هو وأمثاله في مكة والمدينة وغيرهما.

٢٧٨- من وفاء الشيخ لأهل الفضل أن درسه في جدة كان ولا زال في جامع الملك سعود، ولقد ضاقت مواقفه وباحاته بسيارات الطلاب، وطُلب من الشيخ تغيير المسجد فامتنع وفاء للملك سعود، ذكر أن له يدا على والده -رحمهم الله- فأراد ألا ينقطع أجره.

٢٧٩- وكانت بركة الشيخ ودرسه في جدة تعم أهل المحال في طريق المدينة الذي يقع عليه المسجد، وعلى الباعة الذين تخرج من الدرس إليهم وكأنما أنت داخل سوق سبت شمران أو خميس ناخس، تتبضع من مطعوماتهم وملبوساتهم وأجهزتهم وغيرها.

٢٨٠- سبت شمران سوق شمران يوم السبت في تهامة، وللعرب أسواق يجعلونها على الأيام، هكذا كانوا يسمونها، ثم رأيت من المسلمين في العالم من نحا نحوهم، زرت في وفد الجامعة قديمًا جامعة الإمام أبي حنيفة في دوشنبه عاصمة طاجاكستان، أخبرنا مدير الجامعة هناك أن معناها: سوق الاثنين "شنبيه" سوق، و"دو" اثنين.

٢٨١- كأننا ذهبنا إلى "المسلمون في العالم مشاهد ورحلات" للشيخ العبودي، لكن لا بأس، شيء ندافع به الرتابة ونعود.

٢٨٢- وفي سيرة الشيخ شيء مبارك قد لا يُدرى عنه، كان الشيخ يلقي الدرس في جدة ويُنقل عبر الهاتف إلى مساجد في مدن أخرى، كنا في الصيف نأتي أبها نزهة، وبين المغرب والعشاء نتحلق حول سماعات مسجدٍ هناك أظنه جامع الملك فيصل فنتابع الدرس، هذا من مسايرة التقنية، وهو البث الذي سبق إنترنت اليوم.

٢٨٣- كان الشيخ في الدرس ينظر ساعة ركبت في قبلته وظهور الطلاب، فإذا حان وقت أذان العشاء صام عن الدرس، ولفّ ناصيته وعينيه في قبضة يده، وأطرق حياء وتخشعا، وتابع المؤذن، ثم استأنف في الفتاوى إلى الإقامة.

٢٨٤- وكان بعض الطلاب يتجرأ على الشيخ في هذه الإطراقة ويتسور محراب سكينته، ويُسَارُّهُ بسؤال في أذنه، فإذا انتهى السائل من سؤاله طلب الشيخ من السائل أن يدني أذنه فيناجيه بالجواب، ولربما أعاد السائل وأعاد الشيخ، حتى يفرغ.

٢٨٥- ولعل هذا داخل في تفضيل العلم على نافلة العبادة؛ لتعدي النفع، فإذا فرغ من السائل استأنف متابعة المؤذن والدعاء قضاء، وكان الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- يفتي بهذا، وقد رأيته منه في بعض دروسه، أو إذا شُغل بالهاتف أو السائلين.

٢٨٦- وفي أخريات الأيام صار طول الجلوس يشق على الشيخ؛ فيتعجل الخروج قبل أذان العشاء فرارًا من النهي، فإذا خرج انفض الطلاب خلفه، حتى ترى سواري المسجد بعده كأنهن اجتمعن في مأتمِ حبيب، يبكين فراقه وساحاتٍ خلت كَأَن لَم تَغنَ بالمغرب..!

٢٨٧- للشيخ طالبات لا نعلمهن الله يعلمهن، يحضرن دروسه في مكة والمدينة وجدة وغيرها؛ اكتسين بحلة العلم، وتشبعن بمواعظه ونصائحه وفتاويه، عدد كبير من حملة الدواة والكاغد غير من يشهدن طهرة الدرس، وبركة الجمع، ودعوة المسلمين.

٢٨٨- وكان للحُيَّضَ مكان يعتزلن فيه المصلى ويسمعن الدرس.

٢٨٩- كانت السكينة تَلفُ المكان على خلاف المعهود، كان فيهن من تجمع اسئلتهن وتبعث بها للشيخ، وأخرى تُصّمت المكان، وتحافظ على روحانيته.

٢٩٠- وخطاب المرأة حاضر في همّ الشيخ وفي دروسه ومحاضراته، سواء في الأحكام المتعلقة بهن في المتون العلمية، أو في شروح النصوص، أو في محاضرات عامة لهن.

٢٩١- وله محاضرات خاصة بالمرأة، اسمعوا واسمعن منها على الشبكة:

* أحكام المرأة المسلمة

* قضايا تهم المرأة

* صلاح المرأة المسلمة

* من سير الصالحات، وغيرها.

٢٩٢- شيخنا ضابط لمذهبين دراسة وتدريسًا: مذهب مالك، وأحمد -رحمهما الله-، وأتمنى لو كان في الحرمين كراسٍ لتدريس متن في كل مذهب من المذاهب الثلاثة مع مذهب أحمد-رحمهم الله- وأما لماذا؟

٢٩٣- فقد رأيت في الجامعة عندنا وفي الحرم منْ نَفَر إلى بلاد الحرمين طلبا للعلم،وحين يعود إلى بلده لا يُسمع منه،ولا يستطيع أن يقيم درسًا، أو ينشر حكمًا ليس على أصول مذهبه، فلو تلقى مذهب بلده مع مذهب أحمد لانتفع ونفع، والتمذهب ضرورة في أول طريق طالب العلم حتى يُؤنس قوله ثم ينعتق للدليل.

٢٩٤- عُين شيخنا بأمر ملكي عضوًا في هيئة كبار العلماء في صفر عام ١٤٣٠هـ، وكان قد ترك التدريس في الجامعة قبله بسنوات؛ لا زهدًا في بث العلم، بل طلبًا لتكثيف الدروس خارجها، فإن دروس المساجد أنفع، وطلابها أصدق، وهكذا كان.

٢٩٥- وأُفُق الشيخ أرحب، وعلمه أوسع من قاعة الجامعة، وشأنه مطلق والكلية مقيدة برتابة النظام، وبقيود لا تصلح لمثله.

٢٩٦- وقاصدو الجامعة يكثر فيهم الغثُّ من طالبي الشهادة، وهم في الدراسات العليا أشد حبا لها وتغريرًا بها، وهي لا تستلزم جودة تحصيل أو ضبط علم، وكان الشيخ الكبيسي الذي ذكرناه قبلُ ينقل عن والد شيخنا أنه وصفها بشهادة الزور، وتحكى أيضا عن العلامة الأمين وعن غيرهما -رحم الله الجميع.

٢٩٧-ومن النصح أن يقال للجيل: دروس الجامعة لا تعطي علما وإنما مفاتيح له، وما يتلقاه الطلاب فيها لا يعدل شيئًا مما يأخذونه عن مشايخهم في المساجد، أظنه بركة المكان، وصفاء القصد.

٢٩٨ - وأعرف طالبًا من طلاب الشيخ قد منّ الله عليه فقيّدَ قريبًا من ألفي شاردة علمية سوى مسائل الأبواب، أكثر مناهلها عطاءً هي دروس شيخنا، ومعها شيء من فوائد دروس غيره، وجرد المطولات.

٢٩٩- والشيخ لم يأذن له بنشرها بعدُ، لكن أشرنا إليها لتنبيه النبيه إلى فضل وبركة علم المساجد على علم المقاعد، فلا يمكن لطالب في الجامعة أن يصدر بهذا العدد من الشوارد من دروسها.

٣٠٠- بقي أن يقال: لشيخنا ترجمة قديمة على الشبكة كتبها أحد طلابه، تبتَلَ في محراب شيخه، وأتى بلون آخر من خبره.

٣٠١- ولوالد شيخنا-رحمه الله-أيضًا عليها ترجمة، فيها طرف من حياته الحافلة وطلابه، ورحلاته بين شنقيط والمدينة وجدة ومكة والرياض دراسةً وتدريسًا في المدارس والمعاهد والجامعة والحرم، وذكر بعض الذين أخذوا عنه ومنهم العلامة عبدالمحسن العباد، وعطية محمد سالم وغيرهما.

٣٠٢- وقد خلّف الشيخ الوالد -رحمه الله- ثلاثًا لا أظن أجره ينقطع معها إلى يوم القيامة، وهي: * علم ينتفع به * وولد صالح  * ومكتبة كبيرة، لم أرها لكن يذكرها خاصة شيخنا.

٣٠٣- ثم أما بعد: فقد اختار القلم أن يترجّلَ بعد أن ترجّلَ بعقود من عطور الذكريات،لا تقبل النقص بل التوشيح والزيادات،لكن اكتفي بها شفقة على الشيخ، وحتى لا أُنسب إلى الإسراف،وإن بقي في العمر بقيةً دبَّجتها من حلية الأولياء:

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها .. عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

٣٠٤- واعتذر لمن ثَقُل عليه بعض الإغراب، فإنَّ اختلاط لغة الفقه بالأدب قد لا يستساغ، حتى كان من مآخذ بعض المناقشين في مناقشتهم عليَّ، لكن هكذا كان، وهو شيء قد غَلبَ، ثم إن سمو المُتَرجم له يتطلبه.

٣٠٥- لم أصنع لشيخنا بهذه الخواطر مجدًا، وإنما أشرفتُ بالمحب على رَوْضَة فضائله،ومَرْجِ شمائله، ووالله ما ظننت أن تبلغ هذا المبلغ، ولا أدري والذي برأ النسمة كيف سال حبرها؛ إلا أن يكون دعاء الشيخ وبركته، وإني لأرجو بعد ذلك ثواب الآخرة، ﴿ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.

٣٠٦- وقد جاءت عفو الخاطر، وبعضُها كتبته وساهر يترصدني على جناح السفر، وعامتها كُتِبتْ في محراب بيتنا في باشوت الأخضر - شمران، الذي يشتاق لشيخنا في فسحة الإجازة إن شاء الله.

٣٠٧- جزى الله أوفى الجزاء من كُتبتْ فيه، ومن كتبها، أو قرأها، أو حملها، أو حملت إليه، أو دلَّ عليها، أو نشرها، أو أعان على نشرها.

٣٠٨- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والسلام مثله ومثليه، وضعفه وأضعافه على الشيخ يوم ولد، ويوم درس، ويوم درّس، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًا...

رشَّ السماءُ طريقَكم .. أيُحبُّكم حتى المطر !

في القلبِ منزلُكم وبين ..السَمع منا والبَصر

٣٠٩- وتمت ثلاثَ مئةٍ وازدادت تسعًا؛ ووالله لَفِراقُ ذكرِ شيخنا وفَقدهُ أشد من وقع الحسام المهند:

أَشكو إِلى اللَهِ فَقدَ السَيفِ مُنصَلِتاً ... وَاللَيثِ مُهتَصِراً وَالغَيثِ مُنسَكِبا

وَالعِلمِ وَالحِلمِ وَالنَفسِ الَّتي بَعُدَت ... عَنِ الدَنيّاتِ وَالصَدرِ الَّذي رَحُبا.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply