تذكر قبل المعصية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن المعاصي هي الداء العضال, الذي يفتك بالإنسان, فيجعله يخسر دنياه وآخرته, ولذا يجب على كل منا أن يقف مع نفسه وقفة حساب صادقة, وأن يتذكر الآثار السيئة للمعاصي في الدنيا والآخرة, وبين يديك أخي الكريم وقفات موجزة يجب علينا أن نتذكرها قبل الإقدام على المعصية.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(1) تذكر قبل المعصية أن الله تعالى يراك ويسمعك حيثما كنت:

قال الله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَسَمَاعِهِ كَلَامَهُمْ، وَرُؤْيَتِهِ مَكَانَهُمْ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا. (تفسير ابن كثير جـ 8 صـ 41)

وقال سُبحانه: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19)
 قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): قَوْلُهُ: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، دَقِيقِهَا وَلَطِيفِهَا؛ لِيَحْذَرَ النَّاسُ عِلْمَهُ فِيهِمْ، فَيَسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقّ الْحَيَاءِ، ويَتَّقُوهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَيُرَاقِبُوهُ مُرَاقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ وَإِنْ أَبْدَتْ أَمَانَةً، وَيَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ خَبَايَا الصُّدُورِ مِنَ الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ
. (تفسير ابن كثير جـ 7صـ 137)

وقال جَلَّ شأنه: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)
 روى أحمدُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)  (المجادلة:1)  (حديث صحيح)(مسند أحمد جـ40 صـ288 ـ حديث: 24195)


ابنة بائعة اللبن:

نهى أميرُ المؤمنين عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، عَن مذق (خَلْط) اللَّبن بِالْمَاءِ فَخرج ذَات لَيْلَة فِي حَوَاشِي الْمَدِينَة فَإِذا بامرأة تَقول لابنة لَهَا:أَلا تمذقين (تخلطين) البن، فَقَالَت الْجَارِيَة: كَيفَ أمذق وَقد نهى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن المذق فَقَالَت الأم: قد مذقَ النَّاس فامذقي، فَمَا يدْرِي أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَت الفتاة: إِن كَانَ عمر لَا يعلم فإله عمر يعلم،مَا كنت لأفعله وَقد نهى عَنهُ،فَوَقَعت مقالتها من عمر، فَلَمَّا أصبح دَعَا عَاصِمًا ابْنه فَقَالَ: يَا بني اذْهَبْ إِلَى مَوضِع كَذَا وَكَذَا فاسأل عَن الْجَارِيَة ووصفها لَهُ فَذهب عَاصِم فَإِذا هِيَ جَارِيَة من بني هِلَال، فَقَالَ: لَهُ عمر: اذْهَبْ يَا بني فَتَزَوجهَا فَمَا أحراها أَن تَأتي بِفَارِس يسود الْعَرَب، فَتَزَوجهَا عَاصِم بن عمر، فَولدت لَهُ أم عَاصِم بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب فَتَزَوجهَا عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم،فرزقه الله تعالى منها عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل.

(سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ19: صـ20 )

* راود رَجُلٌ امرأةً عن نفسها (أي أراد أن يرتكب معها الفاحشة) في فلاة (صحراء) ليلاً، فأبت (رفضت) فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب, قالت: فأين مكوكبها! (تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب الحنبلي صـ40 )

* أَكْرَه رَجُلٌ امرأة ًعلى نفسها, وأمرها بغلق الأبواب فقال لها: هل بقى باب لم تغلقيه ؟ قالت: نعم الذي بيننا وبين الله , فتركها ولم يتعرض لها.   (تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب الحنبلي صـ41:40 )

* سُئِلَ الجنيد (رحمه الله): بما يُستعان على غض البصر ؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى من تنظره. (تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب الحنبلي صـ41)

* يقول الشاعر:

إذا خلوت الدهر يوماً لا تقل خلوت * ولكن قل عَليَّ رقيبُ

ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما تخفي عليه يغيبُ

(2) تذكر قبل المعصية أن لله ملائكة تكتب أقوالك وأفعالك:

قال الله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:30)  وقال سُبحانه: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله):

قَوْلُهُ: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) أَيْ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ، وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أَيْ: مِنْ أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا) أَيْ: يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أَعْمَارِنَا (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا) أَيْ: لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا وَإِنْ صَغُرَ (إِلا أَحْصَاهَا) أَيْ: ضَبَطَهَا، وَحَفِظَهَا.

وَقَوْلُهُ: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَوَ شَرٍّ.  (تفسير ابن كثير جـ5 صـ166:165)

وقال سُبحانه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف:80)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): قَوْلُهُ:(سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) أَيْ: سَرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ، (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أَيْ: نَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَيْضًا يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا.  (تفسير ابن كثير جـ7صـ241)

وقال جَلَّ شأنه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): قَوْلُهُ (مَا يَلْفِظُ) أَيِ: ابْنُ آدَمَ (مِنْ قَوْلٍ) أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ (إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعْتَدٍ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)  (الِانْفِطَارِ: 10:12)  (تفسير ابن كثير جـ7 صـ398)

وقال سُبحانه: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية: 29)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله):قَوْلُهُ: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَكُمْ عَلَيْكُمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رضي اللهُ عنهما، وَغَيْرُهُ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، ثُمَّ تَصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُقَابِلُونَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا قَدْ أُبْرِزَ لَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ، مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَا يَزِيدُ حَرْفًا وَلَا يَنْقُصُ حَرْفًا، ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (تفسير ابن كثير جـ7 صـ271)

(3) تذكر قبل المعصية أن المعصية هي التي أخرجت آدم وزوجه من الجَنة:

قال الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 35: 37 )      

 وقال سُبحانه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طـه:121: 122 )

(4) تذكر قبل المعصية أن المعاصي ظلمات بعضها فوق بعض:

إن القلب يمرض ويضعف ويظلمُ بسبب الذنوب والمعاصي , وقد يموت بالكلية.

روى مسلمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ بنِ اليمان قال سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا (منكوساً) لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.  (مسلم حديث 144)

قَوْلُهُ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ) أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى.

قَوْلُهُ :(كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا.

فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.

 قَوْلُهُ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا)

مَعْنَى أُشْرِبَهَا: أيْ دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ.

 قَوْلُهُ :(نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ) نُقِطَ نُقْطَةً.

قَوْلُهُ : َنْكَرَهَا) أَيُّ رَدَّهَا.

 قَوْلُهُ : (عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ)

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ):لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ :(أَسْوَدُ مُرْبَادًّا) بَيَاضٌ قليلٌ جداً فِي سَوَادٍ كَثيرٍ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ):شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ،الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.

 فائدة الحديث:

الرَّجُلُ إِذَا اتَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ، وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.  (مسلم بشرح النووي جـ1 صـ452:450)

(5) تذكر قبل المعصية أن المعاصي سبب انتقام الله تعالى من عباده وزوال نعمه عنهم:

قال سُبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة: 78: 80 )

قال اللهُ تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 36: 40 )

وقال جَلَّ شأنه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سبأ: 15: 17)

وقال اللُه تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112 )

قَالَ الإمامُ ابنُ جرير الطبري (رحمه الله): مَثَّلَ اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ الَّتِي سُكَّانُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ هِيَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَكَانَ أَمْنُهَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَعَادَى وَيَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُحَارَبُونَ فِي بَلَدِهِمْ، فَذَلِكَ كَانَ أَمْنُهَا وَقَوْلُهُ: (مُطْمَئِنَّةً) يَعْنِي: قَارَّةٌ بِأَهْلِهَا، لَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَى النَّجْعِ كَمَا كَانَ سُكَّانُ الْبَوَادِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) يَقُولُ: يَأْتِي أَهْلَهَا مَعَايِشُهُمْ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) يَعْنِي: مِنْ كُلِّ فَجٍّ مِنْ فِجَاجِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَمِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِيهَا.

وَقَوْلُهُ: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَذَاقَ اللَّهُ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ لِبَاسَ الْجُوعِ، وَذَلِكَ جُوعٌ خَالَطَ أَذَاهُ أَجْسَامَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَلِكَ لِمُخَالَطَتِهِ أَجْسَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ لَهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْجُوعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَالْجِيَفَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعِلْهِزَ: الْوَبَرُ يُعْجَنُ بِالدَّمِ وَالْقُرَادِ يَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا الْخَوْفُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَيَجْحَدُونَ آيَاتِهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ. (تفسير الطبري جـ 17 صـ: 309 )

 (6) تذكر قبل المعصية أن الموت يأتي فجأة:

 قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34)

روى البخاريُّ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ "  (البخاري حديث: 4697)

وقال سُبحانه:(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء:78)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله):قَوْلُهُ: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ) أَيْ: أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ،وَلَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ) (الرَّحْمَنِ: 26: 27)

وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أَيْ: حَصِينَةٍ مَنِيعَةٍ عَالِيَةٍ رَفِيعَةٍ. (تفسير ابن كثير جـ2صـ360)

(7) تذكر قبل المعصية الحسرة والندامة على ارتكاب المعاصي عند الموت ويوم القيامة:

قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99: 100 )  وقال سُبحانه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً)  (الفرقان:27: 29 )
قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله):يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَدَمِ الظَّالِمِ الَّذِي فَارَقَ طَرِيقَ الرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، الَّذِي لَا مرْية فِيهِ، وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ سَبِيلِ الرَّسُولِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَدمَ حيثُ لَا يَنْفَعُهُ النَدَمُ، وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ حَسْرَةً وَأَسَفًا
. (تفسير ابن كثير جـ6صـ108)

وقال جَلَّ شأنه: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) (الفجر: 21: 26) قَوْلُهُ تعالى:(يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)

قَالَ الإمامُ ابنُ جرير الطبري (رحمه الله):يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ تَلَهُّفِ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَنَدُّمِهِ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تُوَرِّثُهُ بَقَاءَ الْأَبَدِ، فِي نَعِيمٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ لِحَيَاتِي هَذِهِ، الَّتِي لَا مَوْتَ بَعْدَهَا، مَا يُنَجِّينِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَيُوجِبُ لِي رِضْوَانَهُ. (تفسير الطبري جـ 24 صـ:421 )

(8) تذكر قبل المعصية الموت وسكراته:

 قال الله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (قّ:19)
قال الإمامُ القرطبي (رحمه الله): قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أَيْ شِدَّتُهُ. (تفسير القرطبي جـ17 صـ12)

قال الإمامُ القرطبي (رحمه الله):قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أَيْ يُقَالُ لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ذَلِكَ مَا كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ وَتَمِيلُ عَنْهُ. (تفسير القرطبي جـ17 صـ13)

وقال سُبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185)

وقال جلَّ شأنه: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام:93)

قَوْلُهُ تعالى: (فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) أَيْ: فِي سَكَرَاتِهِ وكُرُباته.  (تفسير ابن كثير جـ3 صـ302)

وقال تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ)  (الواقعة:84:83)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): قَوْلُهُ:تعالى:(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أَيْ: إِلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُكابده مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ. (تفسير ابن كثير جـ7 صـ548)

 قال سبحانه: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) (الواقعة27:26)

قَالَ الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله):يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ. (تفسير ابن كثير جـ8 صـ281)

* روى البخاريُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ (وعاء مِن الجلد) أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ لسَكَرَاتٍ.   (البخاري حديث 6510 )

 قَوْلُها: (فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ) إِيرَادُ اليدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ دَليلٌ على شدة ارتفاعِ حَرَارَتِهِ .

قِيلَ: وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ يَفِيقُ.

قَوْلُهُ :(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، أَيِ: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.

قَوْلُهُ :(إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ): جَمْعُ سَكْرَةٍ أَيْ: شَدَائِدَ وَمَشَقَّاتٍ عَظِيمَاتٍ مِنْ حَرَارَاتٍ وَمَرَرَاتٍ طَبِيعِيَّاتٍ،حَتَّى لِلْأَنْبِيَاءِ،وَأَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ،فَاسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الْحَالَاتِ،وَاطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ تَهْوِينَهُ لِلْأَمْوَاتِ.

(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 9 صـ 3846)

(9) تذكر قبل المعصية سؤال الملكين في القبر:

قال اللهُ تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27)

 روى النسائيُّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ )قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.  (حديث صحيح) (صحيح النسائي للألباني جـ 2 صـ 74)

روى أبو داودَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَقَالَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ قَالَ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ:مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ:مَا دِينُكَ؟فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولَانِ وَمَا يُدْرِيكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الْآيَةُ.قَالَ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا. قَالَ: وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ:وَإِنَّ الْكَافِرَ فَذَكَرَ مَوْتَهُ قَالَ وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ: فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا قَالَ: ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ.

 (حديث صحيح ) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3979)

(10) تذكر قبل المعصية أن المعاصي سببُ عذاب القبر:

روى الشيخانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ،وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. (البخاري حديث 1378 / مسلم حديث 292 )

وفي رواية للبخاري (يُعَذَّبَانِ،وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ،وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ) (البخاري حديث: 6055)

قَوْلُهُ (وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ)

قَالَ الإمامُ النووي (رحمه الله):ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ تَأْوِيلَيْنِ:

 * أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي زَعْمِهِمَا.

 * وَالثَّانِي:أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرٍ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا.

قَالَ الإمامُ النووي (رحمه الله): سَبَبُ كَوْنِهِمَا كَبِيرَيْنِ أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنَ الْبَوْلِ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ فَتَرْكُهُ كَبِيرَةٌ بِلَا شَكٍّ وَالْمَشْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالسَّعْيُ بِالْفَسَادِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ r:كَانَ يَمْشِي، بِلَفْظِ كَانَ الَّتِي لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ غَالِبًا.

(مسلم بشرح النووي جـ2 صـ205)

(11) تذكر قبل المعصية يوماً يجعلُ الولدانَ شيباً:

روى مسلمٌ عَنْ أَبِي سَعِيد ٍالخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ:وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ.

 (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ). (مسلم حديث 222 )

قَالَ الإمامُ النووي (رحمه الله):قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِآدَمَ عليه السلام (أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ) الْبَعْثُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَبْعُوثِ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهَا وَمَعْنَاهُ مَيِّزْ أَهْلَ النَّارِ مِنْ غَيْرِهِمْ.  (مسلم بشرح النووي جـ2 صـ100)

(12) تذكر قبل المعصية أن المعاصي تُسَوِّدُ وجوه أصحابها يوم القيامة:

قال الله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (آل عمران: 106 )

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ البِدْعَة وَالْفُرْقَةِ. (تفسير ابن كثير جـ3 صـ139)

وقال سُبحانه: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) (عبس: 40: 41 ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أَيْ: يَغْشَاهَا سَوَادُ الْوُجُوهِ. (تفسير ابن كثير جـ14 صـ256 )

(13) تذكر قبل المعصية أن المعصية تمنعك أن تستظل بظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله:

روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. (البخاري حديث 1423 / مسلم حديث 1031)

قَوْلُهُ : (إِمَامٌ عَادِلٌ): أيْ مَنْ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي ظِلِّهِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ بِنَظِيرِهِ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ السَّبْعَةِ فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ ظِلِّهِ، (وَشَابٌّ نَشَأَ) أَيْ: نَمَا وَتَرَبَّى (فِي عِبَادَةِ اللَّهِ) أَيْ: لَا فِي مَعْصِيَتِهِ، فَجُوزِيَ بِظِلِّ الْعَرْشِ لِدَوَامِ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِ (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِمِثْلِ الْقِنْدِيلِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْمُلَازَمَةِ بِقَلْبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ، فَجُوزِيَ لِدَوَامِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَمُلَازَمَتِهِ بَيْتَهُ بِظِلِّ عَرْشِهِ. (وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ) أَيْ: لِلَّهِ أَوْ فِي مَرْضَاتِهِ (اجْتَمَعَا عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْحُبِّ فِي اللَّهِ إِنِ اجْتَمَعَا (وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) أَيْ: إِنْ تَفَرَّقَا يَعْنِي يَحْفَظَانِ الْحُبَّ فِي الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ. وَقِيلَ: التَّفَرُّقُ بِالْمَوْتِ. (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الرِّيَاءِ، أَوْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أَيْ: سَالَتْ وَجَرَتْ دُمُوعُ عَيْنَيْهِ، فَجَازَاهُ اللَّهُ عَلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ): أَيْ: إِلَى الزِّنَا بِهَا (ذَاتُ حَسَبٍ) الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَقِيلَ: الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ لَهُ وَلِآبَائِهِ (وَجَمَالٍ) أَيْ: فِي غَايَةِ كَمَالٍ (فَقَالَ) بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ عُقُوبَتَهُ أَوْ سُخْطَهُ،وَمَنْ خَافَ سَلِمَ (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)

(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 2 صـ 594)

 (14) تذكر قبل المعصية أن ما يصيبك من العرق يوم القيامة يكون بمقدار ما ترتكبه من المعاصي:

روى الترمذيُّ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا المِقْدَادُ بنُ الأسود،صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ اثْنَيْنِ» - قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي أَيَّ الْمِيلَيْنِ عَنَى؟ أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ، أَمُ الْمِيلُ الَّذِي يُكْحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ - قَالَ: «فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي العَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ،وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا» فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ: أَيْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا: (حديث صحيح ) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1973 )

قَوْلُهُ :(أُدْنِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ قُرِّبَتْ الشَّمْسُ

قَوْلُهُ : (فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ) أَيْ تُذِيبُهُمْ مِنَ الصَّهْرِ وَهُوَ الْإِذَابَةُ.

قَوْلُهُ  (وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ) الْحَقْوُ الْخَصْرُ وَمِشَدُّ الْإِزَارِ.

 قَوْلُهُ :(وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا) الْإِلْجَامُ إِدْخَالُ اللِّجَامِ فِي الْفَمِ.وَالْمَعْنَى يَصِلُ الْعَرَقُ إِلَى فَمِهِ فَيَمْنَعُهُ مِنَ الْكَلَامِ كَاللِّجَامِ.

شبهة والرد عليها:

قال ابْنُ الْمَلَكِ (رحمه الله):إِنْ قُلْتَ:إِذَا كَانَ الْعَرَقُ كَالْبَحْرِ يُلْجِمُ الْبَعْضَ فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَى كَعْبِ الْآخَرِ؟

 قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِفَاعًا فِي الْأَرْضِ تَحْتَ أَقْدَامِ الْبَعْضِ أَوْ يُقَالُ يُمْسِكُ اللَّهُ تَعَالَى عَرَقَ كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسَبِ عَمَلِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا أَمْسَكَ جِرْيَةَ الْبَحْرِ لِمُوسَى عليه السلام .

قال القارىء (رحمه الله): الْمُعْتَمَدُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ كُلَّهُ عَلَى وَفْقِ خَرْقِ الْعَادَةِ.أَمَا تَرَى أَنَّ شَخْصَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا وَيُنَعَّمُ الْآخَرُ وَلَا يَدْرِي أَحَدُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ.وَسَبَبُ كَثْرَةِ الْعَرَقِ تَرَاكُمُ الْأَهْوَالِ ودنو الشمس من رؤوسهم وَزَحْمَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.

(تحفة الأحوذي بشرح الترمذي ـ للمباركفورى جـ7 صـ89)

(15) تذكر قبل المعصية أن الشيطان سيتبرأ مِن وساوسه لك بالمعاصي:

قال الله تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (إبراهيم: 22 )

قَالَ الإمامُ ابنُ جرير الطبري (رحمه الله):يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:وَقَالَ إِبْلِيسُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ، يَعْنِي لَمَّا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَاسْتَقَرَّ بِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَرَارُهُمْ:إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ أَيُّهَا الْأَتْبَاعُ النَّارَ، وَوَعَدْتُكُمُ النُّصْرَةَ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَعْدِي، وَوَفَّى اللَّهُ لَكُمْ بِوَعْدِهِ (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ فِيمَا وَعَدْتُكُمْ مِنَ النُّصْرَةِ مِنْ حُجَّةٍ تَثْبُتُ لِي عَلَيْكُمْ بِصِدْقِ قَوْلِي؛(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ عَنِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُهُ إِلَّا أَنَّهُ أَحْمَقُ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنْ دَعَوْتُكُمْ (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) يَقُولُ: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى طَاعَتِي وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِدُعَائِي(فَلَا تَلُومُونِي) عَلَى إِجَابَتِكُمْ إِيَّايَ {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} عَلَيْهَا (مَا أنا بِمُصْرِخِكُمْ) يَقُولُ: مَا أَنَا بِمُغِيثِكُمْ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) وَلَا أَنْتُمْ بِمُغِيثِيَّ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَمُنَجِّيَّ مِنْهُ {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: إِنِّي جَحَدْتُ أَنْ أَكُونَ شَرِيكًا للَّهِ فِيمَا أَشْرَكْتُمُونِي فِيهِ مِنْ عِبَادَتِكُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِنَ اللَّهِ مُوجِعٌ.

(تفسير الطبري جـ 24 صـ:421)

(16) تذكر قبل المعصية أنها ستكون فضيحة أمام جميع الخلائق:

روى البخاريُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. (البخاري حديث 6178 )

قَوْلُهُ :(إِنَّ الْغَادِرَ): أَيْ نَاقِضَ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ.

قَوْلُهُ :(يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ): أَيْ يُرْكَزُ لِأَجْلِ إِفْضَاحِهِ عَلَمٌ قَائِمًا بِقَدْرِ غَدْرِهِ

قَوْلُهُ :(غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ); أَيْ عَلَامَتُهَا، أَوْ نَتِيجَتُهَا أَوْ عُقُوبَتُهَا، فَإِنَّهَا فَضِيحَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى رُؤُسِ الْأَشْهَادِ.

(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 6 صـ 2422)

فائدة الحديث:

قَالَ ابنُ أَبِي جَمْرَةَ(رحمه الله): فِي هَذا الحديث أَنَّ لِصَاحِبِ كُلِّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ إِظْهَارَهَا عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا صَاحِبُهَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ.وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ لِكُلِّ غَدْرَةٍ لِوَاءً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ عِدَّةُ أَلْوِيَةٍ بِعَدَدِ غَدَرَاتِهِ.

 قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي نَصْبِ اللِّوَاءِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَقَعُ غَالِبًا بِضِدِّ الذَّنْبِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ بِالشُّهْرَةِ وَنَصْبُ اللِّوَاءِ أَشْهَرُ الْأَشْيَاءِ عِنْد الْعَرَب. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ 563)

 

(17) تذكر قبل المعصية صحيفتك يوم القيامة:

 قال الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) (الحاقة: 18: 36 )

(18) تذكر قبل المعصية أن جوارحك ستشهد عليك يوم القيامة:

قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فصلت: 19:21)

قَالَ الإمامُ ابنُ جرير الطبري (رحمه الله):

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِجُلُودِهِمْ إِذْ شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَ: لَمْ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا بِمَا كُنَّا نَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا ؟ فَأَجَابَتْهُمْ جُلُودُهُمْ: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فَنَطَقْنَا؛ وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْجَوَارِحَ تَشَهَدُ عَلَى أَهْلِهَا عِنْدَ اسْتِشْهَادِ اللَّهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ أَنْكَرُوا الْأَفْعَالَ الَّتِي كَانُوا فَعَلُوهَا فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ.(تفسير الطبري جـ 21 صـ 452)

وقال سُبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)  (يّـس:65)   قَالَ الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله): هَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُنْكِرُونَ مَا اجْتَرَمُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْلِفُونَ مَا فَعَلُوهُ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ بِمَا عَمِلَتْ. (تفسير ابن كثير جـ6 صـ585)

روى مسلمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ. فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قَالَ: قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي. قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ. فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ. قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ. (أي أدافع)   (مسلم حديث 2969 )

قَوْلُهُ:(أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟) أَيْ أَلَمْ تَجْعَلْنِي فِي إِجَارَةٍ مِنْكَ مِنَ الظُّلْمِ بِقَوْلِكَ: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت: 46)

 قَوْلُهُ:(لَا أُجِيزُ): أَيْ:لَا أَقْبَلُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنْ جِنْسِي ;لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَهِدُوا عَلَيْنَا بِالْفَسَادِ قَبْلَ الْإِيجَادِ.

قَوْلُهُ:(كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا)

فائدة هامة:

قَالَ الْحسَنُ بنُ مُحَمَّد الطَّيِّبِيّ (رحمه الله):فَإِذَا قُلْتَ: دَلَّتْ أَدَاةُ الْحَصْرِ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (كَفَى بِنَفْسِكَ وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟) قُلْتُ: بَذَلَ مَطْلُوبَهُ(أيْ حققَ له رغبته) وَزَادَ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا.

 قَوْلُهُ:(فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ) أَيْ: عَلَى فَمِهِ. قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: 65) وقَالَ سُبحانه:(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور: 24).

 وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ) أَيْ: لِأَعْضَائِهِ وَأَجْزَائِهِ (انْطِقِي).

 قَوْلُهُ:(فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ) أَيْ:بِأَفْعَالِهِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا.

 قَوْلُهُ:(ثُمَّ يُخَلَّى)أَيْ: يُتْرَكُ(بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ)أَيْ: يُرْفَعُ الْخَتْمُ مِنْ فِيهِ ; حَتَّى يَتَكَلَّمَ.

 قَوْلُهُ:(بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا) أَيِ:فَيَقُولُ الْعَبْدُ: هَلَاكًا لَكُم.

 قَوْلُهُ:(كُنْتُ أُنَاضِلُ)أَيْ:أُدَافِعُ. 
(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 8 صـ 3527)

(19) تذكر قبل المعصية ميزان أعمالك يوم القيامة:

قال الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)  وقال سُبحانه: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)  (المؤمنون:102: 103)  وقال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) (الأعراف:8: 9 )

وقال جَلَّ شأنه: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ*وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) (القارعة:7: 11)

* روى الترمذيُّ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ

الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ. فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.

قَالَ:فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ. (حديث صحيح ) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2127)

قَوْلُهُ : (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ): أَيْ: يَخْتَارُ.

(فَيَنْشُرُ): أَيْ: فَيَفْتَحُ (عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا):أَيْ كِتَابًا كَبِيرًا (كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ) أَيْ: كُلُّ كِتَابٍ مِنْهَا طُولُهُ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ مَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُ الْإِنْسَانِ، (ثُمَّ يَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا) أَيِ: الْمَكْتُوبِ (شَيْئًا) ؟ أَيْ مِمَّا لَا تَفْعَلُهُ (أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي):وَالْمُرَادُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ (الْحَافِظُونَ) ؟ أَيْ: لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ (فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ): جَوَابٌ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ) ؟ أَيْ: فِيمَا فَعَلْتَهُ مِنْ كَوْنِهِ سَهْوًا أَوْ خَطَأً، أَوْ جَهْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ (قَالَ: لَا يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: بَلَى) أَيْ: لَكَ عِنْدَنَا مَا يَقُومُ مَقَامَ عُذْرِكَ (إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً) أَيْ: وَاحِدَةً عَظِيمَةً مَقْبُولَةً تَمْحُو جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40) وَإِذَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ لِشَيْءٍ عَظِيمٍ فَهُوَ عَظِيمٌ. (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ) أَيْ: بِنُقْصَانِ أَجْرٍ لَكَ وَلَا بِزِيَادَةِ عِقَابٍ عَلَيْكَ، بَلْ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَهُوَ إِمَّا بِالْعَدْلِ وَإِمَّا بِالْفَصْلِ، (فَتُخْرَجُ): أَيْ: فَتَظْهَرُ (بِطَاقَةٌ): أَيْ ورَقَةٌ صَغِيرَةٌ (فِيهَا) أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي الْبِطَاقَةِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، (فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ) أَيِ: الْمِيزَانُ ; لِيَظْهَرَ لَكَ انْتِفَاءُ الظُّلْمِ وَظُهُورُ الْعَدْلِ وَتَحَقُّقُ الْعَدْلِ، (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ) أَيِ: الْوَاحِدَةُ (مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ) ؟ أَيِ الْكَثِيرَةِ، وَمَا قَدْرُهَا بِجَنْبِهَا وَمُقَابَلَتِهَا، (فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ) أَيْ: لَا يَقَعُ عَلَيْكَ الظُّلْمُ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ كَيْ يَظْهَرَ أَنْ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَاحْضُرِ الْوَزْنَ.

 (فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ) أَيْ: خَفَّتْ (وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ) أَيْ: رَجَحَتْ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ.

 (فَلَا يَثْقُلُ): أَيْ: فَلَا يَرْجَحُ وَلَا يَغْلِبُ (مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ) وَالْمَعْنَى: لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: 114)،وقال سُبحانه: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت: 45)

شبهة و الرد عليها:

قال بعضُ الناس: الْأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لَا يُمْكِنُ وَزْنُهَا، وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَجْسَامُ.

 الجواب: يُوزَنُ السِّجِلُّ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يُجَسِّمُ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ فَتُوزَنُ، فَتَثْقُلُ الطَّاعَاتُ وَتَطِيشُ السَّيِّئَاتُ. (مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 8 صـ 3531)

(20) تذكر أن المعصية سبب في بطء مرورك على الصراط:

روى مسلمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (وهو يتحدث عن المرور على الصراط): يَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ. قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا قَالَ: وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ. وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.    (مسلم حديث 195 )

قَوْلُهُ :(كَالْبَرْقِ) أَيْ: فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي)أَيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا (أَيُّ شَيْءٍ): اسْتِفْهَامٌ (كَمَرِّ الْبَرْقِ) ؟ الْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ تُشَبِّهُهُ بِالْبَرْقِ.

قَوْلُهُ :(وَشَدِّ الرِّجَالِ) أَيْ: جَرْيِهِمْ.

قَوْلُهُ : (تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ) أَيْ: تَجْرِي وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (هود: 42) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: تَجْعَلُهُمْ جَارِينَ (وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، (حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ): الْمَعْنَى: تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُهُمْ عَنِ الْجَرَيَانِ بِهِمْ.

قَوْلُهُ   (حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ) أَيِ: الرَّجُلُ ; لِضَعْفِ عَمَلِهِ ; وَتَقَاعُدِهِ عَنِ السَّبْقِ فِي الدُّنْيَا (السَّيْرَ) أَيِ: الْمُرُورَ عَلَى الصِّرَاطِ (إِلَّا زَحْفًا) أَيْ: حَبْوًا.

قَوْلُهُ: (وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ): أَيْ جَانِبَيْهِ (كَلَالِيبُ): أيْ خطاطيف.

 قَوْلُهُ: (فَمَخْدُوشٌ) أَيْ: مَجْرُوحٌ (نَاجٍ) أَيْ: مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّارِ (وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ): أَيْ: مَدْفُوعٌ فِي النَّارِ.

(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 8 صـ 3573)

(21) تذكر قبل المعصية وقوفك وحدك بين للحساب أمام الله تعالى:

قال اللُه تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام:94)  روى الشيخانِ ِعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. (البخاري حديث 6539 / مسلم حديث 1016 )

قَوْلُهُ  (إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ،(لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ

قَوْلُهُ  (تَرْجُمَانٌ): أَيْ: مُفَسِّرٌ لِلْكَلَامِ بِلُغَةٍ عَنْ لُغَةٍ.

 (أَيْمَنَ مِنْهُ) أَيْ: عَلَى يَمِينِهِ. (أَشْأَمَ مِنْهُ) أَيْ: عَلَى شِمَالِهِ. (بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ أَمَامَة

قَوْلُهُ  (تِلْقَاءَ وَجْهِهِ) أَيْ فِي مُحَاذَاتِهِ.

قَوْلُهُ (فَاتَّقُوا النَّارَ) أَيْ: فَاحْذَرُوا النَّارَ وَلَا تَظْلِمُوا أَحَدًا.

 قَوْلُهُ  (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ): أَيْ فَتَصَدَّقُوا وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَيْ: لَوْ بِمِقْدَارِ نِصْفِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، وَالْمَعْنَى وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا ; فَإِنَّهُ حِجَابٌ وَحَاجِزٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ ; فَإِنَّ الصَّدَقَةَ جُنَّةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَى جَنَّةٍ.

(مرقاة المفاتيح ـ شرح مشكاة المصابيح ـ علي الهروي ـ جـ 8 صـ 3524)

ختاماً:أسألُ اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته أن ينفعَ بهذه الرسالة طلابَ العِلْمِ الكرام، وأرجو مَنْ يقرؤها أن يدعوَ اللهَ سُبحانه لي بالإخلاصِ،والتوفيقِ، والثباتِ على الحق،وحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِِ لأخيه بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ.

                                                        وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply