من البشائر والحمد لله أن هناك الكثير من الأبناء الصغار والكبار والذكور والإناث الذين أتموا حفظهم للقرآن، فأصبحوا منارات إشعاع وفخراً لنا جميعاً، وهذه بشائر تلوح في الأفق تعلن سلامة المنهج والسير على طريق سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم -.
وكل ذلك إنما هو بفضل الله أولاً، ثم بفضل مثل هذه المناشط التي تعتني بتحفيظ القرآن من مدارس ودور تحفيظ، والمنتشرة في ربوع البلاد الإسلامية، فجزى الله المسؤولين والقائمين عليها خير الجزاء.
وفي الحقيقة، كم نود أن تعتني هذه المحاضن - علاوة على الحفظ بتربية النشء - على فهم القرآن، وتشجيعهم على تدبر معانيه، فإن الكثير إذا حفظ وتخرج توقف بعد ذلك وربما نسي أو ظل يراجع ويجاهد نفسه جهادا على تذاكره، ولو تفطن هؤلاء لتدبره ما نسوه بل لسهل عليهم حفظه، ولتذوقوا معانيه وفرحوا به فرحاً عظيماً.
وكذلك، لو تنبه القائمون على هذه المحاضن لتعليم النشء تدبر القرآن لوجدوا الإجابة الشافية الكافية لتساؤلاتهم الكثيرة حول ضعف إيمان بعض الطلاب في الحلق، وسوء أخلاق بعضهم وتساهل البعض، إلى غير ذلك مما نسمعه كلما جلسنا والتقينا..
أما السلف الصالح فقد تنبهوا إلى هذا وفهموا أن المقصود من تلاوة القرآن ليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان به دون فهم أو بيان، قال – تعالى -:\"وَمِنهُم أُمِّيٌّونَ لَا يَعلَمُونَ الكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِن هُم إِلَّا يَظُنٌّونَ\"[البقرة: 78].
قال الشوكاني قيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
وقال ابن القيم:ذم الله المحرفين لكتابه، والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني.
ولما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ, وقال: \"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث\".فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة، وروى حذيفة - رضي الله عنه -: \"أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ\"، فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: \"كان الفاضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن،وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به.وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَن بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به\" (الجامع لأحكام القرآن،1/39-40 وانظر مجلة المجتمع عدد 1216).
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتجاوزون العشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، كما نقل أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان وابن مسعود وأبي كعب - رضي الله عنهم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا\". (الجامع لأحكام القرآن، 1/39، وعزاه إلى كتاب أبي عمرو الداني (البيان)، والطبري، 1/60، 72).
وهذا يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتعلمون التفسير مع التلاوة، \"وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم\".فكان البيان منه – صلى الله عليه وسلم - بالألفاظ والمعاني، \"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ, أَقفَالُهَا\" والله تعالى يقول:\"كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ\".
وتدبروا هذا الموقف الذي يرويه المطلب بن عبد الله قال:\"قرأ ابن الزبير - رضي الله عنهما - آية، فوقف عندها أسهرته حتى أصبح، فدعا ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: إني قرأت آية وقفت الليلة عندها فأسهرتني حتى أصبحت: \" وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُشرِكُونَ\"[يوسف: 106]؟ فقال ابن عباس: لا تسهرك إنما عني بها المشركون. ثم قرأ: \" وَلَئِن سَأَلتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ\"[ لقمان:25]، فهم يؤمنون هنا ويشركون بالله\". (مختصر قيام الليل للمروزي، ص 149).
وفي موطأ مالك - رحمه الله - أنه بلغه:\"أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها\"(الموطأ1/205ºوابن سعد في الطبقات عن أبي مليح عن ميمون عن ابن عمر).
وعن مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:\"تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً\". (انظر:الجامع لأحكام القرآن، 1/40º وتهذيب سير أعلام النبلاء، 1/35،وابن سعد في الطبقات 4/121).
وسفيان بن عيينة يقول: أول العلم: الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ.
فيا أيها القائمون والقائمات على حلق القرآن: هذا هو منهج السلف في قراءة وحفظ القرآن، فهل نراجع أنفسنا ونصحح المسار، والكلام في هذا يحتاج لبسط وتفصيل ليس هذا مقامه، لكني أختمه بكلام جميل نفيس لأحمد بن أبي الحواري، حيث يقول:\"إني لأقرأ القرآن وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآنº كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله! أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه فتلذذوا به، واستحلوا المناجاة،º لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا\" (انظر:لطائف المعارف،ص 203).
ويؤكد هذا الزركشي بقوله (البرهان 2/171): \"من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر، لم يدرك من لذة القرآن شيئا \".
ويقول ابن جرير الطبري (معجم الأدباء، 18/63):\"إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته!. ويقول أيضاً(مقدمة في أصول التفسير، ص2): \"وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن \".
وأقول: بل هي اليوم أحوج ما تكون لفهم القرآن، نسأل الله الكريم المنان، أن يمن علينا بتدبر القرآن، وأن نجد حلاوته عند تلاوته،ونعوذ بالله من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، اللهم اجعلنا من أهل القرآن،الذين هم أهله وخاصته، ومن مفاتيح الخير والعطاء، اللهم عظم حب القرآن في قلوبنا، وقلوب أبنائنا، واجعلنا ممن تعلم القرآن وعلمه، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا،وارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم آمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد