فإن قيمة أي علم وأهميته إنما تقاس بأهمية المعلوم، والغرض من تعلمه، وبمقدار حاجة العباد إلى ذلك العلم وضرورتهم إليه، ومن ثَم كان علم تفسير القرآن من أجل علوم الشريعة وأرفعها قدرًا، إذ هو أشرف العلوم موضوعا وغرضا وحاجة إليه _ لأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة ولأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية .
وحاجة الناس إليه وضرورتهم له فوق كل حاجة ، وأعظم من كل ضروروة، وإنما اشتدت الحاجة إليه لأن كل كمال ديني أو دنيوي لا بد وأن يكون موافقا للشرع ، وموافقته تتوقف على العلم بكتاب الله . وبمعرفة التفسير يعرف الإنسان منهج الله الذي أودعه كتابه، وما في هذا المنهج من الراحة والطمأنينة والرفعة والبركة والطهارة، كما يعلم أيضا منهج الشيطان ، ووهو كل منهج خالف منهج القرآن ، وما في هذه المناهج من الفساد والضياع والضنك والضلال ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى ونحشره يوم القيامة أعمى).
الأمر بتدبر القرآن
لما كان القرآن الكريم رسالة الله إلى عباده ودستوره الذي أنزله إليهم ليعملوا به ويتحاكموا إليه كان لابد لهم أن يفتحوا تلك الرسالة ويقرؤوها ويفهموا ما فيها حتى يمكنهم أن ينفذوا ما فيها ويطبقوهº ولذلك أمرهم الله سبحانه بتدبره وتفهمه وحثهم عليه فقال سبحانه : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )، ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )
وقال تعالى: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ، قال ابن عباس :
\"الحكمة: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله\". (أخرجه ابن أبي حاتم وغيره)
وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). أخرج ابن أبي حاتم عن عمرو ابن مرة قال: ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتنيº لأني سمعت الله يقول : \" وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون \".
اهتمام السلف بتفسير القرآن
ذكر الإمام الطبري بسنده عن ابن مسعود قال : كان الرجل مـِنـَّا إذا تعلَّم عَشر آيات لم يجاوزهُنَّ حتى يعرف معانيهُنَّ ، والعمل بهنَّ .
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن: أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلَّموا عَشر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العلم والعمل ، فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعــًا .
وعن عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ قال: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمَ نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحدٍ, أعلم بكتاب الله مِنّي تنالُه المطايا لأتيته .
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة : قال : قرأ ابنُ عباس سورة البقرة، فجعل يُفسرها فقال رجل: لو سمعت هذا الديلمُ لأسلمت .
وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق قال: لأن أُعرب آية من القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية . وعن عبد الله بن بريدة عن رجل من أصحاب النبي قال: لو أني أعلم إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت . ( قال الإمام السيوطي : الإعراب هنا بمعنى البيان والتفسير ).
أقوال في فضل التفسير
أخرج أبو ذر الهروي في فضائل القرآن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذ الشعر هذا.
وعن سعيد بن جُبير قال : من قرأ القرآن ثم لم يُفسره ، كان كالأعمى أو كالأعرابي .
وذكر القرطبي عن إياس بن معاوية قوله: \"مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قومٍ, جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعةٌ ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب) (تفسير القرطبي1/26).
قال الإمام السيوطي : أجمع العلماء على أن التفسير من فروض الكفايات، وأجل العلوم الثلاثة الشرعية .
قال الأصبهاني : أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن . ثم بين ذلك على ما تجده في كتاب الإتقان للسيوطي 2/175.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تُعلم فيم أنزلت وما أراد بها .
وقال ابن جرير الطبري ما ملخصه: وفي حثِّ الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات ـ بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:( كتاب أنزلنا إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) (ص/29)، وما أشبهه من آي القرآن ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يُحجب عنهم تأويله من آيهº لآنه محالٌ أن يُقال لمن لا يفهم اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة. (تفسير ابن جرير الطبري1/60)
وقد أشار الإمام القرطبي إلى أهمية التفسير فعقد فصلاً موجزًا في ذلك .( انظر القرطبي1/26).
قال الإمام ابن كثير : الواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه كما قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه .. الآية ( تفسير القرآن العظيم1/4 ).
وفي صفوة البيان لحسنين مخلوف: وقد ورد عن النبي صلى لله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين حث المسلمين في كل العصور على أن يتخذوا إمامهم القرآن، ويهتدون بهديه، ويخضعون لحكمه،ويجتهدون في تعلمه، تفهم أسراره،وتدبر معانيه ... فقارئ القرآن وسامعه ينبغي له أن يعرف تفسير ما يحتاج إلى تفسيره من آياته º إذ كانت هي الصراط المستقيم، وهي النور والهدى، وهي الحجة والبرهان، وهي أصل كل علم، ومنبع كل خير . ( صفوة البيان 6،7 )
وقال سيد قطب: ... والبشرية من صنع الله تعالىº ولذلك لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله خالقها، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء في كتابه المجيد: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) ( إن هذاالقرآن يهدي للتي هي أقوم ). ( في ظلال القرآن 1/15).
وبعد فهذه قطرة من بحر فضل هذا العلم ، تكفي اللبيب لمعرفة فضله ، وتشحذ الهمم لتعلمه والسعي في تفهمه ، نسأل الله تعالى أن يفتح على عباده أبواب العلم والفهم لدينه وكتابه...آمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد