الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. أحمده - سبحانه -، وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له، هو خير ثوابا وخير عقبا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولم يرد زينة الحياة الدنيا. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربهم فعمل الصالحات ولم يشرك بعبادة ربه أحدا، وسلم تسليما.
أما بعد، فالوصية الدائمة، تقوى الله، في السر والعلانية، فبها ينجو المرء من العذاب، وييسر عليه الحساب، وينال حسن المآب.
عباد الله: إن من المشروع كما حقق ذلك ابن القيم - رحمه الله تعالى -، أن يقرأ المسلم سورة الكهف ليلة، أو يوم الجمعة، ولهذا نقف قليلا نتأمل في سورة الكهف التي نقرأها كل أسبوع، فاستمع يا رعاك الله إلى قوله - تعالى -(فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا).
لقد وصف الله - تعالى -أصحاب الكهف بقوله (إنهم فتية) شباب غض، وعامة المصلحين كذلك (سمعنا فتى يذكرهم) (وآتيناه الحكم صبيا) (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) والفتية هؤلاء (آمنوا بربهم) وهذا الإيمان قادهم للصدع بالحق، والعمل به، (وزدناهم هدى) فوضح لهم الطريق فسلكوه، مع عمايته على أهل قريتهم جميعا، والهدى في الحقيقة: لزوم الحق، ولو كنت وحدك. (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) (وربطنا على قلوبهم) فصبروا على هجر الأوطان، وعزموا على الفرار بدينهم إلى بعض الغيران.
والربط على القلب هو الذي مكن الأم الرؤوف الحنون مع تقطع قلبها أن تصبر، فلا تشيع أمر رضيعها، فيا لله كم لله من منحة في خضم المحن، وتلاطم الفتن.
وبهذا نصل إلى ما نريد، ونقدم بين يدي ذلك بمعنى قوله (مرفقا) أي سعة، وعيشا، ورزقا، وسائر ما ترتفقون به في حياتكم.
إن إيمان الفتية الذي شهد لهم به ربهم الذي آمنوا به وفارقوا الأهل والوطن من أجله وفي سبيله يتضح بجلاء حين جزموا الأمر فلم يترددوا وما ضعفوا وما استكانوا، وقالوا قولتهم جازمين بها، واثقين منها، فهم قد دعوا به فقالوا (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) فوثقوا بالله لقوة يقينهم به، ألم يقل موسى (كلا إن معي ربي سيهدين) ألم يقل إبراهيم في منتهى المحنة وشدة البلاء (حسبنا الله ونعم الوكيل) ألم يقل محمد - صلى الله عليه وسلم - (لا تحزن إن الله معنا) [ما ظنك باثنين، الله ثالثهما] إنه الإيمان، إنه اليقين، إنه التصديق بوعد الله، والعلم بصفاته، فهو لا يخيب من رجاه، قادر على كل شيء، ولا يخزي من لاذ بحماه، وكل من توكل عليه كفاه، وهو القائل في الحديث القدسي فلما كان ذلك ظنهم بربهم كانت عنايته بهم أحسن عناية، ورفقه بهم أحسن المرافق، بل لقد جعلهم حجة على القرون من بعدهم، ورزقهم الثناء الحسن على مر الدهور، وتعاقب العصور.
لقد ثبت للمؤمنين، للمتدبرين، للواثقين، الصابرين أن كهفا - الغار في الجبل - أن كهفا مع الإيمان واليقين والهدى، والربط على القلب، أفسح، وأوسع، وأرحب من المدينة الواسعة الرحيبة ظاهرا إذا غطاها ظلام الكفر، وعتمة البدع والخرافات.
نعم، أيها الأحبة: إن الفتية يهربون من فسيح المدينة، إلى ضيق الغار، بيد أن المدينة قد ضاقت على سعتها واتسع الغار على ضيق مساحته.
برد الإيمان، سعة اليقين، انشراح الصدر، وتلك حياة المؤمنين.
أنت تراها في قصة الثلاثة الذين خلفوا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بل ضاقت عليهم أنفسهم، فكأن المرء في جو ملوث بالدخان والغبار، أو كأنما هو يصاعد في السماء، يكاد يختنق، فهو يجاهد ليظفر بنسمة من هواء يتنشقها.
أنت تراها في مؤمن، ملفوف بالأكفان، موضوع في اللحد، مدفون في قبره، مطمور بالتراب، فإذا هو في السعة، مد البصر.
أنت تراها في رجل فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئا، يضحك حتى تبدو نواجذه، وينام ملء جفنيه، لا يرى لأحد فضلا عليه.
أيها المسلمون: لو تأمل اللاهثون وراء السعادة حال هؤلاء الفتية، لعلموا أن السعادة تكون حيث يكون الإيمان، وتفقد حيث يفقد الإيمان، فليست السعادة عيشا في القصور، أو جمعا للمال والدر المنثور، ليست في المنظر الخلاب، ولا في بلاد الضباب، إذا كان ذلك مع البعد عن الرب، وعن طاعته، أو الكفر به وبنعمته، والانغماس في ضلال معصيته!!
إن السعادة كل السعادة في توحيد الله، في معرفته، في طاعته، في الثقة به، في الدعوة إليه، في البعد عن نواهيه، في العمل بأوامره، في تذوق رضاه، وحلاوة الإيمان به، ثم ليعش ذلك المرء حيث شاء، حتى وإن كان محبوسا في غيابت جب، ولو قيدت رجلاه ويداه (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) هذه الرحمة التي ينشرها الرحمن الرحيم على عباده المؤمنين هي التي ينالون بها السعادة، والهناء، في الدنيا، وفي الآخرة، (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا).
بهذه الرحمة المنشورة من الرحمن الرحيم صار الكهفُ أوسعَ من المدينة، لأن ظلال الرحمة ممدودة فيه، وعليه، يتفيؤ ظلالها المؤمنون الصادقون المهتدون.
بهذه الرحمة قال شيخ الإسلام مقولته حين أغلقت عليه أبواب السجن الرهيبة فتلا قوله - تعالى -(فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة …..) وهذه الرحمة هي التي أصدر بها تلك الحقيقة الوارفة الظلال: ماذا يصنع أعدائي بي، أنا جنتي في صدري، فسجني خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة.
إن ذلك كله عباد الله من آثار رحمة الله (فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) فيا سبحان الله كيف يحيي القلوب بعد موتها، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
أيها المسلمون:
بم يشعر ذلك المسلم الذي غادر هذه البلاد سائحا في بلاد لا يرى فيها أثر الإسلام، لا يسمع نداء الحق يصدح في أرجائها، ولا يرى إلا الكفر الصراح في أبنائها، أيشعر بالسعادة؟ أيهنأ بعيش لا عبادة فيه ولا تقوى؟ تلك إذا حياة البهائم، ومتعة الأنعام، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها مغلف بالعذاب. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
إنا جميعا ندرك الحر الذي يخرج الناس من ديارهم، ولكن ليختر الواحد منا بلادا يسمع فيها الأذان، وينادى فيها للصلاة، وبلاد المسلمين طولا وعرضا فيها من أنواع المناظر الخلابة ما يسعد قلب المسلم ولا ينسيه ربه.
وهذا الحديث لمن كان لا بد له من سفر خارج هذه البلاد، حرسها الله وصانها، وعلى كل ظالم أو مفسد أعانها. وهو حديث لمن يسعى إلى المتعة الحلال، والسياحة النظيفة التي لا إثم فيها.
وأما من كان يسعى إلى الحرام، خمورا وزنا، ورقصا وخنا، فليتق الله ربه، وليعلم أنه مؤاخذ بما يفعل في الخارج، كما هو مؤاخذ به في الداخل، فالرب هنا وهناك، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم.
وبلاد الكفر وإن حسنت مناظرها، وعبق من أشجارها شذاها، وجرت أنهارها وطاب هواها فإنها مع الكفر الذي تلبست به لا يطيقها المؤمنون، ولا يسعد فيها الموحدون. فهي أشبه ما يكون بتلك المدينة التي هجرها الفتية حين زادهم الله من الهدى، وبلاد الإسلام هي بكل حق وصدق ذلك الغار الذي آواهم فنشرت فيه رحمة الله وهيئ لهم فيه من أمرهم مرفقا.
أيها الأحبة:
في سورة الكهف مثل لرجلين، وجنتين، غرت أحدَهما جنتاه وأنهارهما وثمارهما فظن أن ذلك رضا من الله عنه، وأقسم لأن رد إلى ربه ليجدن خيرا منهما منقلبا، وظلم نفسه، واغتر بما من عليه من نعمة الله، فكانت عاقبته كما أخبر - سبحانه -: وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول... أتظنونه تمنى مثلها؟ أو أحسن منها؟ لا، لقد زهد فيها، وأيقن أن الجنة، أو البستان، أو الاستراحة أو الأرض كلها لا تساوي شيئا مع الشرك بالله، يا ليتني لم أشرك بربي أحدا! كانت تلك أمنيته، ونحن بحمد الله ومنته نقول: الحمد لله الذي جعلنا من عباده المؤمنين، وجعلنا من أتباع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
أيها المسلمون: وفي سورة الكهف: مثل الحياة الدنيا، وبيان قيمتها، وتوثيق القيمة الحقيقية لما يبقى ولا يفنى، يبقى بعدك، وإن فنيت، ويبعد عنك الهم والغم والحزن، يشرح الصدر، ويعظم الأجر، وهو لك زاد في الحل والترحال، لا تشعر معه بضيق في المكان، ويدخل في قلبك الطمأنينة والأمان، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا. وتنوعت أقوال السلف في الباقيات الصالحات، فقيل هي الصلوات الخمس، وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فمن حديث أبي سعيد عند الأمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: الملة. قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخوة الدين والعقيدة:
في سورة الكهف جواب لسؤال طالما تردد على ألسنة الكثيرين، يتعجبون، ويتساءلون كيف ينعم على الكفار بالماء والخضرة وغير ذلك، وجوابه في السورة قوله - تعالى -: وربك الغفور ذو الرحمة، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. فلا يغررك تقلبهم في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد.
فتأمل ذلك أخي الكريم، ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا دينكم، لا تعرضوه للفتن، ولا تجالسوا أهل الكفر والمجون، ولا تسافروا إلى بلاد يعصى الله فيها جهارا نهارا، فحر هذه البلاد مهما اشتد خير من غشيان مجالس من يشقى جليسهم، وفي أرجاء هذه البلاد جنوبا وغربا غنية عما سواها، ومن أصر إلا أن يخرج منها فليخرج إلى أي من بلاد الإسلام، فيأمن على مطعمه ومشربه، وأهله، ودينه، والله المستعان.
وليكن نصب عينيك قول الحق- تبارك وتعالى -في سورة الكهف: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن النعيم في الدنيا مهما طالت مدته فإلى زوال، ومهما عظمت حلته فإلى اضمحلال.
ونعيم الدنيا مملول، يشتاق المرء المغمس فيه إلى ضده من الشقاء، حتى يشعر به، ويقدره، ولهذا فإن المرء يمل لو كرر له طعام من نوع واحد مهما كانت شدة محبته له، ويمل من أهله أحيانا فيذهب بعيدا عنهم ليخلو بنفسه وليشتاق إليهم، وهكذا.
ولكن نعيم الجنة، لا ينفد، ولا يمل منه فأهل الجنة يتنعمون فيها، ويسعدون نعيمها، حسنت مستقرا ومقاما، كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
فمهما سافر المسافر يمنة ويسرة فسوف يمل مقامه، بعد حين، وسيغمر قلبه الشوق إلى بلاده والحنين، فليتزود في سفره بتقوى الله، وليفهم قوله في أول سفره اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، فليس هذا الدعاء لتأمن الطائرة من السقوط أو السيارة من التدهور، ولكنه حصن للراكب والمركبة، فقف عند ما دعوت، ليوفقك الله إلى ما صبوت، ويستجيب دعاك، ويحفظك في جميع أحوالك فلا تستخدم ما سخر لك في معصيته، وأنت مقر له بذلك: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، ومقر بمعادك إليه، ووقوفك بين يديه: وإنا إلى ربنا لمنقلبون. فأطعه بنعمته، وتذكر منقلبك إليه، واعرض أعمالك بين يديه، وتذكر ما تتلو كل جمعة: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا، ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا.
ألا وصلوا على البشير النذير، والسراج المنير، امتثالا لأمر الحكيم الخبير، إن الله وملائكته يصلون على النبي ...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد