رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلاوة القرآن ومدارسته والاجتماع عليه كان المار بالليل ببيوت الصحابة يسمع لهم دوياً كدوي النحل من كثرة تلاوتهم للقرآن هي واحة غنّاء وسط الصحراء، ينهل منها طلبة العلم والعلماء، وهي روضة تسر الناظرين، وبستان من أجمل البساتين، فيها يرتوي العطشان، ويرتاح الإنسان، وهي الدواء للعليل والظل الظليل، فلا يستغني عنها وزير أو أمير، بها زاد العقول والأرواح في غدو أو رواح، لا تمل من صديق ولا تشعر فيها بالضيق..تجدها بالبيت وبالمدرسة وفي الشارع وفي الطريق.. فهل عرفتها؟
نعم.. إنها المكتبة.. وحين نتكلم عنها نقصد تلك التي تضم من زهور الكتب أجملها، ومن بحور العلم أصفاها، ومن الزاد أنفعه، ومن الدواء أنجعه، إذ إننا جميعاً نحتاج إليها، ومن يستغن عنها فقد سلك مسلك الجهال الذين يشغلهم زاد الأبدان عن تحصيل زاد الأرواح والأذهان.
فوق أرفف هذه المكتبة وبالتحديد أعلى رف منها نجده، فهو أهم مرجع يُرجع إليه في أي أمر، وأعظم كتاب يدرس ويدرّس، ويُتعلم ويُعلّم، وأعدل حكم نلجأ إليه ليحكم، به يُجلى الصدأ ويُزال الران الذي يعلو القلوب، وفيه راحة النفس وانشراحها، وسكينة الروح واطمئنانها، فهو كتاب الله العظيم والذكر الحكيم، وهو النور والهدى المبين، وأي مكتبة لا يوجد فيها فهي مبتورة ناقصة، عديمة البركة والفائدةº إذ خلت من كلام الله - عز وجل - الذي هو المدخل لكل العلوم والداعي إليها، لذلك قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"إذا أردتم العلم فانثروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين\". هذا القرآن الكريم الخالد الذي يتعبد بتلاوته المؤمنون ويُنفق في تعلمه وتعليمه الأعمار والسنون، قد - حفظه الله - تعالى - من التحريف والتبديل فقال - سبحانه -: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)(الحجر). وأثنى على أهله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: \"أهل القرآن أهل الله وخاصته\" النسائي. وقد ذكر بعض العلماء: أن تسمية هذا الكتاب قرآناً بين كتب الله لكونه جامعاً لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار - تعالى - إلى ذلك بقوله: \" ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء \" (النحل89) النحل. والقرآن كما نعرف هو كلام الله - تعالى - المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون هداية للبشر من الضلال، ونوراً لهم في الظلمات، يخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشرك بالرحمن إلى التوحيد والإيمان، ومن الحكم بالأهواء إلى شريعة السماء، فهو منهج حياة ودستور حكم وقضاء، وهو كما قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين والشفاء النافعº عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد\" (الحاكم). لم ينزله الله على رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - لنزين به صدور مكتباتنا ولا لنعلق آياته زينة لجدران بيوتنا، ولا لننحت بعضاً منه على حليّ بناتنا ونسائنا تبركاً به، فما عانى حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - ساعة نزول الوحي عليه إلا ليزيح المعاناة عن البشرية جميعها ببركة العمل بهذا القرآن العظيم، وما تحمل الأذى في سبيل إيصال رسالة القرآن إلا للعمل به والدعوة إليه إلى يوم الدين.
فمن لم يقرأ القرآن فقد هجره، ومن قرأه ولم يفهم معناه فقد هجره، ومن قرأه وفهم معناه ولم يعمل به فقد هجره، كل هذا داخل في قوله - تعالى -: \" وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا 30 \"(الفرقان). وأرشدنا إلى الطريقة المثلى للانتفاع بالقرآن فقال: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه من يتكلم به منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله. قال - تعالى -: \" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد 37 \" (ق). رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلاوة القرآن ومدارسته والاجتماع على ذلك فقال: \"وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده\" (مسلم).
وكان المار بالليل ببيوت الصحابة رضوان الله عليهم يسمع لهم دوياً كدوي النحل من كثرة تلاوتهم للقرآن وبكائهم عند تدبر آياته، فقد دانوا لله وحده حين تلوا آياته وفهموا مراده، فعملوا بأوامره، وجعلوا منهجهم ودستورهم في الحياة من كتابه، فدانت لهم رقاب العباد وفتحت لهم البلاد وأعزهم الله ونصرهم. لذا ينبغي لمن عنده مكتبة أن يكرمها ويزينها ببعض كتب التفسير المختصرة التي تعينه على فهم كلام الله - عز وجل -، ليسهل عليه تلاوته وحفظه ومن ثَمّ العمل به والدعوة إليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد