تأملات في قصة الفداء ( 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

علي بن أبي طالب يبيع نفسه لله ورسوله ويقدمها فداءً في ليلة الهجرة 

\"نم في فراشي، وتسجَّ ببردي هذا الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم\"...سرت هذه الكلمات في نفسه حين طرقت مسامعه فأشعلت الحماس فيها، وأججت شوقه للقاء ربه، وأعطت بطلنا الفرصة ليثبت حبه وولاءه لحبيبه حيث سيفتديه بنفسه، فرقد في الفراش يواري عنه القوم الذين باتوا يفكرون ويتساءلون: من سيهجم على صاحب الفراش فيوثقه؟ حتى أصبحوا فإذا بهم يفقدون بغيتهم، ولما سألوه عن صاحبه أجاب قائلاً لهم: لا علم لي! فعلموا أنه قد فرّ ونجا من سيوفهم وبطشهم، فخاب أملهم وفاتهم مطلبهم وباؤوا بالخزي والعار والندامة.

وكان موقفاً عظيماً تؤخذ منه الدروس وتستلهم منه العبر ويتعلم منه الإخلاص، فلقد شرى نفسه وباعها لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقدمها فداءً في تلك الليلة، فنجى الله حبيبه - صلى الله عليه وسلم - من القتل وحفظه من مكر أعدائه، كما قال - تعالى -: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)(الأنفال). وحفظ الله مَن فدى نبيه وخلّد ذكراه بطلاً فدائياً محباً لله ورسوله إلى أن نلقاه.

 

 

أول فدائي في الإسلام

إنه البطل العظيم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كان أسمر اللون، أصلع الرأس إلا من الخلف، واسع العينين شديد سوادهما، عريض المنكبين، شديد الساعد واليد، خشن الكفين، عظيم البطن قريباً إلى السمن، حسن الوجه، ليس بالطويل ولا بالقصير، ضحوكاً، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، بطل ليس ككل الأبطال، ورجل بآلاف بل ملايين أو يزيد من الرجال..

ففي يوم الهجرة النبوية كان قريباً من أن تنهشه سيوف القوم فتعمل في جسده ما تعمل، لكنه كان فوق مستوى الشجاعة التي عهدت في صناديد الرجال، فاستحق عن جدارة أن ينال اللقب العظيم ويعلق وسام البطولة بفخر ليكون أول فدائي في الإسلام، كما كان أول من أسلم من الصبيان، وهذا ليس بغريب عليه.. فهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تربى في بيت النبوة ينهل من بحر أخلاقها، ويهنأ بصحبة معلمه وحبيبه - عليه الصلاة والسلام -.

أي إيمان بقدر الله اطمأنت به نفس علي بن أبي طالب استمده من كلام الله.. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون 51(التوبة).

وأي ثقة في نصر الله وحفظه حين استسلم لأمره ونام في الفراش! بل أي يقين امتلأ به قلبه بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعده حين قال له: \"فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم\"!!

ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد فاز بطلنا أيضاً بثقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزكيته حين أمره بالمكث في مكة حتى يرد الودائع لأهلها قبل أن يلحق به في المدينة، فانطلق في مكة يجوب شوارعها باحثاً عن أصحاب الودائع حتى ردها إليهم، فبرئت ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وقتها استعد وتأهب للهجرة ليلحق به بعد ثلاث ليال قضاها في مكة.

 

تضحية وصبر

 

وكما ضرب لنا عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- المثل في البطولة والفداء ضرب لنا أيضاً المثل في التضحية والصبر في سبيل الله، فكانت هجرته تدل على شجاعته وثباته وتضحيته وتحمله للمتاعب، إذ هاجر ماشياً على قدميه ، فلم تكن له راحلة يمتطيها، ولم يستطع السير في النهار لشدة حرارة الشمس، فكان أثناء هجرته يكمن بالنهار، فإذا جن عليه الليل سار في ظلمته وحيداً بلا صحبة أو رفيق أو أنيس إلا الله - سبحانه وتعالى -، حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه - رضي الله عنه - وأرضاه، كل ذلك ليلحق برسوله - صلى الله عليه وسلم - فينعم بقربه وحبه الذي امتزج بلحمه ودمه فوجد حلاوته، كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيح أنه قال: \"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه\". لذا فقد صار نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عنده أغلى من كل شيء في دنياه، وذلك من تمام إيمانه العظيم، مصداقاً لما جاء عنه في الصحيح أنه قال: \"والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين\".

 

جهاده في سبيل الله

وهو الذي ضرب أروع الأمثلة في الجهاد في سبيل الله، فقد شهد المشاهد كلها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلا تبوك حيث استخلفه على المدينة، وقال له: \"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي\" (مسلم).

وكان حامل راية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الغزوات، وفي غزوة أحد كان عليّ- رضي الله عنه- هو الذي أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما وقع في الحفرة، كما قام مع زوجه فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - بمداواة جرحه وإيقاف الدم الذي كان ينزف على وجهه الشريف ولحيته - صلى الله عليه وسلم -.

 

ورعه وتقواه وعلمه

لقد دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: \"اللهم ثبّت لسانه واهد قلبه\"، لذا فقد كان عليّ- رضي الله عنه- يقول: \"والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولاً ولساناً صادقاً ناطقا\". وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 586 حديثاً.

ورغم مكانته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل له: \"أنت أخي في الدنيا والآخرة\" (الترمذي)، إلا أنه كان دائم الحذر من الوقوع في شهوات الدنيا والانشغال بزخرفها عن رسالته في الحياة، وكثيراً ما كان يخاطب دنياه كأنها تبادله الحديث والحوار ويقول لها: \"يا دنيا، غرّي غيري.. إليّ تعرضت أم إليّ تشوفت؟! هيهات هيهات قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير (الخطر بمعنى القدر والمنزلة)، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق\".

دخل عليه الأشتر النخعي وهو قائم يصلي بالليل، فقال له: يا أمير المؤمنين، صوم بالنهار وسهر بالليل، وتعب فيما بين ذلك!! فلما فرغ عليّ- رضي الله عنه - من صلاته قال له: \"سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه سير الليل\". وكان يحث الناس على تقوى الله ومراقبته، وخشيته، يقول لهم: \"أيها الناس، اتقوا الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم\".

قال يصف القرآن الكريم معظماً له: \"كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply