جوارحك أيها الإنسان .. ما لها .. وما عليها .. ( 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مفاتيح الهداية.. ووسائل المعرفة

 

 

هل تذوقتَ يوما حلاوة الاستماع لكلام الله - عز وجل - وكرّمتَ أذنيك بذلك فأصغت وأنصتت؟ وهل تكحلت عيناك بالنظر في كتابه فأنارت وأبصرت؟

إن الله - عز وجل - حين خلقك أيها الإنسان، لم يخلقك سدى، ولم يتركك هملاً، بل حباك وتفضل عليك برسل الهداية ووسائل المعرفة حين أعطاك أذنين، ووهبك عينين، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما حصلت على مثلها، ولو سجدت طوال عمرك ما وفيت شكرها، لكن الواهب المانح - سبحانه وتعالى - حين منّ عليك بها لم يطلب منك شيئاً سوى القيام بحقها عليك وحفظ أمانتها بين يديك.. فهل أنت كذلك؟

إن الأذنين والعينين من أجلّ النعم وأعظمها، ولا يشعر بقدرها أحد مثل مَن فقدها أو فقد بعضها، وقد ذكر الله - تعالى - تلك العطايا وامتنّ بها على عباده في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقال: ألم نجعل له عينين (8) (البلد).. وقال: وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون 78(المؤمنون)، ولأنها وسائل العلم والمعرفة يأتي ذكر السمع والبصر مقترنين في كثير من الآيات كما قال - عز وجل -: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون 78(النحل) وكان {يسأل الله - تعالى -أن ينفعه بها فيدعوه قائلاً: \"اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً\".

والأذن هي أولى أسباب الهداية والسير على طريق الله المستقيمº لأن الإنسان ينصت بها إلى كتاب الله ويستمع إلى العلماء فيتعلم ويعرف الحلال من الحرام، ولذلك فقد ذمّ الله - تعالى - الكافرين ووصفهم بأنهم صمّ وبكم وعُمي رغم أن لهم أعيناً يرون بها وآذاناً يسمعون بها وألسنة يتكلمون بهاº ذلك لأنهم لم يستخدموها فيما خلقت لأجله من معرفة الله - عز وجل -، ولم يسخروها في طاعته فينتفعوا بها لأخراهم، فلم تغن عنهم شيئاً كما قال - تعالى -: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله(الأحقاف: 26).. وكان نصيبهم النار ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون 179(الأعراف). وكانت محلاً وموضعاً للسؤال، وصار صاحبها أهلاً لأن يُسأل عنها، كما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : \"يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع (أي جعلتك رئيساً مطاعاً)، فكنت تظن أنك ملاقيّ يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له الله- عز وجل - اليوم أنساك كما نسيتني\" (الترمذي). وهذا حال من عطّل تلك الجوارح عن عملها الذي خلقت له، أما المؤمن فإنه كما وصفه رسولنا – صلى الله عليه وسلم- في قوله: \" لن يشبع المؤمن من خير قط يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة\" (الترمذي).

والسمع له آداب كما أن للنظر آداباً أيضاً، وكل إنسان مسؤول أمام الله يوم القيامة. قال - تعالى -: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا 36 (الإسراء). وهذه الأعضاء شهود له أو عليه في ذلك اليوم العظيم كما أعلمنا الله - تعالى - في القرآن الكريم: حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون 20 (فصلت). لذلك وجب علينا أن نعرف لها حقها.

آداب السماع وحق الأذن: حين يولد الطفل فإنه يستحب التأذين في أذنه اليمنى وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى، وذلك بعد ولادته مباشرةº ليكون أول ما يطرق سمعه اسم الله - عز وجل - وكلمات توحيده. إن هذه الأذن التي كرمها الله بسماع تلك الكلمات الطيبات، والتي طهرها حين سنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم- مسحها في الوضوء من الظاهر بالإبهام ومن الباطن بالسبابة، وكأن في ذلك إشارة لطيفة إلى ضرورة طهارة هذه الجارحة من كل ما يجرحها ويؤذيها في الدنيا والآخرة، من آفات محسوسة ومرئية، أو معنوية غير حسّية، ويكون الحفاظ على طهارتها بحفظها من سماع ما يدنسها من مختلف النجاسات من غيبة ونميمة، وبذاء وفحش، وغناء ماجن، وموسيقى مثيرة للشهوات، والترفع عن سماع لغو القول ومنكره، ومنحها الفرصة للإنصات لكلام الله - سبحانه وتعالى -، والتزود من سيرة حبيبه – صلى الله عليه وسلم-، وسماع دعوة الخير والكلم الطيب في حلق العلم، فتنتفع بهذا كله ولا تكون كالقمع الذي لا يستقر فيه شيء.

 

أذن المؤمن

وأذن المؤمن تختلف اختلافاً كبيراً عن غيرهº لأن الله - تعالى - يقول للمؤمنين: {واتقوا الله واسمعوا} (المائدة: 108)، ويأمرهم بالطاعة بعد السماع فيقول: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا}(التغابن: 16). ومن قرأ القرآن الكريم وعاش في رحابه عاين أحوال هؤلاء المؤمنين المختلفة في استخدام نعمة السمع العظيمة، فهم:

الذين سمعوا منادي الإيمان فسارعوا إلى تلبيته: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا} (آل عمران: 193).

الذين إذا سمعوا كلام الله فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} 83(المائدة).

الذين يعرضون عن سماع اللغو من القول: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (القصص: 55).

الذين يصبرون عند سماع كلمات الأذى والابتلاء بها: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور 186}(آل عمران).

الذين إذا سمعوا قولاً تبصّروه وعملوا بما فيه، كما قال - تعالى -: {فبشر عباد 17 الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب 18}(الزمر). قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقال الزمخشري: أفاد قوله - تعالى -: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا نقاداً في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها دليلاً، وأبينها أمارة، وألا يكونوا في مذهبهم كما قال القائل: \"ولا تكن مثل عير قيد فانقادا\".

 

عينك عينك

أما العين آلة الإبصار فأكرم بها من نعمة، حيث يرى الإنسان بواسطتها الأشياء الظاهرة، ولو خيّر بينها وبين مال الدنيا جميعاً لاختارها، وهي تؤدي دوراً خطيراً في حياة الإنسان، ومن أشد الجوارح ارتباطاً بالقلب، فالقلب بيت والعين بابه، ولا يدخل لص البيت إلا والباب مفتوح، فإذا دخل سرق حلية الإيمان وجوهر التقوى، وترك القلب خراباً في خراب، ولهذا يقول أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه والأنس به، والسرور بربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. وقد جمع الله بينهما في كثير من الآيات لأن العين تبصر الظاهر والقلب يبصر الباطنº ولذلك فليس كل من فقد حاسة البصر أعمى، وإنما العمى الحقيقي هو عمى القلوب عن إبصار الحق ومعرفة الحقيقة، كما قال - تعالى -: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } 46(الحج).

اهتم الإسلام بحفظ النظر وبيّن عاقبة ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم-: \"إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه\" (الطبراني). كما جعل للنظر آداباً تبين للمسلم ما يحل له وما يحرم منه، فأمر بغض البصر، وجعل إطلاقه معصية لله - عز وجل - لقوله - تعالى -: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون 30 وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن (النور). فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تولد العزيمة، فإذا قويت العزيمة وقع المحظور، وسقطت في المعصية. وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم-لعلي: \" يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة\" (الترمذي).

وحرم الله النظر إلى العورات، والتطلع في بيوت الناس بغير إذنهم، ونهى عن تتبع عوراتهم، ووعد من يغض بصره بالخير الكثير ففي الحديث: \"ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها\" (أحمد).

 

كيف تكرم عينيك؟

بالنظر في كتاب الله - تعالى -.. بالنظر في كتب العلم وطلبه.. بالنظر في هذا الكون نظرة التدبر والاعتبار، بنظرات الحب المشفقة والرحمة والرأفة توزعها على مَن حولك، بنظرة الشكر والرضا والامتنان، بنظرة العفة عن الحرام.. بالسعي في حوائج الناس ومساعدتهم، ببذلها لمن فقدها بالدلالة والإرشاد.. وتكرم عينيك كذلك بحفظها من نظرات الحسد والكبر والاحتقار والغمز، وغضها عن المحارم، والبكاء خوفاً من الله.. والسهر في سبيله.. واعلم أيها المسلم أن: \"كل عين باكية يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله، وعيناً سهرت في سبيل الله، وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله\" (ابن أبي الدنيا).

العين في رمضان: تقية نقية، تصوم عن الحرام كما تصوم البطن عن الطعام، وتجعل من شهر الصيام موسما للطاعة وفرصة ثمينة للصلح مع الله، ومشفى لها من سائر الأمراض، وكذلك الأذن هي الأخرى تصوم، والمسلم حين يحسن استخدام تلك النعم ويسخرها في مرضاة الله ويسير بها حسب منهجه ووفق إرادته، يعرف الغرض الذي من أجله خُلقت، ومن أجله يحيا ويعيش، وحينئذ ينجح بفضل الله في الامتحان، ويفوز .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply