الخطبة الأولى:
عباد الله: لقد امتن الله - تعالى- علينا بنعمة جليلة حين أنزل القرآن الكريم على عبده ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو نعمة عظيمة حق لنا أن نفرح بها ونعلن اغتباطنا بها، ألم يقل الله - تعالى-: ((يا أَيٌّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم مَّوعِظَةٌ مّن رَّبّكُم وَشِفَاء لِمَا في الصٌّدُورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لّلمُؤمِنِينَ قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مّمَّا يَجمَعُونَ ))[يونس: 57، 58].
ولو تأملنا فيما ورد من الفضائل لهذا الكتاب العزيز لرأينا عجباً، فهو الكتاب الذي لو أنزل على الجبال الرواسي لتصدعت وخشعت (( لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرءانَ عَلَى جَبَلٍ, لَّرَأَيتَهُ خَـاشِعاً مٌّتَصَدّعاً مّن خَشيَةِ اللَّهِ ))[الحشر: 21]، وهو الكتاب الذي تكفل الله - سبحانه - بحفظه ولم يكَل حفظه إلى ملك أو نبي (( إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ ))[الحجر: 9].
وهو الكتاب المهيمن على ما عداه من الكتب التي أنزلها الله - جل وعلا-: (( وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَـابَ بِالحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَـابِ وَمُهَيمِناً عَلَيهِ ))[المائدة: 48]، وفي السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تبين فضائل القرآن الكريم وما اختص به من الخلال ففي الحديث: ( إن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً) رواه الطبراني بإسناد جيد وصححه الألباني، وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله - عز وجل -، هو حبل الله، ومن اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة) رواه مسلم، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يقول: ( أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد) رواه مسلم، فمن أراد النجاة والفلاح فعليه بكتاب الله - تعالى-، ومن أراد الخير الكثير والأجر الوافر فليقرأ كتاب الله - تعالى- يقول الله - تعالى-: (( إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مّن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ))[فاطر: 29، 30]، و عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو) متفق عليه، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) الترمذي وقال حسن صحيح.
ومن قرأ القرآن ماهراً به فهو يوم القيامة مع الملائكة السفرة الكرام البررة فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان)؟ قلنا: نعم!! قال: (فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) رواه مسلم.
وهذا قتادة - رحمه الله - يقول: \"اعمروا به قلوبكم، واعمروا به بيوتكم - أي القرآن -\" أخرجه الدارمي، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: \"إن البيت ليتسع على أهله، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويكثر خيرهº أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، ويقل خيرهº أن لا يقرأ فيه القرآن\".
وللقرآن الكريم مع أهله يوم القيامة مواقف عجيبة فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم.
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) رواه مسلم.
وعند تلاوة القرآن ومدارسته تتنزل الملائكة والسكينة والرحمة، فعن البراء بن عازب قال: \"كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن) متفق عليه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللهº يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهمº إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.
وفي تلاوة القرآن الكريم أمان بإذن الله من الغفلة (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بألف آية كتب من المقنطرين) أبو داود وصححه الألباني.
عباد الله: ومما يؤكد المكانة السامية لهذا القرآن أن خير الناس من تعلم القرآن وعلمه كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن أحق الناس بالإمامة في الصلاة أقرؤهم، بل إن أهل القرآن لهم المكانة والرفعة (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) رواه مسلم.
عباد الله: إن القلب يصدأ ويقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات، ومشاغل الدنيا، وما أحوجنا إلى ما يصلح نفوسنا، ويلين قلوبنا، ويربطنا بخالقنا - سبحانه -، وما تقرب عبد إلى ربه بأفضل من تلاوة كتابه، والوقوف عند معانيه، والتدبر في آياته.
وقد كان من هدي السلف المستقر لديهم تلاوة ورد يومي من كتاب الله - تعالى-، بأن يجعل أحدهم له قدراً يقرؤه يومياً، ويتعاهد نفسه عليه، بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين يوماً، أو أقل من ذلك، ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد عن ذلك)، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) مسلم.
وثبت عن ابن مسعود وعثمان وتميم الداري وجمع من أئمة التابعين أنهم كانوا يختمون القرآن في سبعة أيام.
ومن آداب التلاوة - أيها المؤمنون - تدبر كلام الله - تعالى-، وتفهم معانيه، فهذا من أهم مقاصد القرآن الكريم ((كِتَـابٌ أَنزَلنَـاهُ إِلَيكَ مُبَـارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا ءايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الالبَابِ))[ص: 29]، وعن حذيفة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فكان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استجار، وإذا مرّ بآية فيها تنزيه لله سبح) النسائي وصححه الألباني.
وقال أبو جمرة لابن عباس - رضي الله عنهما -: \"إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث\"، فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: \"لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أقرأ كما تقول\".
ومما يعين على تدبر القرآن تحسين الصوت في قراءته، وقد أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أذن الله لشيء - أي استمع - ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) البخاري ومسلم، وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) البخاري، وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - حسن الصوت بالقرآن فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) البخاري، وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: \"سمعت النبي يقرأ: (( وَالتّينِ وَالزَّيتُونِ ))[التين: 1] في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه\" على أن هذا لا يعني التنطع في القراءة والتكلف فيها، فاللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية:
أما بعد عباد الله: لما ذكر الله - تعالى- ما قال المشركون من الباطل في معارضة القرآن، والصد عنه، وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما كان منهم من ذلك في الدنيا في سورة الفرقان ذكر ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشكوى لربه من تركهم للقرآن العظيم وهجره فقال: (( وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذُوا هَـذَا القُرءاَنَ مَهجُوراً ))[الفرقان: 30]، أي جعلوه متروكاً مقاطعاً مرغوباً عنه، ولا شك أن شكواه - عليه الصلاة والسلام - من هجره دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكواه.
وقد ذكر أهل العلم أن هجر القرآن له درجات، ويدخل فيه صور مختلفة، فمنه هجر العمل به، وهجر التحاكم إليه، وهجر تلاوته، وهجر التداوي به.
فلنحذر من كل ذلك أيها المؤمنون، ولنقبل على كتاب ربنا تلاوة وتعلماً، وحفظاً وعملاً ففي ذلك الخير والأجر، وما أجمل أن يكون لكل واحد منا قدراً من كتاب الله يقرؤه يومياً، ولو كان يسيراً فقد علمنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد