بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن مما لا شك فيه أن الإنسان مجبول على طلب ما ينفعه، والبعد والتجافي عما يضره ويزعجه، وهذه فطرة بشرية، أشار إليها القرآن الكريم في قوله - تعالى -: \" وَإِنَّهُ لِحُبّ الخَيرِ لَشَدِيدٌ \" [العاديات: 8]، ومما اعتاد الناس وألفوا أن يتقوا الشتاء وبرده المؤذي، فما إن تبدأ رياح الشمال في الهبوب بنسماتها الباردة وسياطها اللاذعة، إلا ويهرع الناس إلى خزانات ملابسهم الشتوية، ويسارع الناس إلى الأسواق لاقتناء ما نقص من الملابس الواقية أو أجهزة التدفئة المتنوعة، وهذا موسم يتكرر كل عام، لا يسع المسلم إلا أن يعمل فكره ونظره فيه، فيقف متأملاً وآخذاً العبرة.
وقد امتدح القرآن الكريم ذوي العقول والألباب الذين يتفكرون في مخلوقات الله ويأخذون العظة والعبرة مما حولهم في آيات كثيرة، وإليكم أيها الأحبة هذه الوقفات الوجيزة حول ما نعايشه الآن من برودة الشتاء.
الوقفة الأولى: إن مجيء الشتاء وعودته إلينا، يعني انقضاء عام كامل بفصوله المختلفة، وهذا يشعرنا بضرورة تذكر المصير المحتوم والنهاية الأكيدة التي تصير إليها كل المخلوقات \" يُقَلّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبرَةً لاولِي الابصَـارِ \" [النور: 44]، فيا سعادة من استعد بالخيرات وقدم أمامه الأعمال الصالحات، ويا خسارة من فرط في عمره وضاعت عليه لحظات حياته وقتل أوقاته فراحت هباءً منثوراً، حسراتها تبقى، ولذائذها تفنى، وما أجمل هذه الكلمات التي وجهها قائلها للمتكاسل عن طلب العلم قائلاً:
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيـع *** فأخذك للعلم قـل لي متى؟
ألا يقال مثلها لمن فرط في طاعة الله، فيشغله المصيف بالسفر وتقطيع الإجازات، وإذا دخل الشتاء لزم فراشه الدافئ وضيع الصلاة، وفي الفيافي والبراري يستمتع بجمال الربيع مفرطاً فيما أوجب الله عليه من الطاعة والعبادة.
الوقفة الثانية: أيها المسلمون، إن مما لا يحتاج إلى برهان أننا بحمد الله ننعم بالرخاء ورغد العيش، وقد توفر لدينا العديد مما ندفع به عنا أذى البرد وشدته، فالملابس الثقيلة الدافئة متوفرة وبأقل الأثمان، وأجهزة التدفئة ميسرة موجودة، مما يجعل أحدنا بحمد الله يمر به موسم الشتاء بلا كدر أو مرض، يبيت دافئاً مطمئناً على أهل بيته وعياله، وقد شبعوا من نعمة الله، وهذه والله نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، فهل تذكرنا هذه النعمة التي نعايشها دوماً، وهل تأملنا في هذه النعم التي يذكرنا بها القرآن الكريم \" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّن بُيُوتِكُم سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مّن جُلُودِ الأنعَـامِ بُيُوتًا تَستَخِفٌّونَهَا يَومَ ظَعنِكُم وَيَومَ إِقَـامَتِكُم وَمِن أَصوَافِهَا وَأَوبَارِهَا وَأَشعَارِهَا أَثَـاثاً وَمَتَـاعاً إِلَىا حِينٍ, وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّمَّا خَلَقَ ظِلَـالاً وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الجِبَالِ أَكنَـاناً وَجَعَلَ لَكُم سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأسَكُم كَذَلِكَ يُتِمٌّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تُسلِمُونَ \" [النحل: 80، 81].
إن تذكر هذه النعم واستشعارها يوجب شكر المنعم - جل وعلا -، وبالشكر تقيد النعم وتزداد، وبترك الشكر تزول النعم \" وَإِذ تَأَذَّنَ رَبٌّكُم لَئِن شَكَرتُم لازِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ \" [إبراهيم: 7] والشكر لا يكفي باللسان بل لا بد من الشكر العملي، ومن ذلك ترك الإسراف والتبذير، ومن الشكر تفقد المحتاجين ولو بالفاضل من الملابس أو وسائل التدفئة، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: \"بينما نحن في سفر مع النبي إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له))، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
الوقفة الثالثة: هل تذكرنا أيها المسلمون أن هذا البرد الذي نعاني منه بعض الأحيان، وننزعج منه، ويتمنى الكثيرون سرعة ذهابه، أنه نفس من أنفاس جهنم، وجزء يسير جداً مما في النار من العذاب والنكال، أجارنا الله جميعاً منها، فقد أخرج البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن النبي قوله: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير)).
فيا ليتنا نأخذ العبرة في ذلك، فالنار قد أعدها الله - تعالى - لمن خالف أمره وعصاه، وفيها من أنواع العذاب والنكال ما تشيب لهوله الولدان، لو عقلنا كلام ربنا، ففيها الحميم الآن الذي اشتد غليانه واستجمع حرارته فهو يشوي الوجوه والجلود، وفيها الزمهرير الذي يقطع الأجساد من برودته، قال - سبحانه -: \" وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ, جَهَنَّمَ يَصلَونَهَا فَبِئسَ المِهَادُ هَـاذَا فَليَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكلِهِ أَزواجٌ \" [ص: 55-58]، قال ابن كثير - رحمه الله -: \"أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم\" اهـ.
اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى -ومراقبته، فمن راقب الله واتقاه سعِد ونجا في الدنيا والآخرة \" وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً \" [آل عمران: 120]، \" وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ, مّن رَّبّكُم وَجَنَّةٍ, عَرضُهَا السَّمَـاواتُ وَالارضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ \" [آل عمران: 133].
عباد الله، أما الوقفة الرابعة التي يقفها المتأمل في حال الشتاء وبرده: فهي تساؤل يفرض نفسه، هل تذكرنا أيها المسلمون حال إخوان لنا في الدين في بلاد شتى، قد ابتلوا بشيء من الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، فلا يجدون ما يحميهم من برودة الشتاء أو يكنهم من لذع الصقيع، أجسامهم شبه عارية، وأقدامهم حافية، فراشهم الغبراء ولحافهم السماء، منهم من هدمت داره، وفرّق عياله، الخوف والوجل يحوطهم، والعدو متربص بهم، عدو لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، فهل قمنا بواجبنا نحوهم دعماً وإطعاماً وإغاثة، وهل سألنا الله - تعالى -أن يرفع الضر ويذهب الجوع والخوف عن كل مسلم، أياً كانت أرضه وبلاده، أم أن الأمر لا يعنينا ما دمنا نرفل في نعم سابغة وخيرات متوافرة، إن الذي أعطانا لقادر على أن يمنعنا، وإن الذي كتب البلاء على أقوام، لقادر على أن يبدل رخاءنا ضراً وأمننا خوفاً، \" فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الخَـاسِرُونَ \" [الأعراف: 99].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد