بسم الله الرحمن الرحيم
يتابع الأخ الكاتب في هذه الحلقة الجهود العلمية في بلاد الحجاز في العصر الأموي بعد أن استعرض في الحلقة السابقة موضوع التفسير.
الحديث:
وفي هذا العصر برز ما يسمى بعلم الجرح والتعديل أو علم الرجال.
وهذا العلم مما انفرد به المسلمون، ولا نظير له عند غيرهم من الأمم.
والغرض منه الكشف عن أحوال رواة السنة، وتمييز الصادق من الكاذب، والضابط من الواهم، والموثوق بروايته من المطعون فيها.
وقد كان السبب في إنشاء هذا العلم الجليل أنه في أعقاب الفتن التي شهدها العصر الأموي [ 1 ] ظهرت الفرق ذات الآراء السياسية المتعارضة والأهواء المذهبية المتعصبة، ففشا الكذب، وظهر الوضع، ولجأ أتباع هذه الفرق إلى الوضع في الحديث والأخبار.
وهذا ما جعل العلماء يؤكدون على ضرورة التثبت في مصادر الرواية ويسألون عن الرجال الذين اشتركوا في نقلها.
وفي هذا الشأن يقول ابن سيرين (المتوفى سنة 110ه): \" لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة [2] قالوا: سموا لنا رجالكم فلينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهمº وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم « [3].
ومما يدل على ذلك أيضاً قول ابن عباس - رضي الله عنه -: \" إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه « [4].
فعبر هنا ابن عباس عن الفتن بقوله ركوب الناس الصعب والذلول، ولذا كان لا يقبل إلا ما يعرف.
وقد تكلم عدد من التابعين في الجرح والتعديل مثل سعيد بن المسيب (المتوفى سنة 94 هـ), ومحمد بن مسلم الزهري (المتوفى سنة 124هـ), وعامر الشعبي (المتوفى سنة 103هـ).
وكان كل منهم بمثابة نواة لنشأة مادة واسعة في علم الرجال يتداولها العلماء والنقاد في العصور التالية [5].
وتميزت تلك الفترة بنشاط الرحلة في طلب العلم، وذلك لبروز عامل جديد يحفز الطلاب إلى الرحلة، ذلك هو طلب الإسناد العاليº فهو أخصر طرق الحديث المتصلة.
فبدلاً من أن يأخذ التابعي عن تابعي يرغب بدوره أن يأخذ عن صحابي، فيرحل إلى ذلك الصحابي فيروي عنه الحديث مباشرة، كما كان لظهور الوضع في الحديث أثر في تنشيط هذه الرحلات العلمية طلباً للحديث من مظانه، وتدقيقاً لمصادره، وبحثاً عن أصوله، وتحرياً عن رواته.
وكان أغلب هؤلاء في المدينة المنورة قلب المجتمع الإسلامي النابض، والتي طبعت بحكم مركزها بطابع خاص في الحديث والرواية، وعرفت بالتدقيق والصرامة.
فهذا أبو قلابة عبد الله بن زيد البصري (المتوفى سنة 104هـ) يقيم في المدينة ثلاثة أيام ما له حاجة إلا رجل كانوا يتوقعون قدومه كان يروي حديثاً، فأقام حتى قدم وسأله عن الحديث [6].
وحدث عامر الشعبي رجلاً بحديث ثم قال له: » أعطيناكها بغير شيء، قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة « [7].
وعن أبي العالية الرياحي (المتوفى سنة 95هـ) قال: (كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم) [8].
ولم تكن المدينة المنورة هي المعقل الوحيد للرواية، وإن كانت تحتل الصدارة في هذا الباب، بل قصد طلاب العلم بلداناً ومدناً أخرى مثل مكة والطائف واليمامة وصنعاء [9]، وذلك بسبب انتشار الصحابة في الأمصار.
وفي الواقع، كان للرحلة أثر في شيوع علم السنة وتكثير طرق الحديث، كما كان لها أثر في معرفة الرجال بصورة دقيقة، لأن المحدث يذهب إلى البلدة فيتعرف على علمائها ويخالطهم ويسألهم.
ولولا الرحلة في طلب العلم لوجد لكل مدينة طابعها الخاص المميز لها، مما يسبب العزلة العلمية، ويذكي العصبية المحلية بين العلماء باتساع الخلاف على الأحكام.
ولكن الحيوية والروح العلمية التي تحلى بها العلماء دفعتهم إلى جوب الآفاق وأخذ العلم من شتى المراكز الفكرية.
على أن أولئك المحدثين لم يهتموا - مع الأسف - بتدوين أخبار الرحلات وأوصاف المدن التي شدوا الرحال إليها، ولو فعلوا ذلك لقدموا معلومات غزيرة ومفيدة كتلك التي نجدها في كتب الرحلات المتأخرة مثل رحلة ابن جبير وابن بطوطة.
ومن مميزات ذلك العصر من الناحية العلمية الاهتمام بكتابة الحديث النبوي وتدوينه، وذلك خلافاً لما يعتقده بعض المستشرقين مثل جولد تسيهر وبلاشير اللذين رفضا صحة الأخبار المتعلقة بكتابة الحديث وتدوينه في تلك الفترة المبكرة، فجعلا زمن بداية جمع الحديث أواخر القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث الهجري [10].
ومعنى هذا الرأي أن العرب كانوا في حال من البداوة لا تسمح لهم بالانتباه إلى التدوين والكتابة في فترة مبكرة مثل القرن الأول وسنرى من خلال عرض تاريخ الكتابة والتدوين عند المسلمين أن الرأي الذي جرّد العرب في العصر الأموي من التصنيف والكتابة، وجعل صدر الدولة العباسية مبدأ العلم والثقافة والتدوين عند العرب هو رأي أملاه الهوى وعدم الموضوعية.
وحتى إذا افترضنا أن أصحاب هذا الرأي لهم نوايا حسنة، فإنهم حين يحاولون فهم التاريخ الإسلامي على غير صورته فهم مخطئون فيما ذهبوا إليه.
لقد عرف المسلمون طرقاً متنوعة لتحمل أو تلقي العلم، وهذا الجانب بحد ذاته سمة متميزة تنفرد بها الحضارة الإسلامية، ولا يعرف لها في الحضارات الأخرى شبيه.
وهذا سبب أساسي لما حدث من لبس وسوء فهم في الدراسات الاستشراقية الحديثة.
ففي كتب مصطلح الحديث يرد ذكر أصناف طرق تحمل العلم وهي متنوعة منها: السماع والقراءة والإجازة والمناولة والكتابة والوصية والوجادة.
وفي كل الحالات المذكورة ليس الحفظ أمراً ضرورياً إلا في الحالتين الأوليين وهما السماع والقراءة.
فهذا أبو هريرة (المتوفى سنة 59ه) رغم اشتهاره بقوة الذاكرة يبدو مع ذلك أنه قد أعد للرواية بعض الصحف.
روى تلميذه بشير بن نهيك عنه قال: كتبت عن أبي هريرة كتاباً، فلما أردت أن أفارقه قلت: يا أبا هريرة! إني كتبت عنك كتاباً، فأرويه عنك؟ قال: نعم اروه عني [11].
وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب (المتوفى سنة 74 هـ) يكتب الأحاديث النبوية في رسائله [12] وكانت عنده كتب في العلم ينظر فيها.
نقل إبراهيم الصائغ عن نافع أن ابن عمر كانت له كتب ينظر فيها، يعني في العلم [13].
أما أنس بن مالك (المتوفى سنة 94 هـ) فكان يحث أولاده على كتابة العلوم ويقول لهم: (يا بني قيدوا العلم بالكتاب \"[14]، حتى نقل عنه أنه كان لا يعد عالماً من لم يكتب علمه [15].
وتخبرنا المصادر في مواضيع كثيرة عن كيفية التدوين وطريقة النسخ في ذلك الوقتº قال سعيد بن جبير إنه كان يكتب عند عبد الله بن عباس على الألواح حتى يملأها [16].
وروى أحد التابعين أنه رأى طلاب العلم في مجلس البراء بن عازب الأنصاري (المتوفى سنة 72 ه/691 م) وهم يكتبون على أكفهم بالقصب [17].
وفي ضوء بعض الأمثلة في جيل التابعين يتضح بجلاء ما أبداه هؤلاء من همة في الكتابة، وكيف أنها كانت عادة معروفة في زمنهم، عكس ما يتوهمه بعض الباحثين من أن الاعتماد في النقل عند المحدثين مدى قرن ونصف كان على الذاكرة فقط، وعلى المشافهة بالتحديث، حتى اتخذه أعداء السنة سُلَّماً للطعن فيها.
لقد كانت الكتابة عند التابعين إحدى طرق تلقي العلم المألوفة بجانب السماع والقراءة.
وفي هذا الصدد يروي أحمد ابن حنبل أن الحكم بن عتيبة (المتوفى سنة 113 هـ) أخذ عن مقسم بن بجرة (المتوفى سنة 101ه) أربعة أحاديث سماعاً، أما سائر مروياته فقد أخذها كتابة [18].
وذكر ابن أبي حاتم أن أحاديث عبد الأعلى عن محمد ابن الحنيفة (المتوفى سنة 73 ه) كانت من كتاب، ثم يؤكد ذلك بقوله: » قلت يعني أنها ليس بسماع « [19].
وغالباً ما نجد في المصادر معلومات عن استعارة الكتب في ذلك الوقت! حيث استعار حيدر الطويل كتب الحسن البصري (المتوفى سنة 110هـ) فنسخها وردها عليه [20].
كما استعار الليث بن أبي سليم كتاباً من حسن بن مسلم (المتوفى سنة 106هـ)، وقال هِزر أخو حسن بن مسلم لرجل: (إذا قدمت فعرِّج على ليث بن ألي سليم وقل له حتى يرد كتاب ابن حسن بن مسلم فإنه أخذه منه) [21].
وذكر معمر بن راشد أنه نسخ كراستين حول المغازي عن التابعي عثمان الجزري المشهور بعثمان المشاهد، استعيرا منه ولم يعودا 22].
وقد سعى بعض الحكام الأمويين إلى جمع الحديث وتدوينه، ويعد مروان بن الحكم (المتوفى سنة 65هـ) أول وال أموي أراد أن يحفظ معارف مشاهير الصحابة ويصونها من الضياع.
فيروى أنه استقدم زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عندما كان عاملاً على المدينة، وطرح عليه أسئلة والكتاب جالسون خلف ستر يدونون الإجابات [23].
وكتب ابنه عبد العزيز بن مروان عندما كان والياً على مصر[24] إلى التابعي كُثَيِّر بن مُرّة الحضرمي (المتوفى سنة75 هـ) أن يكتب له ما سمعه من أحاديث الصحابة سوى أبي هريرة لأن حديثه كان مجموعاً عنده [25].
ثم جاء حفيده عمر بن عبد العزيز بن مروان إلى الخلافة، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم: » انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله « [26].
وأراد منه أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفاة سنة 98 هـ) والقاسم بن محمد (المتوفى سنة 120ه) [27]، لأنهما أعلم الناس بحديث عائشة.
لكن المحاولة الشاملة في الجمع والنسخ قام بها إمام جليل آخر هو محمد بن شهاب الزهري المدني حيث استجاب لطلب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وكان شغوفاً بجمع الحديث والسيرة، فجمع حديث المدينة وقدمه إلى عمر بن عبد العزيز الذي بعث إلى كل أرض دفتراً من دفاتره [28].
وكان لهذه الجهود أثر كبير في حفظ السنة ومنع التلاعب فيها، كما مهدت الطريق للعلماء المصنفين في القرن الثاني للهجرة، حيث ازدهرت حركة التدوين ودأب العلماء على ذلك.
لكن الفضل في أقدم أشكال تدوين الحديث يرجع بالطبع إلى مرحلة التأسيس في العصر الأموي.
--------------------------------------------
(1) خليفة: التاريخ ص 234، 236، 252، 254، 280 وابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة 1/39.
(2) ربما يقصد بالفتنة حركة ابن الزبير عندما أعلن نفسه خليفة (انظر الموطأ كتاب الحج 99) وهذا التفسير قد يتفق مع عمر ابن سيرين الذي كانت ولادته سنة 33ه/653م) مما يجعله عند حدوث فتنة ابن الزبير - رضي الله عنه - في حدود 72 ه/ 691م بعمر يمكنه من الكلام بإدراك وإطلاع عما حدث في هذه الفترة.
(3) رواه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/84 والجوزجاني: أحوال الرجال، ص 35-36.
(4) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء 1/80.
(5) الحاكم: معرفة علوم الحديث ص 6.
(6) الدارمي: السنن 1/136.
(7) ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/94.
(8) الدارمي: المصدر السابق 1 /136.
(9) ابن سعد: المصدر السابق 5/443، 503، 523، 549.
(10) سزكين: المرجع السابق 1/122.
(11) الخطيب: تقييد العلم ص 101.
(12) أحمد: المسند 2/45 - 90.
(13) البخاري: التاريخ الكبير 1/325.
(14) الخطيب: المصدر السابق ص 96.
(15) الخطيب: المصدر السابق ص 96.
(16) أحمد: العلل 1/50.
(17) الدارمي: المصدر السابق 1/128، والخطيب: المصدر السابق 105.
(18) ابن حجر: تهذيب التهذيب 10/220.
(19) ابن حجر: المصدر نفسه 6/39.
(20) ابن سعد: المصدر السابق 3/39.
(21) ابن سعد: المصدر نفسه 5/479.
(22) أحمد: العلل 1/5.
(23) ابن سعد: المصدر السابق 2/ 361.
(24) وليها من سنة65 هـ إلى سنة85 ه: انظر ابن كثير: البداية والنهاية 9/57.
(25) ابن سعد: المصدر السابق 7/448.
(26) الدارمي: المصدر السابق 1/126.
(27) ابن أبي حاتم:تقدمة المعرفة ص21.
(28) ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/76.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد