بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث الضعيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
علم الحديث مفخرة من أعظم مفاخر المسلمين، شهد بهذا الداني والقاصي، حتى قال بعض المستشرقين: فليفخر المسلمون بعلم حديثهم.
وقد كان الناس أيام فيوض العدالة يقبلون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يسألون عن إسناده، حتى وقعت الفتن فبدأوا يسألون عن الإسناد، وكما قال ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمٌّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم». [مقدمة صحيح مسلم]
وقد وضع العلماء الأفذاذ منهجًا علميًا صارمًا لقبول الحديث أو رده، وهذا - وايم اللَّه - من نعم اللَّه تعالى على هذه الأمة، أن قيَّض للسنة هؤلاء السادة يذبٌّون عنها كل عادية وينقونها من كل شائبة، منذ ما بعد عهد النبوة إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، ولما لا؟ وقد قال اللَّه - تعالى -: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وسنرى - إن شاء اللَّه تعالى - تحقيق هذا في الكلام عن الحديث الضعيف وما يتعلق به.
أولاً: ما هو
الحديث الضعيف؟
الحديث الضعيف هو الحديث الذي اختل فيه شرط أو أكثر من شروط
الحديث الصحيح، وقد جمع أهل العلم هذه الشروط في خمسة شروط، وهي:
1- اتصال
السند: وهو أن يأخذ كل راوٍ, من رواة الحديث مباشرة عمن فوقه من أول السند إلى منتهاه.
2- عدالة الرواة: وهي أن يتصف كل راوٍ, من الرواة بصفات وضوابط، مثل أن يكون مسلمًا، بالغًا، عاقلاً، غير فاسق، وليس به خارم من خوارم المروءة.
3- ضبط الرواة: وهو أن يكون كل راوٍ, من الرواة تام الضبط، وذلك بأن يحفظ ما يسمع ويؤديه كما هو (ضبط الصدر)، أو يدونه في كتاب ويحفظ هذا الكتاب من التلف أو الاعتداء (ضبط كتاب).
4- عدم الشذوذ: أي لا يكون الحديث شاذًا، بمعنى أن يخالف الثقة من هو أوثق منه.
5- عدم العلة: والعلة سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث،
مع أن الظاهر السلامة منه. مثال لحديث صحيح تتوافر فيه هذه الشروط الخمسة:
قال البخاري: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور.
فالسند متصل إذ كل راوٍ, سمع من شيخه بدون واسطة، والرواة عدول ضابطون: عبد اللَّه بن يوسف: ثقة متقن، مالك: هو الإمام مالك بن أنس إمام أهل المدينة، ابن شهاب: هو محمد بن شهاب الزهري إمام فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه، محمد بن جبير: ثقة، جبير بن مطعم: صحابي.
والحديث غير شاذ إذ لم يعارضه من هو أقوى منه، وليس فيه علة من العلل، وبالتالي فقد استكمل شروط الصحة الخمسة. [تيسير مصطلح الحديث للطحان، صقل الأفهام الجلية مصطفى سلامة]
فلو اختل شرط من هذه الشروط المذكورة انتقل الحديث من الصحة إلى الضعف.
ثانيًا: أقسام الحديث الضعيف:
يمكن إرجاع أسباب الضعف إلى سببين رئيسين:
1- انقطاع الإسناد.
2- الطعن في الراوي سواء كان من جهة العدالة أو الضبط، والشذوذ والعلة مرجعهما إلى الطعن في الراوي.
وتحت هذين السببين توجد أنواع كثيرة للحديث الضعيف.
أولاً: الحديث الضعيف بسبب انقطاع في
الإسناد:
1- الحديث المعلَّق: وهو الذي حذف من أول إسناده من جهة المصنف أو المخرِّج راوٍ, أو أكثر على التوالي، حتى لو حذف جميع السند، وسمي بالمعلق لتشبيهه بالشيء المعلق بالسقف لا يصل إلى الآخر، فلو أن راوي الحديث حذف شيخه فقط كان الحديث معلقًا، ولو حذف شيخه وشيخ شيخه على التوالي كان معلقًا، ولو حذف كل السند وصولاً إلى الصحابي أو النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أيضًا معلقًا.
مثال: ما أخرجه
البخاري في مقدمة باب ما يذكر في الفخذ: «وقال أبو موسى: غطَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركبتيه
حين دخل عثمان.
فهذا حديث معلق، لأن البخاري حذف جميع إسناده إلا الصحابي.
ومثله: ما علقه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبب عذاب القبر فقال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب القبر: كان لا يستتر من بوله.
فجزم به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي أنه ثابت عنه، وقد وصله في مواضع أخرى من صحيحه.
والحديث المعلق حديث مردود لأنه فقد شرطًا من شروط القبول (الصحة) وهو اتصال السند مع عدم علمنا بحال المحذوفين من الرواة.
وهنا يثار سؤال هام: إذا كان الحديث المعلق حديثًا ضعيفًا، فما حكم الأحاديث المعلقة التي في صحيحي البخاري ومسلم، وهما كتابان قائمان على الصحيح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
أولاً: الأحاديث المعلقة التي في صحيح البخاري: تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: ما كان بصيغة الجزم كقال، وفعل، وأمر، وروى، وذكر فلان، فهو حكم بصحته إلى المضاف إليه، ويبقى النظر في باقي الإسناد، وهو أقسام:
1- ما يلتحق بشرط البخاري لكنه علقه ولم يصله، إمَّا الاستغناء بغيره عنه مع إفادة
الإشارة إليه، وعدم إهماله بإيراده معلقًا مختصرًا.
وإمَّا لكونه لم يسمعه من شيوخه، أو سمعه مذاكرة، أو شك في سماعه، فما رأى أن يسوقه مساق الأصول، قال
الحافظ: وقد استعمل هذه الصيغة فيما لم يسمعه من شيوخه فيوردها بصيغة قال فلان ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم.
2- ما لا يلتحق بشرط البخاري لكنه
صحيح على شرط غيرهº كقوله في الطهارة، وقالت عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر اللَّه على كل أحيانه، فهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
3- ما هو حسن صالح للحجة،
كقوله: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: اللَّه أحق أن يستحيي منه. فقد أخرجه أصحاب السنن.
4- ما هو ضعيف لا من ناحية السند، فليس هناك قدح في رجاله، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، كقوله في الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب (قميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وقد استدل به البخاري - رحمه الله - على جواز أخذ (العرض) في الزكاة، والعرض هو ما عدا النقدين) الحديث، فإسناده إلى طاووس صحيح، إلاَّ أن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
القسم الثاني: ما كان بغير صيغة الجزم، كيُروى، ويُذكر، ويُحكى، ويُقال...قال ابن الصلاح: أو في الباب عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -.وهذا القسم أحاديثه لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه ولا تنافيها
أيضًا لكن فيها ما هو صحيح وما ليس بذلك، وهو يأتي بهذا القسم إما لكونه رواه بالمعنى، كقوله في الطب: ويُذكر عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرٌّقى بفاتحة الكتاب.
فإنه أسنده في موضع آخر بلفظ: أن نفرًا من الصحابة مروا بحي فيه لديغ، فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب، وفيه: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه.
- وإما لأنه ليس على شرطه كقوله في الصلاة: ويُذكر عن عبد اللَّه بن السائب قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون - عليهما السلام - أخذته سعلة فركع، وهو صحيح أخرجه مسلم، إلا أن البخاري لم يخرج لبعض رواته».
- أو لكونه (أي البخاري) ضم للحديث ما لم يصح، فأتى بصيغة تستعمل فيهما (أي في الصحيح وغيره)، كقوله في الطلاق باب: لا طلاق قبل نكاح، عن علي بن أبي طالب، وابن المسيب، وذكر نحوًا من ثلاثة وعشرين تابعيًا أنها لا تطلق (أي لا يقع الطلاق قبل النكاح).
- وقد يورده أيضًا في الحسن، كقوله في البيوع: ويُذكر عن عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إذا بعت فَكِل، وإذا ابتعت فاكتل. هذا الحديث رواه الدارقطني من طريق عبيد اللَّه بن المغيرة، وهو صدوق، عن منقذ مولى عثمان، وقد وثق، عن عثمان، وتابعه سعيد بن المسيب، ومن طريقه أخرجه الإمام أحمد في مسنده، إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاع، والحديث حسن لما عضده من ذلك.
- ومن أمثلته ما أورده من ذلك وهو ضعيف قوله في الوصايا: ويُذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بالدين قبل الوصية، وقد رواه الترمذي موصولاً من طريق الحارث عن علي، والحارث ضعيف.
وهذا الضعيف (الذي لا عاضد له) قليل جدًا، وحيث يقع يتعقبه البخاري بالتضعيف، وهذه عادته في ضعيف لا عاضد له من موافقة إجماع أو نحوه، ومثال ذلك في كتاب الصلاة: ويُذكر عن أبي هريرة ورفعه: لا يتطوع
الإمام في مكانه، فقد قال عقبه: ولم يصح. وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سُليم، وهو ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف وقد اختلف عليه فيه.
وما أورده البخاري في الصحيح مما عبر عنه بصيغة التمريض ليس بواهٍ, لإدخاله في الكتاب الموسوم بالصحيح، فإيراده في الصحيح يشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به ويركن إليه.
لذا يقول ابن الصلاح: إذا تقرر حكم التعاليق المذكورة، فقول البخاري: ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، وقول الحافظ أبي نصر السجزي: أجمع الفقهاء وغيرهم أن رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع البخاري صحيح، قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شك فيه لم يحنث، وقد أفتى بذلك إمام الحرمين كما ذكر العراقي في نكته على مقدمة ابن الصلاح.
واعلم أيضًا أن الحافظ ابن حجر أغلق معلقات البخاري في كتابه: تغليق التعليق.
ومن أمثلة الأحاديث المعلقة حديث المعازف الذي علقه الإمام البخاري جزمًا (أي هو صحيح بالنسبة للمضاف إليه - كما سبق). قال البخاري: وهشام بن عمار من شيوخ البخاري الذين لقيهم وسمع منهم وتحمل عنهم وعلق الحديث عنه بصيغة الجزم، وهذا لا يقتضي إسقاط راوٍ, بينه وبين شيخه، وإنما هو عند أهل العلم على
الاتصال إلا ابن حزم الظاهري، خالف فقال هو منقطع. ثم ساق البخاري السند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف... وقرر إباحة المعازف ومشى على نهجه كل من أخذ بقوله، والحديث صحيح للآتي:
1-
علقه البخاري بصيغة الجزم.
2- أغلقه الحافظ ابن حجر في كتاب «تغليق التعليق».
3- أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبرقاني في صحيحه، والطبراني والبيهقي، مسندًا متصلاً إلى هشام بن عمار وغيره فصحَّ الحديث.
ثانيًا: الأحاديث المعلقة التي في صحيح مسلم: هي قليلة جدًا، ذكر ابن
الصلاح أنها وقعت في أربعة عشر موضعًا، وهذه المواضع الأربعة عشر وصلها مسلم نفسه في الصحيح.
قال الحافظ العراقي: فعلى هذا ليس في كتاب مسلم بعد المقدمة حديث معلق لم يصله إلاَّ حديث واحد فقط وهو حديث أبي الجهم: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بئر جمل، علقه الإمام مسلم وقال: وروى الليث بن سعد...
وهذا الحديث في صحيح البخاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ السلام. [البخاري 337، تدريب الراوي، شرح نزهة النظر لابن عثيمين، تيسير مصطلح الحديث للطحان، أسئلة وأجوبة
في مصطلح الحديث للعدوي- بتصرف]
2- الحديث المعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر على التوالي ومثالهº ما رواه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» بسنده إلى
القعنبي عن مالك أنه بلغه أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق». قال الحاكم: هذا معضل عن مالك أعضله هكذا في الموطأ. وهذا الحديث معضل لأنه سقط من إسناده راويان متواليان بين مالك وأبي هريرة، وقد عرفنا أنه سقط منه هذان الاثنان من رواية الحديث خارج الموطأ هكذا: عن مالك عن محمد بن عَجلان عن أبيه عن أبي
هريرة. والحديث المعضل حديث ضعيف وهو أسوأ حالاً من الحديث المرسل والمنقطع لكثرة المحذوفين من الإسناد، فهو مردود من جهتين: لانقطاع الإسناد، والجهالة بالرواة المحذوفين.
ويتعرف على الحديث المعضل بجمع طرق الحديث والنظر في كل راو، عن من روى، ومن الذي يروي عنه، ويمكن التعرف على الرواة الذين سقطوا من السند إذا جاء الحديث متصلاً في مكان آخر، كالمثال السابق.
وقد جعل ابن الصلاح (في المقدمة) الحديث الذي حذف منه الصحابي والنبي - صلى الله عليه وسلم - معضلاً.
ومثاله قول الأعمش عن الشعبي: يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملته فيختم على
فيه فتنطق جوارحه أو لسانه، فيقول لجوارحه: أبعدكن اللَّه، ما خاصمت إلا فيكن».
[رواه الحاكم]وهذا الحديث أعضله الأعمش، وقد رواه مسلم عن الشعبي عن
أنس قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: «أتدرون ممن ضحكت؟ » فقلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فقال: «من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، فيقول: بلى، قال: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدًا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين عليك شهودًا، فيختم على فيه، ثم يقال لأركانه انطقي... ». الحديث.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد