« القياس » المصدر الرابع للتشريع


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:

«تنويه: نأسف عن استمرار بحوث مسائل في السنة، على أن نعود إليها - إن شاء اللَّه - في وقت لاحق».

القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع بعد القرآن والسنة والإجماع.

القياس لغة: هو التقدير، ومنه قولهم: قست الثوب بالذراع، إذا قدرته به، والقياس: المساواة، يقال: لا يقاس بفلان، أي لا يساويه.

القياس اصطلاحًا: إلحاق حكم الأصل بالفرع لعلة جامعة بينهما، أو: إلحاق ما لم يرد فيه نص بما ورد فيه نص في الحكم، لاشتراكهما في علة ذلك الحكم.

شرح التعريف: حكم الأصل: وهي الأحكام من وجوب أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة.

الأصل: المقيس عليه.

الفرع: المقيس.

العلة: هي الوصف الذي اعتبر مظنة إثبات حكم الأصل، فإنها مناطه لأنها مكان تعليقه.

أركان القياس: من التعريف السابق يتضح أن للقياس أربعة أركان:

1- الأصل: وهو ما ورد النص بحكمه.

2- الفرع: وهو ما لم يرد نص بحكمه ونريد أن يكون له حكم الأصل بطريق القياس.

3- حكم الأصل: وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل ويراد أن نعديه للفرع.

4- الوصف الجامع (العلة الجامعة): وهو الوصف الموجود في الأصل والذي من أجله شرع الحكم فيه.

أمثلة بيانية:

مثال 1- قال اللَّه - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90].

والآية نص صريح في تحريم الخمر، فكيف نقيس عليها النبيذ مثلاً؟

تطبيق أركان القياس الأربعة - كما ذكرنا-:

1- الأصل (المقيس عليه): الخمر.

2- الفرع (المقيس): النبيذ.

3- حكم الأصل: تحريم الخمر.

4- العلة الجامعة: الإسكار.

فنعدي حكم الأصل وهو الإسكار من الخمر إلى النبيذ لاشتراكهما في نفس العلة (الإسكار)، وعليه يحرم شرب النبيذ بالقياس.

ومعلوم أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». [رواه مسلم وغيره]

فلو أن هذا الحديث لم يصل إلى بعض الفقهاء أو وصله ولم يصح عنده، لكان التحريم قد جاء بالقياس.

مثال 2: قال اللَّه - تعالى -: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25].

هذه الآية في حد الزنا على الأمة فيقاس عليها العبد لجامع الرق بينهما.

تطبيق أركان القياس الأربعة على الآية:

1- الأصل (المقيس عليه) الأَمَة.

2- الفرع (المقيس): العبد.

3- حكم الأصل: تنصيف حد الزنا على الأَمَة.

4- العلة: الرق.

مثال3: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث القاتل».

فالنص ورد بحرمان القاتل من الميراث، وذلك لاستخدام القتل العمد والعدوان وسيلة لاستعجال الشيء قبل أوانه، فيرد عليه مقصده السيئ ويعاقب بحرمانه.

لكن إذا قتل الموصى له الموصي، فما حكمه؟ لم يرد نص في الحكم فنستخدم القياس.

1- الأصل (المقيس عليه): قتل الوارث مورثه.

2- الفرع (المقيس): قتل الموصى له الموصي.

3- حكم الأصل: الحرمان من الميراث.

4- علة الحكم: استعجال الشيء قبل أوانه بطريقة الإجرام.

مثال 4: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه، أو يبتاع على بيع أخيه حتى يذر».

فالنص جاء بتحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه أو الابتياع على ابتياع أخيه، فماذا في الاستئجار؟

فلم يرد النص فيها فيستخدم القياس:

الأصل (المقيس عليه): عدم جواز البيع أو الخطبة على خطبة المسلم.

الفرع (المقيس): استئجار المسلم على استئجار أخيه.

حكم الأصل: النهي.

علة الحكم: الاعتداء على حق الغير وما يترتب على ذلك من العداوة والبغضاء.

مثال 5: قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9].

فالنص في النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فماذا عن الاستئجار أو الرهن أو النكاح في هذا الوقت؟ فيستخدم القياس:

الأصل (المقيس عليه): البيع وقت النداء يوم الجمعة.

الفرع (المقيس): الرهن أو الاستئجار أو النكاح أو غيره.

حكم الأصل: النهي.

علة الحكم: تعويق السعي للصلاة واحتمال تفويتها.

 

حجية القياس:

إن الأحكام الشرعية قضاها اللَّه - تبارك وتعالى- ، وفيها المنافع للعباد في الدنيا والآخرة، وفيها درء الضرر على العباد في الدارين.

* ولمَّا كانت النصوص محدودة متناهية قطعًا، والمسائل كثيرة، بل غير متناهية، ولو كانت الشريعة صريحة في النص على كل مسألة لكان القرآن والسنة جمعًا غير متناهٍ, من الصفحات.

ومن هذه المسائل التي لا تنتهي: حكم الصلاة في الطائرة أو على سطح كوكب آخر، وحكم استعمال حبوب منع الحمل، أو المانع المسمى بـ«اللولب»، وحشو الأسنان واستبدالها، وغير ذلك من آلاف المسائل.

وباستقراء موارد الشريعة، وُجِدَ أنه ما من حكم إلاَّ وله علَّة بنى عليها سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات، ولكن اللَّه - تبارك وتعالى - حجب عنَّا أغلب علل العبادات فلا سبيل لإدراكها، أما المعاملات فقد أظهرها اللَّه - تعالى - لنا وأذن في إدراكها، وهذه المعاملات يمكن حل المسائل المستحدثة على ضوئها، وهذا هو المسمَّى بالقياس.

ونفي القياس يعني عجز الشريعة عن حل المسائل المستحدثة، ورحم اللَّه الإمام أحمد حيث قال: إنه ما من مسألة إلاَّ وقد تكلَّم فيها الصحابة أو في نظيرها.

فالأحكام إذن نوعان: أحكام استأثر اللَّه بعلم عللها ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل ليبلو عباده ويختبرهم هل يمتثلون وينفذون، ولو لم يدركوا ما بني عليه الحكم من علة، وتسمّى هذه الأحكام بالتعبدية (مثل تحديد عدد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير الحدود والكفارات...إلخ).

والنوع الثاني من الأحكام لم يستأثر اللَّه - تعالى - بعللها، بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أو أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تُعدَّى من الأصل إلى غيره بواسطة القياس.

ضوابط القياس:

مذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص من القرآن أو السنة، عُمِل بالقياس، ويكون هذا الحكم شرعيًا ويسع المكلف اتباعه والعمل به.

والناس في القياس طرفان ووسط، فطرف أنكر القياس أصلاً، وطرف أسرف في استعماله حتى ردَّ به النصوص الصحيحة، والحق هو التوسط بين الطرفين، وهذا هو مذهب السلف، فإنهم لم ينكروا أصل القياس ولم يثبتوه مطلقًا، بل أخذوا بالقياس واحتجوا به، ولكن وفق الضوابط الآتية:

الضابط الأول: ألاَّ يوجد في المسألة نص، لأن وجود النص يسقط القياس، فلابد أولاً من البحث عن النص قبل استعمال القياس (والمراد بالنص هنا، النص القاطع للنزاع، يعني ليس نصًا محتملاً لعدة تأويلات).

فلا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة في الإعواز.

الضابط الثاني: أن يصدر هذا القياس من عالم مؤهل قد استجمع شروط الاجتهاد، فلا يسع كل أحد حتى وإن ألمَّ بالعلوم الشرعية أن يجتهد ويقيس، فضلاً عمن لا يعرف شيئًا على الإطلاق من الدين فإنه يجتهد ويعمل الرأي الفاسد والهوى باسم الاجتهاد.

الضابط الثالث: أن يكون القياس في نفسه صحيحًا قد استكمل شروط القياس الصحيح (كما سيأتي).

فهذا هو القياس الذي أشار إليه السلف واستعملوه، وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به، وهو الميزان الذي أنزل اللَّه مع كتابه، قال - تعالى -: الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان [الشورى: 17].

ويقول - سبحانه -: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [الحديد: 25].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك القياس الصحيح حق، فإن اللَّه بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل، وما يعرف به العدل.

وقال ابن القيم في القياس الصحيح: هو الميزان الذي أنزل اللَّه - تعالى - مع كتابه.

وهذا القياس من العدل الذي جاءت به الشريعة ولا يمكن أن يقع بينهما شيء من التعارض أو التناقض، أما القياس الذي خلا من هذه الضوابط أو من واحدٍ, منها فهو القياس الباطل والرأي الفاسد، وهو الذي ذمه السلف.

والله - تعالى - حكم حكمًا واحدًا في الأشياء المتماثلة، وهو - تعالى - لا يسوِّي بين الأشياء المختلفة في الحكم أبدًا، بل يفرق بينهما، كما قال - تعالى -: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35، 36].

فهذا نص صريح في أن اللَّه - جل وعلا - يفرِّق بين المسلمين والمجرمين، ويفهم من الآية أنه- تبارك وتعالى -يسوِّي بين المسلمين بعضهم من بعض...

وهذا هو عطاء اللَّه - تعالى -، يذكِّر العقول وينبه الفطر بما أودع فيها من التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين.

وكذا في قوله - تعالى -: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28].

فالآيات والأحاديث تثبت تلك الحقيقة من إثبات الحكم الواحد للأشياء المتماثلة والتفريق في الحكم بين الأشياء المختلفة وهذا هو عين القياس.

 

أقسام القياس:

ينقسم القياس إلى أقسام متعددة بعدة اعتبارات:

أولاً: باعتبار العلة، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قياس العلة: وهو ما صُرِّحَ فيه بالعلة، فيكون الجامع هو العلة، وذلك لقوله - تعالى -: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [آل عمران: 137].

الأصل (المقيس عليه): المكذبين.

الفرع (المقيس): المخاطبين (أنتم).

حكم الأصل: الهلاك.

العلة الجامعة: التكذيب.

ويطلق على هذا النوع من القياس القياس الجلي لأن العلة فيه منصوص عليها.

 

ثانيًا: قياس الدلالة:

وهو ما لم تذكر فيه العلة، وإنما ذكر فيه لازم من لوازمها (كأثرها أو حكمها)، فيكون الجامع هو دليل العلة، وذلك كقوله - تعالى -: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39]

الأصل (المقيس عليه): الأرض.

الفرع (المقيس): الموتى.

حكم الأصل: الإحياء بعد الإماتة.

العلة: عموم قدرته - سبحانه وتعالى -.

دليل العلة: هو إحياء الأرض. (وهو الجامع هنا في القياس).

 

ثالثًا: القياس في معنى الأصل:

وهو ما كان بإلغاء الفارق فلا يُحتاج إلى التعرض إلى العلة الجامعة، كإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيف المنهي عنه أيضًا: فلا تقل لهما أفٍ,، وهذا القسم من القياس الجلي ويسمى بمفهوم الموافقة.

 

ثانيًا: ينقسم القياس إلى قياس طرد وقياس عكس:

فقياس الطرد: هو ما اقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه.

وقياس العكس: هو ما اقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.

يقول ابن تيمية - رحمه الله -: وما أمر اللَّه به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يُعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم (قياس الطرد) فيتقي تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة.

ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك (قياس العكس).

 

---------------------------------------------------------

- المراجع المستخدمة مع شيء من التصرف:

1- الوجيز في أصول الفقه: د. عبد الكريم زيدان.

2- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني.

3- علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف.

4- التأسيس في أصول الفقه: مصطفى سلامة.

5- مذكرة في أصول الفقه: للشنقيطي.

6- أصول الفقه: د. شعبان محمد إسماعيل.

7- أقيسة الصحابة وأثرها في الفقه الإسلامي:د. محمود حامد عثمان.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply