بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، ونصلي ونسلم على صفوة رسله وإمام أنبيائه وأصفيائه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد:
رمضان أسرع قادم وأسرع ذاهب، فإن شهور السنة وهي جزء من عمر الإنسان تمرٌّ مرَّ السحاب، ولا نشعر بذلك إلا بقدوم رمضان ورحيله، نظل طوال العام نرجو وندعو الله أن نبلغه، فإذا ما بلغناه وسررنا به، آذننا بالرحيل، وصدق الله - عز وجل - لقد خلقنا الإنسان في كبد.
وإن من أعظم الكبد مرور السنوات، وتبدل الأحوال، بين شيب وشباب وصحة ومرض، وغنى وفقر وتلك الأيام نداولها بين الناس.
فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا في رمضان واخلفنا خيرًا منها.
وإذا نظرنا في حالنا في رمضان وجدنا الناس صنفين رئيسين، وبينهما أصناف تتفاوت قربًا وبعدًا، هذان الصنفان كعبدين لسيدٍ, واحد، أحدهما طائع مقبل، والآخر عاصٍ, مدبر، فالعبد الأول إذا ما كلفه سيده بعمل أتى به على الوجه الأكمل، بمحبةٍ, وتفانٍ,، يرجو أن يُكلَّف بعمل آخر.
والعبد الآخر يأتي بالعمل وهو كاره له، يؤديه كيفما اتفق، يصل إلى نهايته بشقِّ النفس، ويتمنى ألا يُكلّف بعمل جديد.
وهذا العبد الثاني هو نموذج للصنف الثاني في رمضان، يصوم صوم عادة لا عبادة، لا يقلع عن المعاصي في نهار رمضان فضلا عن ليله، وإنك لتعجب من هؤلاء الذين يُجوِّعون أنفسهم في نهار رمضان، وألسنتهم وأعينهم وأيديهم وأرجلهم تعمل في معصية الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه\". {صحيح البخاري}
وهؤلاء مغبونون في تجارتهم مع الله، يضيِّعون رأس مالهم وهي أيامهم هباءً منثورا، وفي الحديث: \"... كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها\". {صحيح مسلم}.
وفي الحديث: \"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ\".
وفي الحديث: \"اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك\". {شرح السنة للبغوي وهو في صحيح الجامع بنحوه}.
أما الصنف الأول فهو الذي يحاول أن يحقق التقوى في رمضان كما أمره الله، يصوم صوم عبادة ويتمنى أن تكون السنة كلها رمضان، يحزن لمرور أيامه، ويفجع إذا آذن الشهر بالرحيل، ولهؤلاء نقول: يا أخي لا تحزن فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عالج المحبين بعد مرور شهر رمضان، فمدَّ وشائج القربى بيننا وبين شهر القرآن.
فما رمضان إلا صيام، وقيام، وقرآن، وتقوى.
فإن كنت حزينًا على الصيام، فقد سنَّ لك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصيام على مدار العام، بداية من شوال ووصولا إلى شعبان، فلم تُحرم الصيام.
سنَّ لك الستة الأيام من شوال وبيَّن لك فضلها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر\". {مسلم وغيره}.
فبإمكانك أن تعاود الصوم من ثاني أيام العيد، متصلات أو منفصلات، وإن كان الأفضل المسارعة إلى الطاعة من باب وعجلت إليك رب لترضى.
وسنَّ لك صيام يوم عرفة، وعاشوراء ويومًا قبله، فقال: \"... صيامُ يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله\". {صحيح مسلم}.
ولما قيل له يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى \"يوم عاشوراء\" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {صحيح مسلم}.
وحثَّ - صلى الله عليه وسلم - على صيام أكثر المحرم، فقال: \"أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم... \" {صحيح مسلم}.
وكان يصوم أكثر شعبان، فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: \"... وما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهرٍ, إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان\". {متفق عليه}.
وكان يصوم الاثنين والخميس، ولمَّا سُئل عن ذلك، قال: \"إن أعمال العِباد تعرض يوم الاثنين والخميس\" {صحيح أبي داود}.
وسنَّ صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
\"... فعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر... \" {متفق عليه}.
ويستحب أن تكون في أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر لورود ذلك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لأبي ذر: يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة\". {صحيح ابن ماجه}.
ولا يشترط أن تكون في هذه الأيام، ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما سئلت: أكان الرسول يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم.
وسئلت من أي الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي الشهر يصوم.
ومدح صيام داود - عليه السلام -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا.. \" {متفق عليه}.
هذا عن الصيام، أمَّا عن القيام، فهذا دأب النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال العام ومن خصائص المتقين إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون {الذاريات: 15، 18}.
حثَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: \"عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم\" {تمام المنة للألباني}.
وهو شرف المؤمن، فعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد عِش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس\" {السلسلة الصحيحة}.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص: \"يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل\" {متفق عليه}.
وقال عن عبد الله بن عمر في الرؤيا التي رآها: \"نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل\" فكان بعدُ لا ينام من الليلِ إلا قليلا. {البخاري}.
أما عن القرآن، فهذا ديدنك طوال العام، فهل لا يُقرأُ القرآن إلا في رمضان وبعد ذلك نتخذه مهجورًا، إن القرآن كلام الله، كتاب حياة المسلم صباحه ومساءه، فضل قراءته عميم، وثوابه عظيم، تضاعف لك الحسنات أضعافًا مضاعفة كلما قرأت فيه، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف\" {صحيح سنن الترمذي}.
والله - تعالى - يرفع بالقرآن أقوامًا، كما بالحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين\". {صحيح مسلم}.
القرآن يجعلك طيب المظهر والجوهر، ففي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيِّب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مرُّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر\" {متفق عليه} {الأترجة: فاكهة حلوة الطعم حلوة الرائحة لها منظر جميل كالتفاح}.
أما تقوى الله - عز وجل - التي جعلها الله علة الصيام: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون {البقرة: 183}.
فقد وردت في القرآن بمادتها في قرابة ثلاثمائة موضع من آياته حتى يمكن أن يقال أنها الغاية من الإسلام.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بها خطبه، حاثًا عليها، آمرًا بها (خطبة الحاجة)، آثارها عظيمة في الدنيا والآخرة، يقول الله - تعالى -: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ويقول - تعالى -: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وبالتقوى تتحقق معية الله (وهي معية خاصة إضافة للمعية العامة).
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وهي سبيلك للفوز بالجنة وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا. ونجاتك من النار وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا @ ثم ننجي الذين اتقوا.
أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت وكل مكان، فقال: \"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن\" {صحيح الجامع}.
ولما جاءه رجل وطلب منه الوصية لأنه يريد السفر، فقال: يا رسول الله! إني أريد سفرًا فزوِّدني، قال: زودك الله التقوى... \" {صحيح الترمذي}.
ولما وعظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بعد صلاة الغداة (الفجر) موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله... \" {صحيح الترمذي}.
وهكذا أخي المحب الحزين لمرور شهر رمضان، في هدي نبيك - صلى الله عليه وسلم - شفاء همِّك وغمك.
وربٌّ رمضان هو ربٌّ سائر العامِ، يحب أن يطاع ويكره أن يُعصى، فكن حيث أمرك وانته عما نهاك.
ولك في النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة، فكان إذا فرغ من عبادة سارع إلى غيرها ممتثلا أمر ربه فإذا فرغت فانصب {الشرح: 7}.
وقد أمره ربه - عز وجل - بدوام العبادة حتى الموت واعبد ربك حتى يأتيك اليقين {إبراهيم: 99}.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد