الأحاديث الجامعة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين. وبعد، فإنَّ في السٌّنةِ النبويةِ الشريفةِ أحاديثَ جوامِعَ وغُرَراً فَرائدº جَمعَت فأوعَتº إذ خُصَّ نبيٌّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بِجَوامِعِ الكَلِم وبِدائعِ الحِكم كما أُوتِيَ خزائنَ العلمِ وروائعَ الأخلاقِ والآداب والقِيَم. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - عن نفسِه الشريفة: (فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ,: أُعطِيتُ جَوامعَ الكلمِ، [1] ونُصِرتُ بالرٌّعبِ، وأُحلَّت لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرضُ طَهُوراً ومسجداً، وأٌرسِلتُ إلى الخلقِ كافةً، وخُتم بي النبيون). [2] وفي رواية: (بُعثتُ بِجوامِعِ الكَلمِ، [3] ونُصِرتُ بالرٌّعبِ، وبينا أنا نائم أُتِيتَ بِمفاتيحِ خَزائنِ الأرضِº فوُضِعَت بين يَدَيَّ). [4] قال المناوي - رحمه الله -: \"أُعطِيتُ جَوامِعَ الكَلِم: أي مَلكةً أقتدرُ بها على إيجازِ اللفظِ مع سعةِ المعنَى بنظمٍ, لطيفٍ, لا تعقيدَ فيه يعثر الفكرُ في طلبِه، ولا التواء يَحارُ الذهنُ في فهمِهº فما مِن لفظةٍ, يسبقُ فهمُها إلى الذهنِ إلا ومعناها أسبق إليه\". [5]

وقد اعتنَت هذه الأحاديثُ الجوامِعُ بأصُولِ الإسلامِ وقواعدِ الدِّينِ وأركانِ الإيمانº حتى جَمعَ منها النووي - رحمه الله - أربعين حديثاً، قال في شأنها: \"قد صنَّفَ العلماءُ - رحمهم الله - في هذا الباب ما لا يُحصَى من المصنَّفات، فأولُ مَن عَلِمتُه صنَّفَ فيه عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرّباني ثم الحسن بن سفيان النّسوي, وأبو بكر الآجُرّي, وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصبهاني, والدارقطني, والحاكم, وأبو نُعيم, وأبو عبد الرحمن السّلمي, وأبو سعيد الماليني وأبو عثمان الصابوني وعبد الله بن محمد الأنصاري, وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يُحصَون من المتقدِّمين والمتأخرّين. [6] وقد استخرت الله في جمع أربعين حديثاً اقتداءً بهؤلاء الأئمة الأعلام وحُفاظ الإسلام\". وقد راعى - رحمه الله - الأحاديثَ القواعدَ الجوامع، فقال - رحمه الله -: \"مِن العلماء مَن جَمعَ الأربعين في أصُولِ الدين، وبعضُهم في الفُروع، وبعضُهم في الجهادِ، وبعضُهم في الزهدِ، وبعضُهم في الآداب وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصدُ صالحة -رضي الله عن قاصِدِيها-. وقد رأيتُ جَمعَ أربعين أهمَّ مِن هذا كلِّه، وهي أربعون حديثاً مُشتملةٌ على جميع ذلك. وكلٌّ حديثٍ, منها قاعِدةٌ عظيمةٌ مِن قواعدِ الدين، وقد وَصَفَه العلماء بأنَّ مَدارَ الإسلام عليه، أو هو نِصفُ الإسلام أو ثُلثُه أو نحو ذلك\". [7]

ومن هذه الأحاديثِ الجوامِع: التي وَصفَها العلماءُ بأنَّ مدار الإسلام عليها، أو أنها أصولُ الأحاديثِ أو أصولُ الدين أو أصولُ السٌّنن: حديثُ (الأعمال بالنيات)، و(الحلال بّيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، و(مَن أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منهº فهو رَدُّ)...

وقال ابن رجب - رحمه الله - في كلامِه عن حديث (الأعمال بالنيات): \"هذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدور الدِّينُ عليهاº فروى عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلثُ العِلم، ويدخل في سبعين باباً مِن الفقه، وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال: أصولُ الإسلامِ على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث عائشة: (مَن أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منهº فهو رَدُّ)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ).وقال الحاكم: حدثونا عن عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه ذكر قوله - عليه الصلاة والسلام -: (الأعمال بالنيات)، وقوله: (إنَّ خلقَ أحدِكم يجمع في بطنِ أمه أربعين يوما)، وقوله: (مَن أحدَثَ في دينِنا ما ليس منهº فهو رَدُّ)º فقال: ينبغي أن يبتدأ بهذه الأحاديثِ في كلِّ تصنيفٍ,º فإنها أصُولُ الأحاديثِ. وعن إسحاق بن راهويه قال: أربعة أحاديث هي من أصُولِ الدين: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما)، وحديث (من صنع في أمرنا شيئا ما ليس منه فهو رد)، وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعَ أمرِ الآخرةِ في كلمةٍ, واحدة: (مَن أحدثَ في أمرِنا ما ليس منهº فهو ردُّ)، وجَمعَ أمرَ الدنيا كلَّه في كلمةٍ, واحدة: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)º يدخلان في كل باب\"[8].

ثم أوردَ - رحمه الله - الخلافَ الواردَ عن الإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن، فقال: \"وعن أبي داود قال: نظرتُ في الحديث المسندº فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرتُ فإذا مَدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث أبي هريرة: (إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباًº وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسَلِين) الحديث، وحديث (مِن حُسنِ إسلامِ المرء تَركُه ما لا يَعنِيه)، قال: فكلٌّ حديثٍ, من هذه الأربعة رُبعُ العلم).

وعن أبي داود - رضي الله عنه - أيضا قال: كتبتُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما تَضَمَّنَه هذا الكتابُ ـ يعني كتابَ (السنن) ـ جمعتُ فيه أربعةَ آلاف وثمانمائة حديثº ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما الأعمالُ بالنيات، والثاني: قوله: - صلى الله عليه وسلم - (مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُه ما لا يعنيه)، والثالث: قوله: - صلى الله عليه وسلم - (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه)، والرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: (الفقهُ يدور على خمسةِ أحاديث: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وقوله: - صلى الله عليه وسلم - (لا ضرر ولا ضرار)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (الدين النصيحة)، وقوله: (ما نَهيتُكم عنه فاجتَنِبُوه، وما أمَرتُكم بهº فائتوا منه ما استطعتم)، وفي رواية عنه قال: (أصولُ السننِ في كل فَنٍّ, أربعة أحاديث: حديث عمر (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث (مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُه ما لا يعنيه)، وحديث: (ازهَد في الدنيا يحبك الله، وازهَد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)\". [9]

فهذه الأحاديثُ الجوامعُ عند الشافعي وأحمد وأبي عُبَيد وأبي داود والنووي وابن رجب تدور كلٌّها على القضايا الإيمانية والدروس التربوية والتغيير النفسي والإصلاح الاجتماعيº فيا سَعادةَ مَن اعتنَى بهذه المعارفِ المهمَلةِ في زمانِنا ومَناهِجِنا وهُمُومِ كثيرٍ, مِنَّا. والله المستَعان!

ورحم الله الحافظ أبا الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسيº حيث قال:

عُمدةُ الدِّينِ عندنا كلماتٌ *** أربعٌ مِن كَلامِ خيرِ البرية!

اتقِ الشبهاتِ وازهَد ودَع ما **** ليس يَعنِيك واعمَلَن بِنِية! [10]

 

ــــــــــــــ

[1] قال البخاري: \"بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك\". صحيح البخاري 6/2537، حديث 6611. كتاب (التعبير) باب (المفاتيح في اليد)

[2] وقد روى أبو موسىt قال: (بعثَنِي رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - ومعاذاً إلى اليمن فقال: ادعُوا الناس وبَشِّرا ولا تُنفِّرا ويَسِّرا ولا تُعسِّرا! قال: فقلتُ: يا رسولَ الله أفتِنا في شَرابَين كُنا نصنَعهما... وكان رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامعَ الكلِم بخواتمهº فقال: أنهَى عن كلِّ مُسكِرٍ, أسَكَرَ عن الصلاة). صحيح مسلم 1/371، حديث 523.

[3] صحيح مسلم 3/1586، حديث 1733.

[4] صحيح مسلم 1/371، حديث523.

[5] فيض القدير للمناوي 1/563.

[6] زاد محمد بن جعفر الكتاني - رحمه الله - جماعة على هؤلاء منهم: إسماعيل بن عبد الغفار الفارسي، وعبد القاهر بن عبد الله الرهاوي، وأبو طاهر السلفي، ومحمد بن أبي الصيف، ومحمد بن محمد بن علي الطائي، ومحمد بن أحمد الفاسي صاحب (شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام)، وأبو القاسم بن عساكر الذي ألّف (الأربعين البلدانية) و(الأربعين الطوال) و(الأربعين في الجهاد)، ومنهم كذلك محمد بن إسحاق الكلاباذي، ومحمد بن إبراهيم المقري... رحمة الله عليهم أجمعين. انظر: الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السٌّنة المشرّفة ص 102 ـ 104.

[7] مقدمة الأربعين النووية.

[8] جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/9.

[9] جامع العلوم والحكم 1/9-10.

[10] جامع العلوم والحكم 1/10.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply