يجد الباحث القارئ لكتب الجرح والتعديل والعلل الكثير من العبارات الدالة على معرفة الناقد بحديث الراوي وأحواله حال السماع والتحديث، كما سيأتي مفصلاً في مبحث لاحق.ولكن نسوق هنا من الأمثلة ما يدل على تلك المعرفة، فحينما يقول شعبة:لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء، فإنه كان عارفاً بحديث قتادة كله ليقول مثل ذلك، بل كان شعبة عارفاً بهذه الأشياء الثلاثة وهي: قول علي - رضي الله عنه -: القضاة ثلاثة، وحديث لا صلاة بعد العصر، وحديث يونس بن متى.
ومن ذلك ما رواه يحيى بن سعيد القطان عن شعبة، قال: ((كان شعبة يقول: أحاديث الحكم عن مقسم كتاب الخمسة أحاديث، قلت ليحيى: عدها شعبة؟ قال: نعمº حديث الوتر، وحديث القنوت، وحديث عزمة الطلاق، وحديث جزاء مثل ما قتل من النعم، والرجل يأتي امرأته وهي حائض)).
ومنها ما قال يحيى القطان أيضاً: ((ولم يسمع ابن جريج من مجاهد إلا حديثاً واحداً: طلقوهن في عدتهن. ولم يسمع ابن جريج من ابن طاووس إلا حديثاً في محرم أصاب ذرات، قال: فيها قبضات من طعام. ولم يسمع حجاج بن أرطاة من الشعبي إلا حديثاً: لا تجوز صدقة حتى تقبض)).
وكذلك حكم النقاد على الروايات التي لم يسمعها الراوي من الشيخº قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن بشير بن حسين الأصبهاني، فقال: لا أعرفه، فقيل له: إنه ببغداد قوم يحدثون عن محمد بن زياد بن زبار عن بشر (كذا) بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس نحو عشرين حديثاً مسنده، فقال أبو حاتم: هي أحاديث موضوعة ليس يعرف للزبير عن أنس عن النبي إلا أربعة أحاديث أو خمسة أحاديث .
ومن ذلك معرفتهم بأخطاء الثقات إذا ما أخطأوا في اسم أو نسبوا حديثاً لغير صاحبه، قال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن حديث حماد بن زيد عن خالد عن أبي قلابة عن أبي الأشعث، سمع عثمان: في صدقة الفطر صاع، فقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب عن عماد بن زيد عن أيوب بهذا. قال أحمد: فحدثت به ابن مهدي، فقالت: أخطأ يعني سليمان بن حرب، فرجعت إلى سليمان بعد فرجع فقال: هو عن خالد.
ومثله ما قال أحمد: أخطأ شعبة في اسم خالد بن علقمة فقال: مالك بن عرفطة، وأخطأ أيضاً في سلم بن عبدالرحمن، فقال: عبدالله بن يزيد.
ومثله ما قال ابن أبي حاتم في ((العلل)): ((سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه القعنبي عن مالك عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن السمن الجامد تقع فيه الفأرة، فقال: ((خذوها وما حولها فألقوها)). قال أبو زرعة: هذا الحديث في الموطأ: مالك عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. وقال أبي: الصحيح من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فهذا حديث رواته ثقات لكن الأئمة بينوا الوهم فيه.
ومن ذلك ما ساقه الإمام الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في المواقيت، ونقل عن شيخه البخاري قوله: ((وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن فضيل، وذكر أن الصحيح فيه حديث الأعمش عن مجاهد قوله. ثم ساقه من قول مجاهد، ومحمد بن فضيل ثقة احتج به الشيخان في صحيحيهما.
وأعل الإمام الترمذي حديث عبدالرزاق بن همام الصنعاني وهو ثقة معروف، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل عن مسروق، عن معاذ، قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، أعله بمن رواه عن سفيان مرسلاً، فقال: ((وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن، فأمره أن يأخذ، وهذا أصح)).
وساق الترمذي حديث الفضل بن موسى السيناني وهو ثقة - عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره، وأعله بالإرسال، فقال: ((هذا حديث غريب، وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته)). ثم ساق حديث وكيع، عن عبدالله، عن بعض أصحاب عكرمة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر نحوه، وكذلك فعل أبو داود.
ومما يدل على دقة معرفتهم بأحاديث الرواة، وقوفهم على عدد الأحاديث التي رواها الراوي، فكانت عندهم إحصاءات دقيقة تحصلت عندهم نتيجة جمع أحاديث كل راوٍ, ودراستها، فإذا ما وجدوا حديثاً خارجاً عنها نبهوا على ذلك وبينوه، فمن أمثلة ذلك قول يحيى بن معين في أفلح بن سعيد الأنصاري: ((ثقة يروي خمسة أحاديث))، وقول علي ابن المديني في أيوب بن أبي تميمة السختياني: ((له نحو ثمان مئة حديث))، وقوله في جامع بن شداد المحاربي: ((له نحو عشرين حديثاً)).
ويمكن للباحث أن يتأمل القدرة العظيمة لهؤلاء النقاد الجهابذة وما قاموا به من دراسات معمقة لأحاديث الرواة من النص الآتي الذي يشير إلى دراسة أبي زرعة الرازي لأحاديث عبدالله بن وهب حينما يقول: ((نظرت في نحو ثلاثين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له)).
ومثل هذا المثال له عشرات نظائر يمكن أنّ يسوقها الباحث للتدليل على هذا الأمر.
على أن هذا لا يعني البته عدم إمكانية أن يخفى على بعضهم الشيء بعد الشيء، فهم بشر يعتريهم ما يعتري كل إنسان من الغفلة وعدم الإحاطة، من نحو ما رواه عبدالرحمن بن أبي حاتم، عن أحمد بن عبدالرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: سمعت عمي يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي، قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه، فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع)). فهذا أحد الجهابذة قد فاته هذا الحديث.
على أنه يكاد أن يكون مستحيلاً أن يخفى حديث على مجموع العلماء الجهابذة المتقدمين، وإلى مثل هذا أشار الإمام الشافعي في كتابه العظيم ((الرسالة)) حيث قال: ((ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثر ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب وأكثرها ألفاظاً، ولا نعمله يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء. فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرِّق علم كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقاتº منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره)).
هذا والإمام الشافعي قد عاش في النصف الثاني من المائة الثانية ((150-204هـ))، فما بالك بجهابذة المائة الثالثة؟
وقد بين أستاذنا الدكتور بشار عواد معروف في مقدمته لتاريخ مدينة السلام أن المائتين الثانية والثالثة شهدتا ((نهضة لا مثيل لها في جمع السنة النبوية الشريفة وتتبعها وتدوينها وتبويبها على أنحاء شتى من التنظيم والتبويب مما تعرفه أمة من الأمم، فكان ذلك خصيصاً بهذه الأمة الإسلامية، وهيأ الله - سبحانه - مئات الحفاظ الجهابذة الذين حفظوا ودونوا مئات ألوف من طرق الأحاديث، ورحلوا من أجلها إلى البلدان النائية، وطوفوا في البلدان شرقاً وغرباً ليصدروا عن خبرة وعيان وسألوا عن الرواة واطلعوا على مروياتهم ومدوناتهم ومحفوظاتهم، فجمعت النسة في صدور الحفاظ وفي كتاباتهم. ثم غربلوا ما كتبوا من مئات الآلوف وانتقوا منه ما يمكن أن يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، أو يحتمل أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كل بحسب اجتهاده ومنهجه، فتوسع البعض واقتصر الآخر على أنواع معينة، ودوِّن كل ذلك في المصنفات والجوامع والمسانيد والسنن، فان كان فات بعضهم الشيء منها فما كان ليخفى على مجموعهم، وهم يتذاكرون المتون والأسانيد بينهم)). وقال أيضا: ((ومما لا شك فيه أن الطرق التالفة والواهية التي وقع فيها الغلظ الفاحش أو الشذوذ البين، أو النكارة الشديدة، أو الاسانيد المركبة على أحاديث صحيحة، أو الأسانيد المركبة على متون منكرة، أو الموضوعات من أحاديث الكذابين والمتروكين والهلكى قد أهملت من قبلهم، ولم يدخل معظمها في كتبهم المصنفة أو مجاميعهم المبوبة، سواء أكانت مصنفات أم مسانيد، أم جوامع، أم سنن. وللقارئ أن يتصور الجهد الهائل الذ بذله هؤلاء الأئمة الجهابذة في تصفية هذه الطرق والمتون، حينما يعلم مثلاً أن الإمام أحمد أخرج مسنده من جملة سبع مئة ألف حديث، وأن مسنده بحدود الثلاثين ألف طريق فقط، وأن البخاري أخرج كتابه ((الصحيح)) من زهاء ست مئة ألاف حديث، وأحاديثه بالمكرر بحدود السبعة آلاف وخمس مئة حديث فقط، وذكر مسلم بن الحجاج أنه صنف ((صحيحه)) من ثلاثة مئة ألف حديث مسموعة، وكتب يحيى بن معين ست مئة ألف حديث، والروايات في هذا الأمر معروفة متواترة)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد