مذهب نقاد الحديث في مرويات المبتدعة


 بسم الله الرحمن الرحيم

كان نقاد الحديث وعلماء الرجال وطلبة العلم يعنون عادة ببيان عقيدة راوي الحديث بحيث قلما نجد أحداًَ منهم لا يعني بهذا الأمر وهو أمر يعكس عناية المسلمين بالعقيدة حيث أنها أساس الإيمان والإسلام.

وحين لاحظ علماء المصطلح في القرن الرابع فما بعده هذه العناية البالغة والكثرة الكاثرة لأقوال الأئمة فيما يتصل بالعقائد عنوا بها وحاولوا أن يصنعوا لها أسسا وقواعد وسموهم ((أهل البدع)) تارة و((أهل الأهواء)) تارة أخرى.

وقسموا البدعة إلى قسمين:

1- بدعة مكفرة.

2- وبدعة مفسقة.

وقسموا البدعة المكفرة إلى قسمين أيضا

أولاها: ما اتفق على تكفير أصحابها، مثل القائلين بحلول الإله في سيدنا علي أو غيره، أو الأيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو وقوع التحريف في القرآن، أو نحو ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وثانيها: البدع التي اختلف في تكفير أصحابها وعدمه: كالقول بخلق القرآن والنافين لرؤية الله - سبحانه - يوم القيامة.

أما البدع المفسقة فهي بدعة الخوارج، والروافض الذي لا يغلون ذاك الغلو، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية، والواقفية والمرجئة ونحوهم.

واختلف العلماء كتاب المصطلح في الاحتجاج بأهل البدع اختلافاً بيناً، فذهب جماعة من أهل النقل والمتكلمين إلى قبول أخبار أهل الأهواء كلهم وإن كانوا من أصحاب البدع المكفرة أو المفسقة بالتأويل واستدلوا على ذلك بأن أهل الأهواء متأولون غير معاندين، وأنهم اعتقدوا ما اعتقدوه ديانةً، وممن ذهب هذا المذهب، أعني قبول رواية كافر التأويل، هو العلامة ابن الوزير اليماني في كتابه ((تنقيح الأنظار))، وأتى بأدلة كثيرة تؤيد صحة هذا القول مع مناقشة المخالفين.

وذهب آخرون-منهم فخر الدين الرازي والبيضاوي- إلى أن خبرهم يقبل إن كانوا يعتقدون حرمة الكذب، قال الإمام فخر الدين الرازي: ((المخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته، وإلا قبلناه)).

وذهب طائفة ثالثة إلى أن المكفرين ببدعتهم لا يحتج بهم ولا يقبل رواياتهم، وقد حكى الإمام النووي الاتفاق على ذلك. وقد رد الإمام السخاوي مسألة الاتفاق بما قدمنا. وقد حقق الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني هذه المسألة فقال: ((والتحقيق أنه لا يرد كل مكفَّر ببدعته، لأن كل طائفةٍ, تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي تُرد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله)).

واختلف العلماء المتأخرين في رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم، فذهب قوم إلى رد روايتهم مطلقاً إذ كما يستوي في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول. وقد رد عليهم أكثر العلماء فقال ابن الصلاح أنه: ((مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فان كتبهم طافحة بالراوية عن المبتدعة غير الدعاة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول)).

وذهب آخرون إلى أنه يحتج بهم إن لم يكونوا يستحلون الكذب في نصرة مذهبهم أو لأهل مذهبهم سواء أكانوا دعاة أم لا.

وذهب فريق ثالث إلى قبول رواية المبتدع إذا كان مروية مما يشتمل على ما ترد به بدعته وذلك لبعده حينيئذ عن تهمة الكذب جزماً.

وذهب فريق رابع إلى قبول روايته إن كانت بدعته صغرى، وإن كانت كبرى فلا تقبل.

وذهب فريق خامس إلى قبول أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء إلى بدعتهم. أما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، لأن الداعية قد يحمله تزيين بدعته على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه، وصَرّح الخطيب بأن هذا القول هو مذهب كثير من العلماء، وصححه الحافظ ابن حجر.

وقد ساق كل أصحاب رأي من هذه الأراء بعض النصوص المؤيدة له، واستدل بأقوال العلماء المتقدمين في ذلك.

ولا يشك الباحث بأن كتب الجرح والتعديل طافحة بأقوال أئمة الجرح والتعديل في مسائل العقائد، قلما تخلوا منها ترجمة قدحاً أو مدحاً، ولذلك كونت مادة دسمة وأساسية في مكونات الترجمة ومحتوياتها.

ومع كل هذا الذي قدمنا، ومع كثرة دور هذه المسألة في كتب الجرح والتعديل فقد لاحظنا أن العلماء الجهابذة الأوائل فلما تأثروا بالعقائد عند إصدار الحكم النهائي على الراوي، بل كان الأساس في ذلك هو صدق الراوي وتثبته وصحة حديثه.

ونرى من المفيد أن نضرب بعض أمثلة لذلك نتناول فيها أشهر العقائد المخالفة لأهل السنة والجماعة الذين كان المحدثون منهم. وأول ما يتبادر إلى الذهن توثيق كثير من الشيعة المحترقين والرواية عنهم، وهم بذلك التوثيق كأنهم يذكرون أن بدعته غير مؤثرة في وثاقته وصحة روايته، فقد سئل يحيى بن معين عن سعيد بن خثيم الكوفي فقال: كوفي ليس به بأس ثقة، فقيل ليحيى: شيعي؟ فقال: وشيعي ثقة، وقدري ثقة. وقال في الحارث بن حصيرة الأزدي أبي النعمان الكوفي: خشبي ثقة وقال ابو داود: شيعي صدوق. والحارث هذا قال فيه ابن عدي: وهو أحد من يعد من المحترقين بالكوفة في التشيع. وكان عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي شيعياً جلداً، ومع ذلك فقد كان ابن خزيمة يقول: ) حدثنا الثقة في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب) وقد وثقه أبو حاتم الرازي واخرج له البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد حديثاً واحدا مقروناً، حديث ابن مسعود: أي العمل أفضل. وكان يعقوب هذا يشتم عثمان، ويزعم أن الله أعدل من أن يدخل طلحة والزبير الجنة لأنهما قاتلا علي بن أبي طاب بعد ان بايعاه وذكر ابن عدي أنه كان يشتم السلف ويظهر مثالهم، فهو شيعي داعية الى بدعته كما قال ابن حبان وبسبب إخراج البخاري له في صحيحه وتوثيق ابن حبان قال الحافظ ابن حجر في (التقريب)، (صدوق رافضي).

ومن الأمثلة القوية على عدم اعتبار النقاد الجهابذة الأوائل للعقائد في توثيق الرواة هو عبد الرحمن بن صالح الأزدي العتكي، فقد ذكر عنه أنه كان يروي أحاديث سوء في مثالب أصحاب رسول الله ? وأزواجه، وهو شيعي محترق كما قال مارون بن موسى الحمال وابن عدي، ومع ذلك قال الحسين بن فهم الحراني: رأيت يحيى بن معين وحبيش بن مبشر وابن الرومي بين يدي عبد الرحمن بن صالح جلوساً. وقال ابن محزر عن يحيى بن معين: لا بأس به . وقال سهل بن علي الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: يقدم عليكم رجل من أهل الكوفة يقال له عبد الرحمن بن صالح ثقة صدوق شيعي لأن يخر من السماء أحب من أن يكذب في نصف حرف . ولا بد أن ابن معين إنما وثقه لمعرفته التامة به، وبصدقه وضبطه وابتعاده عن الكذب بسبب بدعته. وقال يعقوب بن يوسف المطوعي: كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضياً، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدينه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن بن صالح رافضي فقال: سبحان الله، رجل أحب قوماً من أهل بيت النبي ? نقول له: لا تحبهم؟ هو ثقة . وقال موسى بن هارون: كان ثقة، وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله ? وأصحابه .

ومنهم فطر بن خليفة الذي اخرج له الإمام البخاري في صحيحه ، قال عبد الله بن أحـمد بن حنبل: سمعت أبي يقول كان فطر عند يحيى ثقة ولكنه خشبي مفرط. وسألت أبي مرة عنه فقال: ثقة صالح الحديث حديثه حديث رجل كيس إلا أنه يتشيع . فانظر إلى هذا الشيعي الغالي المفرط كيف وثقة إمامان جبلان هما يحيى بن معين وأحمد بن حنبل مع إدراكهما لبدعته. وقد وثقه بعد ذلك يحيى بن سعيد القطان والعجلي والنسائي والدارقطني وابن سعد ونحوهم.

وكان محمد بن راشد الخزاعي الدمشقي، نزيل البصرة، المعروف بالمكحولي مشتملاً على غير بدعة كما قال الجوزجاني ، فقد ذكر أنه شيعي، وقالوا: معتزلي، وقالوا: قدري، وقالوا: كان يرى الخروج على الأئمة ، ومع ذلك قال الامام أحمد بن حنبل: ثقة ثقة، قال: وقال لنا عبد الرزاق: ما رأيت رجلاً أروع في الحديث منه، وفي رواية: أو أشد توقياً، وقال في موضع آخر: ثقة سمع من مكحول ، وقال في موضع آخر: ثقة ليس به بأس . وقال إسحاق بن منصور الكوسج ، والمفضل بن غسان الغلابي ، وإبراهيم بن عبد الله ابن الجنيد ، والعباس بن محمد الدوري ، وابن طهمان خمستهم عن يحيى بن معين: ثقة. وقال شعبة: ((صدوق، لكنه شيعي قدري)). وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت عليا، يعني ابن المديني، عن محمد بن راشد فقال: كان ثقة. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لعبدالرحمن بن إبراهيم دحيم: ما تقول في محمد بن راشد؟ فقال: ثقة وكان يميل إلى هوى. فهذا الذي ابتلي بالعديد من البدع وثقة جهابذة الأئمة: شعبة، وابن معين، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، ودحيم وغيرهم.

ومنهم إسماعيل بن أبان الوراق الكوفي أحد شيوخ البخاري في الصحيح ، قال ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان مائلاً عن الحق، ولم يكن يكذب في الحديث ، قال ابن عدي: (يعني ما عليه الكوفيون من تشييع، إما الصدوق، فهو صدوق في الرواية)).

ومنهم عبد الملك بن أعين الكوفي الذي خرج له الشيخان مقروناً ، فقال قال الحميدي عن سفيان بن عيينة: حدثنا عبد الملك بن أعين شيعي عندنا، رافضي صاحب رأي . وقد وثقة العجلي ، وقال ابو حاتم الرازي: ((هو من عتق الشيعة، محله الصق، صالح الحديث يكتبه حديثه)).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply