تشاورُ قُرَيشٍ, في الرٌّجوعِ عَنِ القتالِ
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وحدَّثني أبي إسحاق بن يسار, وغيرُه من أهل العلم عن أشياخٍ, من الأنصارِ،قالوا: لمَّا اطمأنَّ القومُ بعثوا عُمير بن وّهب الجُمَحيَّ،فقالوا: احزروا لنا أصحابَ محمدٍ,، قال: فاستجال بفرسه حولَ العسكر،ثم رجع إليهم,فقال:ثلاث مئة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون،ولكن أمهلوني حَتَّى أنظر أللقومِ كمينٌ أو مَدَدٌ ؟قال: فضرب في الوادي حَتَّى أبعد, فلم يرَ شيئاً،فرجع إليهم فقال:ما وجدتُ شيئاً، ولكني قد رأيتُ-يا معشرَ قُرَيش-البَلَايا تَحمِلُ المنَايا،نواضح يثرب تحملُ الموتَ الناقعَ، قومٌ ليس معهم مَنَعَةٌ ولا مَلجأٌ إلا سيوفهم،والله ما أرى أن يُقتلَ رجلٌ منهم حَتَّى يقتلَ رَجُلاً منكم، فإذا أصابُوا منكم أعدادَهم،فما خيرُ العيشِ بعدَ ذلك؟! فَرُوا رأيكم.فلمَّا سمع حَكِيمُ بن حِزَام ذلك مَشَى في النَّاسِ فأتى عُتبةَ بن ربيعة،فَقَالَ: يا أبا الوليد،إنَّك كبيرُ قُرَيشٍ, وسيِّدُها، والمُطَاعُ فيها،هل لكَ إلى أن لا تزالَ تُذكَر فيها بخيرٍ, إلى آخرِ الدَّهرِ ؟ قال: وما ذاك يا حكيمُ ؟ قال: ترجع بالنَّاسِ، وتحملُ أمرَ حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلتُ،أنت عليَّ بذلك، إنَّما هو حليفي، فعليَّ عَقلُه وما أُصيبَ من مالِهِ, فأتِِ ابنَ الحنظليَّةِقال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل،وهي أسماء بنت مخربة,أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم،فإنِّي لا أخشى أن يشجرَ أمرَ النَّاسِ غيرُه-يعني أبا جهل بن هشام-.ثم قام عُتبة بن ربيعة خطيباً،فَقَالَ:يا معشرَ قُرَيش،إنَّكم والله ما تصنعُون-بأن تلقَوا محمَّداً وأصحابه-شيئاً،والله لئن أصبتمُوه لا يزال الرَّجُلُ ينظرُ في وجه رجلٍ,،يكره النَّظَرَ إليه،قَتَلَ ابنَ عمِّه أو ابنَ خالِهِ أو رَجُلاً من عشيرتِهِ،فارجعوا وخلٌّوا بين محمدٍ, وبين سائرِ العربِ،فإن أصابُوه، فذاك الذي أردتُم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حَكِيمٌ: فانطلقتُ حَتَّى جئت أبا جهلٍ,,فوجدتُه قد نَثَلَ دِرعاً له مِن جرابها،فهو يهنئها.قال ابن هشام: يُهيئها,فقلتُ له: يا أبا الحَكَمِ، إنَّ عُتبة أرسلني إليك بكذا وكذا-للذي قال-،فَقَالَ: انتفخ– واللهِ- سَحرُهُ(1) حين رأى محمَّداً وأصحابه،كلا، والله لا نرجع حَتَّى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمَّدٍ,،وما بعُتبة ما قال،ولكنَّه قد رأى أنَّ محمَّداً وأصحابَُه أَكَلَةُ جَزُورٍ,،وفيهم ابنُهُ فقد تخوَّفكم عليه. ثم بعث إلى عامرِ بنِ الحضرميِّ،فقال: هذا حليفُكَ يُريد أن يرجعَ بالنَّاس،وقد رأيتَ ثأرك بعينِكَ، فقُم فانشُد خفرتَكَ ومقتلَ أخيك.فقام عامرُ بن الحضرمي فاكتشف,ثُمَّ صَرَخَ:واعَمرَاهُ،واعَمرَاهُ،فحميت الحَربُ,وحقب(2) النَّاس واستوسقوا على ما هم عليه من الشَّرِّ،وأفسد على النَّاس الرَّأيَ الذي دعاهم إليه عُتبةُ.فلمَّا بلغ عتبةَ قولُ أبي جهل:انتفخ-واللهِ-سَحرُهُ،قال: سيعلم مُصفِّرُ استِهِ،مَن انتفخ سَحرُهُ أنا أم هو ؟. قال ابن هشام: السَّحرُ: الرِّئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السٌّرَّةِ،وما كان تحت السٌّرة فهو القُصب، ومنه قوله: \"رأيتُ عمرو بن لحُي يجر قُصبَه في النار\", البخاري، الفتح، كتاب المناقب، باب قصة خُزاعة (6/633) رقم (3521). قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عُبيدة., ثم التمس عُتبةُ بيضةً ليُدخلها في رأسه،فما وجد في الجيش بيضةً تسعُهُ مِن عِظَمِ هامتِهِ،فلمَّا رأى ذلكَ اعتجرَ على رأسِهِ ببُردٍ, لَهُ.
مقتل الأسود المخزومي:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وقد خرج الأسودُ بن عبد الأسد المخزوميٌّ،وكان رَجُلاً شَرِسَاً سيئَ الخُلُقِ،فَقَالَ: أعاهدُ الله لأشربنَّ من حوضِهم،أو لأهدمنَّهُ،أو لأموتنَّ دونه.فلمَّا خَرَجَ،خرج إليه حمزةُ بن عبد المطلب،فلمَّا التقيا ضربَهُ حمزةُ فأطنَّ قدمَهُ بنصفِ ساقِهِ،وهُوَ دُون الحوضِ فوقع على ظهرِهِ تشخبُ رجلُه دماً نحو أصحابه، ثم حَبَا إلى الحوضِ حَتَّى اقتحمَ فيه,يريد (زعم) أن يبرَّ يمينَهُ,واتبعه حمزةُ فضربه حَتَّى قتلَهُ في الحوضِ.
دعاء عُتبة إلى المبارزة:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:ثم خرج بعدُ عُتبة بن ربيعة، بين أخيه شَيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عُتبة،حَتَّى إذا فصل من الصف، دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتيةٌ من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومُعوِّذ ابنا الحارث-وأمهما عفراء - ورجلٌ آخر يُقال هو\" عبد الله بن رَوَاحة \"،فقالوا: مَن أنتم ؟ فقالوا:رَهطٌ من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجةٍ,. ثم نادى مناديهم:يا محمدُ، أخرج إلينا أكفاءَنا من قومِنا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-:\"قُم يا عبيدة بن الحارث، وقُم يا حمزةُ، وقُم يا عليٌّ \"، سنن البيهقي(9/131). فلمَّا قاموا ودنوا منهم قالوا: مَن أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليُّ: علي، قالوا: نعم أكفَاء كرام. فبارز عبيدةُ-وكان أسنَّ القومِ- عُتبةَ بنَ رَبِيعة،وبارز حمزةُ شيبةَ بن ربيعة،وبارز عليُّ الوليدَ بن عُتبة. فأمَّا حمزةُ فلم يُمهل شيبةَ أن قتله،وأمَّا عليُّ فلم يُمهل الوليدَ أن قتله،واختلف عبيدةُ وعتبةُ بينهما ضربتين،كلاهما أثبت صاحبه،وكرَّ حمزةُ وعليُّ بأسيافِهما على عُتبة،فذففا عليه واحتملا صاحبَهما فحازاه إلى أصحابِهِ. قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وحدَّثني عاصمُ بن عمر بن قتادة: أنَّ عُتبةَ بنَ ربيعة,قال للفتية من الأنصار، حين انتسبوا: أكفاء كرام،إنمَّا نُريد قومَنَا.
التقاءُ الفريقينِ:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: ثم تزاحف النَّاسُ، ودنا بعضُهم من بعضٍ,، وقد أمر رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أصحابَهُ أن لا يحملُوا حَتَّى يأمرَهم،وقَالَ:\"إنِ اكتنفكم القومُ فانضحوهم عنكم بالنَّبل \"،ورَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-في العريشِ,معه أبو بكرٍ, الصِّدِّيق.فكانت وقعةُ بدرٍ, يومَ الجمعةِ،صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.قَالَ ابنُ إسحَاقَ: كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.تاريخ الطبري(2/32).
ابن غزية,وضرب الرَّسُول له في بطنِهِ بالقدح:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخٍ, من قومِهِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-عَدَّلَ صفوفَ أصحابِهِ يوم بدر،وفي يده قدحٌ يعدل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجارقال ابنُ هشام: يُقال سوَّاد مثقلة،وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف وهو مستنتل (3) من الصفقال ابن هشام: ويقال مستنصل (4) من الصف، فطعن في بطنِهِ بالقدح، وقال: استوِ يا سواد،فقال: يا رَسُول اللهِ، أوجعتني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدل، قال: فأقدني.فكشف رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-عن بطنه،وقال:\"استَقِد \"، قال: فاعتنقه فقبَّل بطنَهُ، فقال: \"ما حملك على هذا يا سواد ؟ \" قال: يا رَسُول اللهِ حضرَ ما ترى، فأردتُ أن يكون آخرَ العهدِ بك أن يمسَّ جلدي جلدَك. فدعا له رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-بخيرٍ,،وقاله له. تاريخ الطبري(2/32).
مناشدةُ الرَّسُولِ ربَّهُ النَّصرَ:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: ثم عَدَّلَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-الصٌّفوفَ,ورجع إلى العريش,فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق،ليس معه فيه غيرُهُ،ورَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يُناشِدُ رَبَّهُ ما وَعَدَهُ مِنَ النَّصرِ، ويقول فيما يقول: \"اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تُعبد \"،وأبو بكر يقول: يا نبيَّ الله، بعضَ مناشدتك ربك،فإن الله مُنجِزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ.وقد خفق رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-خَفقَةً،وهُوَ في العَرِيشِ،ثم انتبه فقال:\"أبشر يا أبا بكرٍ,،أتاكَ نصرُ اللهِ،هذا جِبريلُ آخِذٌ بعنانِ فَرَسٍ, يقُودُهُ،عَلَى ثناياهُ النَّقعُ\". صحيح مسلم،(3/1384)(3081)،كتاب الجهاد والسير،باب ومن سورة الأنفال
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وقد رُميَ مهجع-مولى عمر بن الخطاب-بسهمٍ, فقُتل،فكان أوَّلَ قتيلٍ, من المسلمين،ثُمَّ رُمي حارثةُ بن سُراقة أحدُ بني عدي بن النَّجَّار،وهو يشربُ من الحوض بسهمٍ,,فأصاب نحرَهُ فقُتِلَ.
تحريضُ المسلمينَ على القتالِ:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:ثم خَرَجَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-إلى النَّاسِ فَحَرَّضَهُم،وقَالَ:\"والذي نفس محمدٍ, بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غيرَ مدبرٍ,،إلا أدخله اللهُ الجنَّةَ \". فقال عميرُ بن الحمام-أخو بني سلمة-,وفي يده تمراتٌ يأكلهنَّ: بَخٍ, بَخٍ,،أفما بيني وبين أن أدخلَ الجنَّةَ،إلا أن يقتلني هؤلاءِ،ثم قذف التمراتِ مِن يدِهِ,وأخذ سيفَهُ،فقاتل القومَ حَتَّى قُتِلَ. ابن هشام (3/175)تاريخ الطبري(2/33).
قَالَ ابنُ إسحَاقَ:وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة:أنَّ عوف بن الحارث-وهو ابنُ عفراء-،قال: يا رَسُولَ اللهِ،ما يُضحِكُ الرَّبَّ مِن عبدِهِ؟قال: غمسُهُ يدَهُ في العدوِّ حَاسِرَاً.فَنَزَعَ دِرعَاً كَانَت عَلَيهِ فَقَذَفَهَا،ثم أخذ سيفَهُ فقاتل القومَ,حَتَّى قُتِلَ.
استفتاحُ أبي جهلٍ, بالدٌّعَاء:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: وحدَّثني محمد بن مسلم بن شهاب الزٌّهري،عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير العُذريٌّ- حليف بني زُهرة-,أنَّه حَدَّثه: أنَّه لمَّا التقى النَّاسُ،ودَنَا بعضُهم مِن بعضٍ,،قالَ أبُو جهل بن هشام: اللهُمَّ أقطعُنا للرَّحِمِ،وآتانا بما لا يُعرَفُ، فأحنه الغَدَاةَ(5). فكان هو المستفتح.َ
رمي الرَّسُول للمشركين بالحصباء:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: ثمَّ إنَّ رَسُول اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أخذ حفنةً من الحصباء،فاستقبل قُرَيشاً بها، ثم قال: \"شاهتِ الوجوه \"، صحيح مسلم،(3/1402)(1777)،كتاب الجهاد والسير. ثم نفحهم بها، وأمر أصحابَهُ فقال: \"شدوا \"، فكانت الهزيمة.فقتل الله-تعالى- مَن قُتل من صناديد قُرَيش،وأُسر من أُسر من أشرافهم. فلمَّا وضع القومُ أيديهم يأسرون،ورَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- متوشِّحٌ السيفَ في نفرٍ, من الأنصار يحرسون رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يخافون عليه كرةَ العدو، ورأى رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فيما ذُكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهيةَ لما يصنع النَّاس، فقال له رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: \"والله لكأنك يا سعدُ تكره ما يصنع القومُ ؟ \"، قال: أجل- والله- يا رَسُول اللهِ، كانت أول وقعةٍ, أوقعها (الله) بأهلِ الشرك، فكان الإثخانُ في القتل بأهل الشرك أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال. تاريخ الطبري(2/34).
1 - كلمة يكنى بها-عند العرب- عن الجبن!
2 - حقب الناس اشتدوا.
3 - مستنتل: متقدم.
4 - مستنصل: خارج.
5 - أي أهلكه, من الحين,أي الهلاك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد