الموالاة والمعاداة في ضوء القرآن والسنة ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




معاني الولاية واستعمالاتها في القرآن والسنة:

الولاية لفظ يرد كثيراً في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة باشتقاقات مختلفة وبمعانٍِ, مختلفة وسنبدأ بدراسة استعمالاتها في القرآن الكريم بمعانيها كلها ثم ندخل في مسألة التميز بين المؤمنين والكافرين وتحريم موالاة الكفرة والمرتدين.



وتختلف بحسب ما تضاف إليه وتكتسب بإضافتها معنىً جديداً قد يكون اتصاله بالمعنى الأصلي ظاهراً، وقد يكون فيه نوع خفاء.

فقد يرد في القرآن الكريم ولاية الله للمؤمنين، وولايته - تعالى - للخلق أجمعين وولاية الملائكة للمؤمنين، وولاية المؤمنين لله رب العالمين، وولاية المؤمنين بعضهم لبعض ثم - في الجانب الآخر ولاية الشياطين للكافرين، وولاية الكافرين للشياطين، وولاية الكافرين بشتى أصنافهم ومللهم بعضهم لبعض.



أ - ولاية الله للعباد:

والولاية من معانيها: الربٌّ، والمدبر، والله - تعالى - هو الرب المدبر، فهو \"الولي\"، و \"الولي\" اسم من أسمائه - تعالى - كما قال - تعالى -: {وهو الولي الحميد} [الشورى: 28]، وولاية الرب - تبارك و تعالى - لعباده مسلمهم وكافرهم نوعان:

الأولى: ولاية الخلق والتدبير والقهر والغلبة حيث إنه المتصرف في شؤون الحياة والموت والخلق والرزق والرفع والخفض. قال - تعالى -: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} [الشورى: 28]. أي: هو الذي يتولى عباده بالإحسان إليهم والرزق وغير ذلك[1]، كما قال ابن كثير: \"أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم\"[2].



ومنه تقدير الضلال على من شاء والهداية لمن شاء، وفق حكمته ورحمته وعدله وعلمه، قال - تعالى -: {ومن يضلل الله فماله من ولي من بعده} [الشورى: 44]، وقال: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا} [الكهف: 17]، أي: لا تجد له من يتولاه ويدله على ما فيه صلاحه، ولا يرشده إلى الخير والفلاح لأن الله قد حكم عليه بالضلال ولا راد لحكمه[3].



ومثله قوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، ومالهم من دونه من وال} [الرعد: 11]، أي: ومالهم غيره.



الثاني: ولاية الشرع والحكم والأمر والنهي والتحليل والتحريم، فالله وحده هو الذي يحكم بين عباده ويضع لهم نظام حياتهم ومعاشهم لأنه هو الذي يخلقهم ويرزقهم، قال - تعالى -: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فالخلق ولاية \"قهرية\" قدرية، والأمر ولاية \"شرعية\" تكليفية.



وقد بين الله - تعالى - هذا المعنى - اختصاصه بالتشريع - في مواضع كثيرة، فقال - تعالى -: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]. وهذه الآية نص في تفرد الله بالولاية والحكم، وأنه لم يأذن لأحد من خلقه بالتشريع وأن من شرع من دونه فهو طاغوت متأله، ومن قبل هذا التشريع فهو مشرك.



ومثلها قوله - تعالى -: {إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40]، فقصر الحكم على الله وحده، وبين أنه نوع العبادة لا يجوز صرفها لغيره بحال من الأحوال، ثم بين أن هذا هو الدين القيم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}[4].



وفي سورة الكهف يقول - تعالى -: {له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26]، أثنى الله - سبحانه وتعالى - على نفسه بأنه المتفرد بعلم غيب السماوات والأرض وأنه البصير السميع الذي لا يخفى عليه شيء، ثم بين أنه - تعالى - هو الذي له الخلق والأمر والذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير - تعالى - وتقدس[5].



فهو المتفرد بالولاية والحكم.



وقد قرأ الجمهور الآية برفع المضارع: {ولا يشرك}، وقرأها ابن عامر من السبعة بصيغة النهي: {ولا تُشرك} أي: لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله - جل وعلا - بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم.



كما جاء ذلك مبيناً في آيات أُخر كقوله: {إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40]، وقوله: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وقوله: {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير} [غافر: 12]، وقوله: {له الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 70]، وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟} [المائدة: 50]، وقوله: {قل أفغير الله أبتغي حكماً؟ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} [الأنعام: 114].



ويفهم من هذه الآيات أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرع الله أنهم مشركون بالله، وأن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفاً لما شرعه الله، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم[6]، وقد أكد الله كفرهم في غير موضع من كتابه الكريم بمختلف الصيغ:



فمرة نفى عنهم الإيمان بالبعث والنشور وبين أنه لا يقبل تشريع البشر ولا يرضاه إلا من كان كذلك، فقال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً...؟} [الأنعام: 112 - 114]. وهذه الآيات من أوضح الآيات على أن الولاية الشرعية حق لله من نازع الله فيه كفر، ومن رضي بهذه المنازعة وأقرها كفر.



كيف ذلك؟

لقد أنزل الله الوحي والتشريع السماوي على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وفيه التحليل والتحريم، والأمر والنهي، والفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ومجمل هذا هو \"الشريعة\" ثم جعل الله لكل نبي من الأنبياء عدواً... فمن هو هذا العدو؟ بينه الله - تعالى - بقوله: {شياطين الإنس والجن}[7]، ويلاحظ في الآية تقديم شياطين الإنس على شياطين الجن في الذكر.



ثم بين طريقة عملهم وإضلالهم فقال: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} أي: يلقي بعضهم إلى بعض بالقول الزين المزخرف والأباطيل المموهة الخادعة ليضلوا بها الناس، ويلبسوا عليهم دينهم بما يفترونه.



وفي الآية الثانية بين أن هذا الباطل المزخرف لا يصغى إليه: أي: يميل، ولا يرضاه إلا أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة فقال: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}[8].



ثم أكد على طريقة الرسل وأتباعهم فقال: {قل أفغير الله أبتغي حكماً؟} أي: لا أبتغي حكماً غيره[9].



فهذا الزخرف الذي يلقيه شياطين الإنس والجن: بعضهم إلى بعض... ما هو؟.



إنه الشبهات التي يعارضون بها الدين، والطرائق التي يسلكونها للصد عن طريق الله... وأعظم ذلك فتنة: القوانين الوضعية التي يضعها مدعو التشريع من البشر وهم - دون شك - الموسومون بأنهم شياطين الإنس - وهذا لا يماري فيه عاقل، وشياطين الجن هم إبليس وجنوده. فإذا تبين هذا وتبين أن القانون البشري من زخرفهم وتضليلهم، فإن قوله بعد هذا: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} نص واضح جلي على أن من رضي بهذا القانون أو أقره أنه كافر بالله واليوم الآخر... والذي لا يؤمن بالآخرة لا خلاف بين المسلمين في كفره.



وفي آية أخرى أثبت الله لهم الكفر وانحراف العقيدة، وبين أن سبب الإعراض والتولي عن حكم الله وكتابه هو سوء المعتقد وفساد السريرة لا محالة. يقول - تعالى -: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران: 23 - 25].

فعجب من حال اليهود الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ومع ذلك يرفضون الاحتكام إلى كتاب الله المنزل عليهم ويعرضون عنه، ثم بين السبب الخفي في ذلك فقال: {ذلك بأنهم قالوا...} والباء سببية أي: إعراضهم وتوليهم بسبب قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات. فغرهم افتراؤهم على الله... ثم توعدهم في يوم القيامة حيث توفى كل نفس ما كسبت[10].



فيا ترى إذا كان سبب الإعراض عن حكم الله هو الافتراء على الله - كما نصت الآيات - فما حكم من افترى على الله الكذب جهاراً نهاراً بلا بينة ولا تأويل؟ إنه كافر بلا شك كما دلت على ذلك نصوص كثيرة لا مجال لذكرها.



فإذا كان سبب الإعراض هو فساد الاعتقاد والكذب على الله، فإن الإعراض بذاته كفر كذلك. ولذلك نهى الله عن اتباع الأولياء المشرعين من دونه، وأمر باتباع وحيه المنزل فقال: {اتبعوا ما أنزل الله من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف: 3] أي: اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركمº فإنه هو الذي له وحده حق التشريع لكم، وفرض العبادات عليكم، والتحليل لما ينفعكم، والتحريم لما يضركم، لأنه أعلم بمصلحتكم منكم [11].



فهذان النوعان من الولاية[12] هما للناس كلهم في الحقيقة والواجب، ولكن من الناس من يؤمن بهما ويعمل بلازمهما فهو المؤمن، ومنهم من يكفر بهما أو بأحدهما فهو الكافر.



وقد قرن الله بينهما في مواضع من كتابه فقال - تعالى -: {قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم. قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين} [الأنعام: 14].



فأنكر على المشركين دعوتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ ولي غير الله: يعبده ويحتكم إليه، والله هو فاطر السموات والأرض الغني عن عباده المنعم عليهم بالرزق[13]، وقال: {أم اتخذوا من دونه أولياء؟ فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الشورى: 9]. ثم عقب على ذلك بقوله: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، والسورة التي وردت فيها هذه الآية هي سورة الشورى، وفيها بيان شافٍ, أن الله هو المتفرد بالخلق والرزق والمتفرد بالحكم والتشريع، وأن من ادعى غير ذلك فهو مشرك وبمطالعة السورة وتأملها تظهر عظمة هذا الموضوع وأهميته وخطورته[14].



ب - ولاية الله للمؤمنين:

وهذا النوع خاص بمن حقق مقتضيات ولاية الله القهرية والقدرية فآمن به وأطاعه واتقاه. وهو عبارة عن توفيق الله لهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم الروحاني والجسماني\"[15]. وكذلك محبته ونصرته وتأييده ورعايته لهم فهو - سبحانه - وفقهم لسلوك سبيل الإيمان، واختارهم على العالمين كما قال - تعالى -: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257]، وقال: {والله ولي المؤمنين} [آل عمران: 68]، وقال: {والله ولي المتقين} [الجاثية: 19].



ومن ولايته - سبحانه - لهم أن يهديهم طريق الجنة يوم القيامة، كما قال: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15، 16]. وقال: {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} [الأنعام: 127].



ومن ولايته - سبحانه - لهم نصره لهم وحمايتهم والدفاع عنهم وتمكينهم في الأرض وتثبيتهم في القتال وجعل العاقبة لهم كما قال: {والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45]. وقال بعد أن أمر المؤمنين بالجهاد فيه حق جهاده: {... واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج/ 78]. وقال: {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} [آل عمران: 150] وذلك بعد الحديث عن بدر ونصرة المؤمنين بها والتحذير من طاعة الكافرين.



وقال بعد الأمر بقتال المشركين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله: {وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال: 40]. وذكر - تعالى - أن سبب سلامة المؤمنين من الخذلان والهلاك هو ولايته - سبحانه - لهم فقال: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11].



وقد ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قول أبي سفيان يوم أحد: (أعل هبل!) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أجيبوه\". قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: \"الله أعلى وأجل\". قال أبو سفيان: (لنا العزى ولا عزى لكم) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أجيبوه\" قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: \"الله مولانا ولا مولى لكم\"[16].



وبعد أن أمر الله رسوله - عليه الصلاة والسلام - بتحدي كيد المشركين وأرشده أن يقول لهم: {قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} [الأعراف: 195] أتبع ذلك بقوله: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196].



وكذلك دفع الله الوهن والهزيمة من نفوس المؤمنين وتثبيتهم كما قال - تعالى -: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا - والله وليهما - وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122] والطائفتان هما: بنو سلمة، وبنو حارثة.



يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (نزلت هذه الآية فينا {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122] بنو سلمة وبنو حارثة، وما أحبٌّ أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وليهما})[17].



فولايته - سبحانه - لهاتين الطائفتين هو سبب دفع ما همّوا به من الفشل الذي وسوس لهم به الشيطان - لعنه الله -.



وولاية الملائكة للمؤمنين فرع عن ولاية الله لهم كما في قوله - تعالى -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} الآيتان، قيل في معنى هذه الآية: تتنزل عليهم الملائكة بهذه البشرى العظيمة ساعة الاحتضار، وقيل: ساعة خروجهم من قبورهم، وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث، قال ابن كثير: وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جداً وهو الواقع\"[18]، وكما ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إذا أحب الله - تعالى - العبد نادى جبريل: إن الله - تعالى - يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض\"[19].



وهذه الولاية منها العام ومنها الخاصº فأما العام فكما دلت هذه الآيات على ولاية الملائكة للمؤمنين، وأما الخاص فمثل ولاية جبريل - عليه الصلاة والسلام - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه من الأنبياء كما في الحديث الطويل عن ابن عباس في محاورة اليهود للرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة... وفيه: قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: \"فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه\" قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله - عز وجل -: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله...} الآية[20]، وتختلف مراتب هذه الولاية بحسب درجة المؤمن ومنزلته في الإيمانº فالأنبياء ولاية الله لهم باعتبارهم رسله إلى خلقه وأقرب عباده إليه عظيمة جداً، ثم بين بعدهم فضلاً أتباعهم، ثم من بعدهم... وهكذا.



ج - ولاية المؤمنين لرب العالمين:

ويقصد بها محبته والاستسلام له والتقرب إليه بأداء حقوقه - سبحانه وتعالى- قدر الطاقة من تصديق خبره وامتثال أمره واجتناب نهيه. والحذر من الشبهات والمكروهات، والحرص على السنن والمستحبات. فمن كان كذلك فهو من أولياء الله الذين قال الله فيهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم} [يونس: 62 - 64].



فهم يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب اتقاؤه من العاصي. ولا شك أن الولاية هذه ليست - كما يموه به أهل التصوف - من أنها مرتبة فوق النبوة أو أنها أمر لدني لا يحصل بالكسب ولا تعليق له بعمل الظاهر، وأولياء الله - في الحقيقة - هم القريبون من طاعته الناصرون لشرعته والدائمون على ذلك ولهذه المعاني وغيرها سُمّوا أولياء[21]، فبهذا تكتسب الولاية لا بغيرها.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر\"[22]، ولذا فأعظم الأولياء وأفضلهم - بعد الأنبياء - هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم من سار على طريقتهم وهؤلاء هم السابقون.



ويدخل في عموم ولاية الله - تعالى - كل مؤمن بالله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث، وقد قسموا في القرآن والسنة إلى قسمين: السابقون، وأصحاب اليمين، فمن الآيات المبينة لذلك قوله - تعالى -: {وكنتم أزواجاً ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة، والسابقون السابقون أولئك المقربون، في جنات النعيم} [الواقعة: 7 - 12].



وقوله - تعالى -: {فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم، وتصلية جحيم} [الواقعة 88 - 94].



وقال في ذكر نعيم الجنة: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً، يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا}... إلى قوله - تعالى -: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا...} [الإنسان: 5 - 12].



ومثلها الآيات في سورة المطففين: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومزاجه من تسنيم، عيناً يشرب بها المقربون} [المطففين: 18 - 28].



فعباد الله هم المقربون، سماهم في سورة الإنسان عباد الله فقال: {عيناً يشرب بها عباد الله}، وسماهم في سورة المطففين المقربين فقال: {عيناً يشرب بها المقربون}، وسماهم في سورة الواقعة السابقين فقال: {والسابقون السابقون أولئك المقربون}، والأبرار هم الفئة الثانية في كلا الموضعين قال عنهم في الموضع الأول: {يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} وقال عنهم في الموضع الثاني: {يسقون من رحيق مختوم} فهذه العين يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، كما قال ابن عباس وابن مسعود ومسروق وقتادة وغيرهم[23].



كما بين عموم ولاية الله - تعالى - لهذين القسمين حديث الولي القدسي حيث قال الله - تعالى - فيه: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه... \"[24].



فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات.



وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات[25].



فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حباً تاماً كما قال - تعالى -: \"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه\" أي: الحب المطلق[26]، وقدر الولاية ينقص ويزيد بحسب إيمان المرء وتقواه[27]، والله - تعالى - تكفل بحماية أوليائه أجمعين فقال: \"من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب\" أي: أعلمته بأني محارب له. وهذا المعنى دل عليه القرآن الكريم صراحة وضمناً، قال - تعالى -: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38]. وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]، وقال: {ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40]، وقال: {إنهم يكيدون كيداً، وأكيد كيداً} [الطارق: 15، 16].



----------------------------------------

[1] الكشاف للزمخشري 3/470.

[2] ابن كثير 7/194، ط الشعب، تحقيق البنا، وزملاؤه.

[3] تيسير الكريم المنان بتفسير كلام الرحمن للشيخ عبد الرحمن بن اصر السعدي 5/17.

[4] انظر: في ظلال القرآن مج 4 ج 12 ص 1190 وما بعدها، ط دار الشروق.

[5] تفسير ابن كثير 3/80.

[6] من كلام الشيخ العلامة: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان 4/84.

[7] قوله: {شياطين} بدل من قوله: {عدواً} فالعدو هم الشياطين.

[8] أي: ليكتسبوا ما هم مكتسبون من الإثم، وقد يطلق الاقتراف على البر كما قال - تعالى -: {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً} [الشورى: 23].

[9] راجع أحد التفاسير المعتمدة في معنى الآيات.

[10] راجع في تفسر الآيات التفاسير المعتمدة.

[11] أنظر: تفسير القرآن الحكيم الشهير بـ: تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا 8/306 - 307.

[12] أي: الولاية القهرية، والولاية الشرعية، أنظر ص: 28 وص: 29 من هذا البحث.

[13] عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير لأحمد شاكر 5/17 وقد ذكر في الآية قراءتين: {ولا يُطعم} {ولا يَطعَم}.

[14] تفسير المنار 8/307 ط 2 - دار المعرفة - بيروت.

[15] المنار: 3/44.

[16] رواه البخاري في مواضع من الصحيح، والإمام أحمد في مسنده، انظر: الفتح 7/349.

[17] البخاري - باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا - انظر الفتح 7/357.

[18] تفسير ابن كثير 4/99.

[19] متفق عليه.

[20] الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبري في تفسيره، ونسبه السيوطي في (الدر المنثور) (1/89) للطيالسي والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي - كلاهما في الدلائل - عن ابن عباس، وذكره ابن كثير في التفسير (1/129 - 130) وقال: رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وعبد بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به، ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه، وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب فذكره مرسلاً وزاد فيه... ثم ساق ابن كثير رواية أخرى للحديث ثم قال: ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به، وقال الترمذي: حسن غريب. اهـ. ولما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل: \"ذاك عدو اليهود من الملائكة\" رواه البخاري.

[21] أنظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 5، وانظر كتاب (قطر الولي على حديث الولي)، للإمام الشوكاني دراسة وتحقيق: إبراهيم هلال ص 62 (الدراسة).

[22] فتاوى شيخ الإسلام ج 11 ص 170.

[23] تفسير ابن كثير 4/487، ط: الحلبي، وانظر في الفرق بين لفظي \"بها\"، و\"منها\" الواردين في الآيات: ابن كثير 4/454، والفتاوى 11/178.

[24] رواه البخاري، وانظر: مقدمة شرح الطحاوية (للألباني) ص 31 ط: المكتب الإسلامي، ورواه أيضاً أحمد والبيهقي والطبراني.

[25] ابن تيمية، الفتاوى 11/179 - 180.

[26] المصدر السابق.

[27] وقد قسموا سورة فاطر إلى ثلاثة أقسام فقال - تعالى -: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير} [فاطر: 32]، والجمع بين هذا وذاك أن يقال: القسمان عامان في جميع الأمم، والثلاثة خاصة في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والدليل على ذلك قوله في الآية: {ثم أورثنا...} ثم قوله: {فمنهم ظالم لنفسه...}.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply