الموالاة والمعاداة في ضوء القرآن والسنة ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





د - الموالاة بين المؤمنين:

وهي تعني أداء الحقوق الشرعية بينهم من المحبة والنصح والنصرة والعون في إقامة الإسلام والجهاد في سبيل الله وتعاونهم في جميع ذلك.

قال - تعالى -: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله أولئك سي- رحمهم الله -، إن الله عزيز حكيم} [التوبة: 71].

فذكرت الآية من صفاتهم ولاية بعضهم لبعض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.

وقال - تعالى -: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض...} [الأنفال: 72].

فعقد الولاية بين المؤمنين المهاجرين وبين المؤمنين الذين آووا ونصروا، وإذا كانت هذه الولاية معقودة على أساس الإيمان والهجرة والجهاد... فهي تتفاوت بحسب ما يتحقق في أهلها من هذه الأوصاف.



وأعلى من يتصف بها هم أنبياء الله، فولاية بعضهم لبعض أكمل ولاية، فكل نبي يأتي مؤكداً رسالة النبي الذي سبقه، ومبشراً برسالة النبي الذي يأتي بعده، كما قال - تعالى - عن عيسى - عليه السلام -: {وإذ قال عيسى بن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مُصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. وقال - تعالى -: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا. قال: فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 81 - 82].



فدين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وبعضهم يدل على بعض. وكذلك ولاية هؤلاء الأنبياء للمؤمنين - من أممهم ومن غيرها - وحدبهم عليهم وولاية المؤمنين لهم. كما قال - تعالى - عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128].



وقال - تعالى - رداً على اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم - عليه السلام - منهم: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، والله ولي المؤمنين} [آل عمران: 68]. فبين عموم ولاية المؤمنين لإبراهيم - عليه السلام - بقوله: {للذين اتبعوه} وهذا يشمل جميع الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم، وأتباعهم لأن جميع هؤلاء الأنبياء من ذريته - عليه السلام -.



ثم أكد ولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وأتباعهم لأبيهم إبراهيم بقوله: {وهذا النبي والذين آمنوا}. قال ابن جرير - رحمه الله -[1]: \"يعني جل شأنه بقوله {إن أولى الناس بإبراهيم} أن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته {للذين اتبعوه} يعني: الذين سلكوا طريقه ومنهاجه، فوحدوا الله مخلصين له الدين، وسنوا سنته، وشرعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به وهذا النبي يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا يعني: والذين صدقوا محمداً وما جاءهم به من عند الله\".



وهذا كما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم وأبي خليل ربي ثم قرأ هذه الآية\"[2] فهذا الحديث يدل على ولاية أخص.



وكذلك المؤمنون من أتباع الرسل تتفاوت درجة ولايتهم كما سبق في آية الأنفال حيث والى الله بين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا والذين آووا ونصروا ثم قال: {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} [الأنفال: 72]. فظاهر هذه الآية أنه لا يجب نصر هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إلا إذا استنصروا المهاجرين بالدين على قوم ليس بينهم وبينهم ميثاق كما قال ابن الجوزي: \"لم يكن على المهاجر أن ينصر من لم يهاجر إلا أن يستنصره\"[3].



ومعنى هذا أيضاً أنهم لو استنصروا إخوانهم المهاجرين على قوم بينهم وبينهم ميثاق فإنهم لا ينصرونهم عليهم ولا ينقضون العهد حتى تتم مدته - وإن كان هؤلاء القوم كفاراً - [4] وليس لهؤلاء نصيب في الغنائم ولا في الخمس إلا أن يجاهدوا مع المسلمين كما في حديث بريدة: \"... فإن أبوا - يعني: أبوا الهجرة - واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين\"[5].



ولم يكن لهم حق في الميراث - حين كان المؤمنين يتوارثون بالمؤاخاة والهجرة فكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر[6].



وقد حقق المجتمع الإسلامي في المدينة هذه الموالاة - كما أرادها الله - عز وجل - وكما أرادها رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: \"إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين\" قال: \"ولكن رحم أَبلٌّها ببلالها\" يعني: أصلها بصلتها(4). ومصداق ذلك في كتاب الله - تعالى - قوله: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4].



وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]. فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتنيº فأنا مولاه\"(1).



لقد حقق المسلمون بإسلامهم معنى الولاية العامة، ثم حققوا بالهجرة والأخوة معنى الولاية الخاصة، ولا بأس بذكر بعض الأمثلة على ذلك:

1 - عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: \"لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها. قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك. هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى باقطٍ, وسمنٍ,. قال: ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجت؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار. قال: كم سقت؟ قال: زنة نواةٍ, من ذهبٍ, أو نواة من ذهب. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أولم ولو بشاة\"[7].



2 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما قدم المهاجرون المدينة من مكة، وليس بأيديهم شيء وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤونة[8].



وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إقسم بيننا وبين إخواننا النخيل! قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا[9].



3 - عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء. فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال له: كل. قال: إني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فلما كان من الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نَم. ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلَّيا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق سلمان[10].



وهذه الولاية بين المؤمنين واجبة ولذلك يقول الله - تعالى - بعد ذكر ولاية المؤمنين ثم ولاية الكافرين: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73] فالضمير في \"تفعلوه\" راجع إلى الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين. فإذا لم يتول المؤمن المؤمن تولياً حقاً ويتبرأ من الكافر أدى ذلك إلى الفتنة والفساد الكبير[11].



قال ابن العربي: \"يعني ضعف الإيمان وغلبة الكفر\"[12].

وقال ابن كثير: \"إن معنى قوله - تعالى - {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت الفتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض\"[13].



ومن الفتنة والفساد: افتتان المسلمين عن دينهم لغلبة الشرك عليهم وعدم النصير.



ومن الفتنة والفساد: موالاة المسلمين لمن تجب معاداته، ومنابذتهم لمن يجب عليهم نصره وموالاته.



ومن الفتنة والفساد: فقدان التمييز بين المجتمع المسلم والمجتمعات الكافرة.



ومن الفتنة والفساد: أن يصبح الكفار أولياء لإخوانهم، والمسلمون أعداء لإخوانهم ومنهم من يمد يد العون والصداقة والمحالفة للكافرين.



ولهذا كله - ولغيره مما لم يذكر - يبطيء نصر الله عن المؤمنين إذا خلطوا في ولاءاتهم، بل سرعان ما تدب الهزيمة في نفوسهم ويعجل الله لهم العقوبة.



وأعظم شاهد على ذلك من تاريخ المسلمين ما جرى في بلاد الأندلس حين حكمها ملوك الطوائف واستعانوا بالنصارى على إخوانهم فكانت النتيجة سقوط هذه الجزيرة الغالية في أيدي النصارة المتربصين[14].

وبسقوطها حصلت الفتنة والفساد الكبير وأنشئت \"محاكم التفتيش\" التي تأخذ كل من يبدو عليه أي صلة بالإسلام حتى أظهر عدد من المسلمين النصرانية وأبطنوا الإسلام وهم الذين يسمون \"المسلمون الصغار\"... ووجد من عمليات الإفناء والإبادة ما لم يعرف التاريخ له نظيراً إلا ما يجري الآن في مناطق مختلفة من الأرض والله المستعان[15].



هـ - موالاة الكفار للطواغيت:

والطواغيت جمع: طاغوت وهو مشتق من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد. وقد عرف الإمام ابن القيم - رحمه الله - الطاغوت بأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

وولاية الكفار للطواغيت تعني أن يصرفوا لهم مالا يجوز صرفه إلا لله، أو يطلبوا منهم مالا يقدر عليه إلا الله. فهي بضد ولاية المؤمنين لله. ومن صور هذه الولاية:

1 - طاعتهم وإشراكهم في الإتباع كما في قوله - تعالى -: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد. كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [الحج: 3 - 4]. فهذه الآية نص صريح في أن الاتباع من التولي.

وقال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121] فنهى - سبحانه - عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وبين أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم بضد ذلك. وذلك بتحليل الميتة - كما قالوا - وأنها مما قتل الله فكيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتل الله؟ [16]. ثم قال: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}. فهذا شرك الطاعة والاتباع. حيث أنه اتباع لوحي إبليس فيما يزينه للناس على ألسنة أوليائه مخالفاً لما يوحيه الله - تعالى - إلى أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام.

ويدخل في هذا طاعة العلماء والأحبار والرهبان في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله كما قال - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو - سبحانه - عما يشركون} [التوبة: 31] وتفسير هذه الآية الذي لا إشكال فيه هو ما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه حين قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ هذه الآية فقال: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليسوا يحلون لكم الحرام فتطيعونهم؟ ويحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم\"[17].



ولذلك فإن من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله - كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب[18].

وقد نهى الله - تعالى - نهياً خاصاً عن هذا النوع من الشرك فقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلاً ما تذكرون} [الأعراف: 3]. وبين ضلال أهله ضلالاً بعيداً فقال: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً. لعنه الله، وقال: لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً} [النساء: 116 - 121]. وقال: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، ولهم عذاب أليم} [النحل: 63].



وقال رداً على المشركين الذين قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} [الأعراف: 30].



2 - ومن صور هذه الولاية أيضاً إشراكهم في سائر أفعال العبادة الأخرى. فهم يدعونهم من دون الله أو مع الله، ويصرفون لهم أنواع العبادات سواءً صرفوها للشيطان نفسه أو صرفوها لغيره من الطواغيت - لا فرق في ذلك.



قال - تعالى -: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد، يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج: 12 - 13]. وقال: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]. والشيطان في جميع الأحوال هو معبودهم الحقيقي وهو طاغوتهم الأكبر فهو الذي أوحى إليهم عبادة غير الله. فعبادتهم للملائكة أو للأنبياء أو للصالحين هي في حقيقتها عبادة للشياطين الذين أمروهم بذلك وزينوه لهم، ولذا تقول الملائكة حين يسألهم الله يوم القيامة: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟}، {قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم. بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مشركون} [سبأ: 40 - 41]. أي: يطيعون إبليس وأعوانه[19].



فعبادة المسيح والعزير والملائكة وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم ليست إلا ستاراً يغري الشيطان فيه بعبادته هو وإلا فهؤلاء المعبودون لا يرتضون هذه العبادة ولا يقرونها كما تتبرأ الملائكة من عبادتهم ويتبرأ عيسى ويتبرأ سائر الصالحين. ولذا ورد في القرآن النهي عن عبادة الشياطين. فقال - تعالى - على لسان إبراهيم - عليه السلام -: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} [مريم: 44 - 45]. وقال - تعالى -: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وإن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 60 - 61].



3 - ومن صور هذه الولاية: الاستبسال في حماية حزب الشيطان والقتال في سبيله وبذل الحياة في ذلك. قال - تعالى -: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطانº إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء: 76].



4 - ومن صور هذه الولاية أن يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله وحده كدفع الضر أو رفعه، أو تفريج الكروب، أو النصر على الأعداء... قال - تعالى -: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5].



وقد بين - تعالى - أن جميع أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لطواغيتهم لا تنفع المشركين شيئاً إلا تسخيرهم للشياطين وتسليط الشياطين عليهم. فقال عن إبليس: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل 99 - 100]. وقال: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} [مريم: 83]. وقال: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} [الأعراف: 27]. وقال: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257]. وقال: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 36 - 39].



أما ما يطلبه المشركون من أوليائهم وطواغيتهم في الدنيا أو في الآخرة فلا يقدرون منه على شيء. بل هم أضعف من ذلك وأعجز كما قال - تعالى -: {قل: أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} [الرعد: 16]. وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 41]. وقال: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه. لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج: 113]. وقال: {فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} [النساء: 76]. وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166]. وقال: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل} [إبراهيم: 22].



فهذا إبليس طاغوت الطواغيت يتبرأ منهم وينفض يده من عبادتهم ويثني باللوم عليهم. ويعلن عجزه عن إجابة صريخهم ومناديهم كما هم عاجزون عن إغاثته وإنقاذه.



وقال - تعالى -: {من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} [الجاثية: 10]. وقال منكراً على من والى الشيطان وذريته: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين بدلاً. ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، وما كنت متخذ الظالمين عضداً. ويوم يقول: نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا} [الكهف: 50 - 52]. وقال - تعالى - عن فرعون الذي وعد قومه بهدايتهم سبيل الرشاد: {فاتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النار. وبئس الورد المورود} [هود: 97 - 98].



ومع أن الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فإن الشيطان ينكص على عقبيه عند اللقاء ويسارع إلى البراءة منهم، وهو الذي كان بالأمس يغريهم ويدفعهم كما حكى الله ذلك عنه عند معركة بدر: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى مالا ترون. إني أخاف الله، والله شديد العقاب} [الأنفال: 48].



وقد وردت روايات كثيرة تذكر تمثل الشيطان لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وتأمينه لهم ثم فراره لما رأى الملائكة، ولم نجد في هذا رواية مرفوعة صحيحة، بل هي آثار موقوفة أو مقطوعة أو مرسلة، وإن كان بعضها صحيح الإسناد كرواية يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير. ولكن الآيات نفسها تذكر واقعة جرت من تزيين الشيطان وإغرائه المشركين بالقتال ووعده لهم بالمساعدة ثم نكوصه بعد ذلك.



وبهذا يتضح أن جميع ما يقدمه الكفار لأوليائهم لا يغني عنهم شيئاً. فلا العبادة تقبل ولا الدعاء يستجاب أو يسمع ولا الكرب والشدائد تكشف. فأين هذا من قول الله - تعالى -: {قل: لمن ما في السموات والأرض؟ قل: لله. كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. وله ما سكن في الليل والنهار. وهو السميع العليم. قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض؟ وهو يُطعِم ولا يُطعَم. قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يُصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 12 - 18]...



----------------------------------------

[1] - تفسير الطبري 6/497، تحقيق: آل شاكر.

[2] - الحديث رواه الترمذي والبزار والحاكم في مستدركه وقال: \"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه\" ووافقه الذهبي، ونقله ابن كثير عن سعيد بن منصور بإسناد متصل. كما روي الحديث بإسناد منقطع بين ابن مسعود وأبي الضحى عند الترمذي والطبري في التفسير وأحمد في المسند. وذكره السيوطي - دون تفصيل - وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. أنظر: الطبري (نسخة شاكر) 6/498 - 499 تفسير ابن كثير 1/372 و: عمدة التفسير 2/262.

[3] - زاد المسير لابن الجوزي: 3/386 ط: المكتب الإسلامي.

[4] - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي المجلد 4 الجزء 8 ص 57.

[5] - الحديث رواه مسلم.

[6] - زاد المسير لابن الجوزي 3/385 ط: المكتب الإسلامي. وقد قال بعض العلماء إن من مدلول آية الأنفال السابقة منسوخ بفتح مكة، ونسخ وجوب الهجرة، ونزول التوارث بالقرابة [أحكام القرآن لابن العربي 2/887]. والقول بالنسخ ليس عليه دليل، ولا يلجأ إليه إلا عند عدم إمكانية الجمع بين النصين - والجمع هنا ممكن - بل إنه ليس هناك تعارض أصلاً. أما أنه منسوخ بفتح مكة ونسخ وجوب الهجرة فالجواب أن الهجرة باقية إلى قيام الساعة كما ورد في القرآن الكريم وصحت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما الهجرة المنسوخة هي الهجرة من مكة المكرمة لأنها بعد الفتح صارت دار إسلام. [أنظر: شرح النووي على مسلم ج 13 ص 8 - وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية مج 18 وحاشية السيوطي والسندي على النسائي 7/145 - 147، والفتح 6/190... وغيرها]. أما نسخ التوارث بالإسلام والهجرة، فالصحيح أنه كذلك، ولكن تبقى آية الأنفال على عمومها فيما يتعلق بالأحكام الأخرى {مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} أي: ما لكم من نصرتهم وولاية أمرهم من شيء، والله أعلم.

(4) - رواه البخاري عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، أنظر: الفتح كتاب الأدب: باب إبلال الرحم ببلالها 11/419 - 423، ورواه مسلم عنه أيضاً، أنظر مسلم بشرح النووي باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم 3/87، ورواه أحمد عنه، أنظر: المسند 4/203، قال النووي: \"معنى الحديث أن وليي من كان صالحاً وإن بعد مني نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه\" [شرح النووي 3/88 ونقله ابن حجر في الفتح] قال: وأما قوله: \"جهاراً غير سر\" فمعناه: علانية لم يخفه بل باح به وأظهره وأشاعه ففيه التبرؤ من المخالفين أو موالاة الصالحين، والإعلان بذلك ما لم يخف ترتب فتنة عليه\" أقول: ولعل من خوف الفتنة ترك بعض الرواة ذكر اسم هؤلاء المتبرأ منهم.

(1) - رواه البخاري في الاستقراض وابن حجر وابن أبي حاتم من طرق، ورواه أحمد، ورواه أبو داود عن الإمام أحمد.

[7] - رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف، وعن أنس بن مالك بزيادة دعاء عبد الرحمن لسعد حين قال له: بارك الله لك في أهلك ومالك. وروى نحوه مسلم وأحمد والدارقطني والنسائي. أنظر: الفتح 4/290.

[8] - متفق عليه. والمؤونة هي العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها. أنظر الفتح 5/242.

[9] - رواه البخاري. أنظر الفتح 5/8. قال المهلب: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لأنه علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره أن يخرج شيء من عقار الأنصار عنهم... فامتثل الأنصار ما أمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مواساتهم لإخوانهم المهاجرين فسألوهم أن يساعدوهم في العمل، ويشركوهم في الثمر. وهذه هي المساقاة بعينها\" انتهى بتصرف يسير عن فتح الباري.

[10] - رواه البخاري: قال في الفتح: وقد ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين: الأولى: قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة فكان من ذلك أخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب. (ثم) آخى النبي بين المهاجرين والأنصار... وذلك بعد قدوم المدينة. أنظر الفتح: 4/210.

[11] - زاد المسير: 3/386.

[12] - أحكام القرآن 2/888.

[13] - ابن كثير 4/420. ط الشعب.

[14] - راجع ما كتب عن الأحلاف بين المسلمين والنصارى في كتاب: مع المسلمين في الأندلس للدكتور: علي جيبه، وأنظر ما كتبه الدكتور: محمد عبد الله عنان.

[15] - أنظر: محنة الإسلام في الأندلس في: التاريخ الأندلسي د. عبد الرحمن الحجي ص 568 - 573.

[16] - أنظر الطبري. وهذا من وحي شياطين الإنس لإخوانهم، أو من وحي شياطين الجن لشياطين الإنس، ولا تناقض بين القولين، فأصله من وحي شياطين الجن لشياطين الإنس ثم تناقلته شياطين الإنس من بعد. وشياطين الإنس هم مردتهم وضلالهم كما في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست. فقال: يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصلِّ. قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن. قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: نعم. \" وفي رواية \"هم شر من شياطين الجن\" رواه الطبراني في التفسير بأسانيد فيها انقطاع، ورواه متصلاً هو والإمام أحمد وأبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم. قال ابن كثير بعد أن ساق بعض طرق الحديث: \"فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته\".

[17] - رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وخطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وأخرجه ابن جرير في التفسير، ورواه الإمام أحمد وزاد السيوطي في الدر نسبته لابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي. وله طرق يقوي بعضها بعضاً.

[18] - كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهذا عنوان باب من أبوابه، وقد ذكر فيه حديث عدي السابق.

[19] - تفسير القرطبي 7/309.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply