بسم الله الرحمن الرحيم
و - ولاية الطواغيت للكافرين:
وولاية الطواغيت لعابديهم ولاية خادعة مزيفة ليس لها مدلول سوى تـزيين الباطل والسوء لهم، وإغرائهم بحرب الله ورسوله ووعدهم الكاذب لهم بالنصر كما قال الشيطان]وإني جار لكم[[الأنفال: 48]، ثم أخلف وعده.
وهذه عادته - لعنه الله - معهم ومع غيرهم من أوليائه، قال - تعالى -: ]كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين[[الحشر: 16].
وهذا من وعده وأمانيه بالباطل لهم: ]يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا[[النساء: 120]. فهو يمني أولياءه بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة(1). ولكنه يخذلهم في الدارين، قال - تعالى -: ]وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا[[الجن: 6]، فهو - لعنه الله- أغرى الإنس بالاستعاذة بالجن والاحتماء بهم من شر سفهائهم ثم لم يزدهم ذلك إلا خوفاً على خوفهم(2).
وفي مشهد من مشاهد يوم القيامة يحشرهم الله جميعاً - الإنس وأولياءهم من الجن - كما قال - تعالى -: [ويوم يحشرهم جميعاً، يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين][الأنعام: 128 130] (3). وهذا \"الاستمتاع\" الحاصل بين الطرفين يعني أن كل واحد منهما ينتفع بصاحبه. فاستمتاع الجن بالإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، واستمتاع الإنس بالجن أنهم تلذذوا بقبول ما يلقون إليهم حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن لهم(4).
وقد يكون استمتاع الجن بالإنس تعظيمهم إياهم واستعاذتهم بهم واستغاثتهم وخضوعهم لهم، واستمتاع الإنس بالجن قضاءُ حوائجهم وامتثال أوامرهم وإخبارهم بما يقدرون عليه من المغيبات (5) ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: سأل ناسٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهّان؟ فقال: ليس بشيء. فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحياناً بشيء فيكون حقاً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيَقرٌّها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة(6).
ومما ينبغي علمه أن ولاية الطواغيت والكافرين عامة في كل من كره ما أنـزل الله وحاربه من أهل الملل والأهواء المختلفة، فهم أولياء الشيطان وهو وليهم، هم يعبدونه ويدعون الناس إليه ويطيعونه، وهو يؤزهم على الشر ويزين لهم الباطل ويحضهم عليه ويلقي في نفوس الناس الخوف منهم كما قال - تعالى -: [إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه][آل عمران: 175].
ومما يظهر هذا جيداً أنه - تعالى - قال قبل هذه الآية: [الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم][173 - 174]. ونهى عن الخوف منهم فقال: [فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين] [آل عمران: 175].
ز - ولاية بعض الكافرين بعضاً:
وهي تعني تناصرهم وتحالفهم فيما بينهم، ودفاع بعضهم عن بعض، وحماية بعضهم لبعض ضد أعدائهم جميعاً وخاصة ضد عدوهم الأكبر: الإسلام.
وولاية بعض الكافرين بعضاً سنة كونية جرى بها قدر الله - تعالى - كما قال - تعالى -: [ وذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون][الأنعام: 129]، ويوضح معنى هذه الآية قوله - تعالى -: [وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض][الجاثية: 19]، وقال: [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض][الأنفال: 73]، وهذا عام في كل أصناف الكافرين من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين وغيرهم، فقد قال - تعالى - عن اليهود والنصارى: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض] [المائدة: 51].
وفي تفسير هذه الآية قولان:
الأول: أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، فاليهود أولياء النصارى، والنصارى أولياء لليهود.
الثاني: أن بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، وليس بين الطائفتين ولاية.
والذين قالوا بهذا القول نظروا إلى واقع الحال وإلى أحداث التاريخ وما جرى بين اليهود والنصارى من الحروب والمكائد، بل إن القرآن الكريم نفسه يحكي عن قول اليهود في النصارى وقول النصارى في اليهود: [وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون][البقرة: 113] (7).
ولكن يمكن أن يقال: إن بعضهم أولياء بعض في مواجهة المسلمين الذين نهوا عن موالاتهم في أول الآية. فإن هذا القول هو ظاهر الآية، وهو أشمل من القول الآخر، فإذا كان اليهود أولياء للنصارى، والنصارى أولياء لليهود فمن باب الأولى أن يتوالى أفراد الطائفتين الواحدة فيما بينهم - كما هو مقتضى القول الآخر - [1].
وهذا القول لا يعكر عليه الواقع التاريخي من العداء بين اليهود والنصارى، فإن الوصف القائم فيما بينهم - في الغالب - هو وصف الولاية، بل إن اليهود والنصارى يوالون حتى المشركين ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا. ويحزبون الأحزاب لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من كافة الطوائف.
وإن قال لنا قائل: إن التاريخ بخلاف ذلك قلنا: فإذن طوائف اليهود بعضها يعادي بعضاً، وطوائف النصارى بعضها يعادي بعضاً، ولا يزال التاريخ يحفظ لنا أبشع صور التعذيب التي حصلت للنصارى المخالفين لملوكهم في العقيدة.
يقول الدكتور (بتلر) في كتابه (فتح العرب لمصر): \"إن ذينك القرنين - الخامس والسادس - كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين، نضال يذكيه اختلاف في الجنس، واختلاف في الدين، وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس، إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين الملكانية والمنوفيسية.
وكانت الطائفة الأولى - كما يدل عليها اسمها - حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد وكانت تعتقد العقيدة الموروثة - وهي ازدواج طبيعة المسيح - على حين أن الطائفة الأخرى - وهي حزب القبط المنوفيسين - أهل مصر - كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها في قوم يعقلون، بل يؤمنون بالإنجيل\"[2].
وقد ذكر بعض المؤرخين صوراً من الحرب والتصفيات الجسدية القائمة بين هاتين الطائفتين[3] فهل يعني ذلك أن النصارى ليس بعضهم أولياء بعض؟ كلا.
وكما قال الله - عز وجل - عن اليهود والنصارى: [بعضهم أولياء بعض]قال عن أهل الكتاب: [ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون][المائدة: 80]. والمقصود بالذين كفروا: هم المشركون من عبدة الأوثان.
وقال عن المنافقين: [والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم][التوبة: 67]. فهم متعاونون في الدس والوقيعة والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض اليد عن البذل في سبيل الله. وهاهم - أي: المنافقون - متعاونون مع جميع طوائف الكفر على اختلافها وتباين ما بينها، وهم شرٌّ هذه الفرق جميعاً.
وقد توعدهم الله على ذلك بالعذاب الأليم فقال: [بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين][النساء: 143 - 144]، وآخى بينهم وبين أهل الكتاب فقال: [ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون][الحشر: 11].
وقال: [ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون][المجادلة: 14].
ثم صنفهم الله جميعاً تحت راية واحدة فقال بعد الآية السابقة بقليل: [أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون][المجادلة: 19]. ثم ذكر المؤمنين الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه فقال: [أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون][المجادلة: 22].
فعلم بذلك إن الأحزاب - عند الله - حزبان: (الأول) حزب الله وهم المؤمنون المتميزون بحب الله ورسوله وبغض الشيطان وأوليائه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، و (الثاني) حزب الشيطان ويدخل فيه كل من عدا المؤمنين - فليس ثمة حزب ثالث - فيشمل اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين والملاحدة والطوائف المنحرفة عن الإسلام على اختلاف عقائدها وأسمائها.
وإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك - فإن أي تعاون بين المؤمنين والكافرين على اختلاف مللهم مصلحته للكافرين من أول الخط لأنهم أفلحوا في زحزحة المسلمين عن شيء من دينهم. والله المستعان.
----------------------------------------
(1) - عمدة التفسير: 3/272.
(2) - وكذلك ازداد الجن جرأة على الإنس واستخفافاً بهم وقد تضافرت أقوال السلف على ذلك، انظر بعض هذه الأقوال في تفسير ابن كثير 4/428 - 429 ط: البابي الحلبي.
(3) - استكثرتم من الإنس: أي أكثرتم من إضلالهم. انظر في تفسير الآية: الطبري 12/115 - 116 ط: دار المعارف، تحقيق أحمد شاكر.
(4) - القرطبي، المجلد 4، الجزء 7 ص 84، وقد قال بعض المفسرين إن معنى الآية استعاذة الإنس بالجن فيستمتع الإنس بالحماية ويستمتع الجن بطاعة الإنس لهم، وهذا المعنى يرده قوله - تعالى - في سورة الجن: فزادوهم رهقاً، إذا ازداد الإنس ذعراً، وخوفاً ولم يحصل لهم استمتاع، والله أعلم.
(5) - تيسير العزيز الحميد: 212.
(6) - الحديث رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده، ومعني: يخطفها: يأخذها بسرعة، قوله: من الحق: في رواية مسلم: من الجن، ومعنى: يقرها: يلقيها بصوت خفي له زمزمة.
(7) - راجع: فتح القدير للشوكاني 2/49 - 50، ط محفوظ العسلي - بيروت، و: الطبري: 10/399 نسخة شاكر.
[1] - انظر المرجعين السابقين، وانظر أيضاً: تفسير ابن كثير: 2/68 - 69، ط: الحلبي.
[2] - نقلنا نص الدكتور (بتلر) عن كتاب: خصائص التصور الإسلامي للأستاذ: سيد قطب - رحمه الله -، وراجع نقولاً أخرى في نفس الكتاب، ص 34 - 38، ط: دار الشروق.
[3] - ممن ذكر ذلك (ويلز) في: معالم تاريخ الإنسانية 3/904 - 905.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد