فقه الولاء والبراء في ضوء الحرب


 

بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله الكبير المتعال القائل في كتابه العزيز: ((ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإنّ جندنا لهم الغالبون))[سورة الصافات: 171-173]، والقائل - جل جلاله -: ((وكان حقاً علينا نصر المؤمنين))[سورة الروم: 47]، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وسيّد المرسلين، القائل: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرٌّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)[رواه أحمد والشيخان]، وبعد:

فهذه أيامٌ مِن أيامِ الله، أيامٌ نلمس فيها فتناً وحروباً ودماءً، ولكننا نلمح فيها بشائر عزٍّ, للإسلام، وضياءٍ, للحقِّ، وتوكّلٍ, على الله، ونستشرف يقظةً للأمة وجهاداً وبلاءً، فهي أيامٌ فاصلة، كما كانت بدر فارقةً بين استضعاف الكُفَّار للمسلمين، وانتصار أهل الإسلام على من ظلمهم وعاداهم من الكافرين((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان))[سورة الأنفال: 41]، وهذا وعد الله الذي لا يتخلّف، وسنته التي لا تتبدّل ((يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم))[سورة الأنفال: 29].




أولاً: واقع الأمة الإسلامية:



إنّ لهذه الأيام وشيجةً تصلها بسنن الله الماضية في الأمم السالفة، ولها - بإذن الله - بشائر في نهضة هذه الأمة القاهرة للملل الكافرة، فقد تحوّلت هموم الشباب المسلم إلى العلم والدعوة والجهاد، فتحلّقوا حول علماء الأمة، الذين حاول الأعداء طمسَ دورهم في تربية المسلمين وتزكيتهم ((والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون))[سور يوسف: 21].

فقد فشلت خطط الظالمين في تجفيف ينابيع التدّين الموجَّهة إلى مناهج التعليم ووسائل الإعلام لإفساد شباب الأمة، وإشغالهم بسفاسف الأمور، والتحم علماء الأمة الأبرار - والرائد لا يكذب أهله - بشبابها الأخيار



شبابٌ لم تحطِّمه الليـالي*** ولم يُسلم إلى الخصمِ العرينا



على الرغم من الحملات الضارية من الغزو الثقافي، والترسانة الضاربة مِن التدخٌّل الاستعماري عند سقوط الخلافة الإسلامية، فقد كان أعداء الأمة يطمعون أن لا تقوم للإسلام قائمة بعد ما قضوا على الخلافة الجامعة للمسلمين، واستعاضوا عنها بسياسة تابعةٍ, لهم، نابعةٍ, من المنظومة الفكرية الاستعمارية (والمغلوب مُولع بتقليد الغالب) كما قال ابن خلدون، وقد تمثّل ذلك في الدساتير العلمانية للدول الإسلامية، والأحكام الوضعية المناقضة لهوية الأمة وشريعتها الربّانية.

ولا شكَّ أنّ نجاح الأعداء ـ على مدى عقود من القرن الماضي - في إفراغ العالم الإسلامي من كلّ نَبض إسلامي حقيقي راجعٌ إلى إبعاد الإسلام - كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي - من حياة المسلمينº ليصبح الدين مجرّد شعائر قاصرة في ظل الشريعة الغائبة، فإنّ أمة الإسلام لا تحيا إلا بشرائعها وشعائرها معاً (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب)[رواه البخاري]º فإنه يقود الحياة كلَّها بقيم الإسلام ومبادئه وأخلاقه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام، ((قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له))[سورة الأنعام: 162]، ((قل أغير الله أبغي رباً وهو ربٌّ كل شيء))[سورة الأنعام: 164] ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))[سورة الملك: 14]، وقد كان طبيعياً - بعد غياب الإسلام بأنظمته الشرعية وهويّته الحضارية - أن تضعف مكانة الأمة، وتضمحلّ شعاراتها، وتتساقط راياتها، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!! بالرايات العميّة والقوانين الوضعية، والأنظمة الجاهلية قومية كانت أو علمانية أو إلحادية!!

ولا شكّ أنّ الأعداء قد أوشكوا أن يصيبوا الأمة في مقتل يوم أن أوهنوا في قلوب المسلمين عقيدة الولاء والبراء، حتى كاد المسلم والكافر أن يكونا في رأيهم سواءً، بل ملأ الرويبضات عقيدة الأمة الإسلامية - في التعليم والإعلام وغير ذلك - بالضآلة النفسية تجاه القوة المادية الغربية، وأشعروهم بالضّحالة الفكرية للمسلين في مقاومة نظريات الكافرين والعلمانيين، فأولئك هم المسؤولون عن هزائم المسلمين في حروبهم الخاسرةº لأنّ فيهم (قابلية الاستعمار) بتعبير مالك بن نبي، وروح الهزيمة والصّغار، فهم عوامل النكسة العربية، ومعاول الهدم في صرح الحضارة الإسلاميةº لأنهم يعيشون اغتراباً عن الأمة، وانحيازاً إلى أعداء الملة فهم بتعبير بعض المؤلِّفين بمثابة (جُزُر في أوطانهم)، وما ظنّك بعامة العلمانيين؟ إذا كان عميد الأدب العربي [كما سمّاه المستغربون، وإلاّ ففي أترابه من هو خيرٌ منه فكراً وأسلوباً، منهم أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - والأمر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُتّهم فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق ) رواه الطبراني، والحاكم في الكُنى، وابن عساكر، كما في كنز العمّال: 38511.] طه حسين - رمز الثقافة المنبتّة عن الأمة - ينادي بأعلى صوته: \"لو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عِقاباً لا تُجاز ولا تذلّل، عقاباً نُقيمها نحن، وعِقاباً تُقيمها أوروباº لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة)![مستقبل الثقافة في مصر الجزء الأول: 36-37] فقد حاز سبع هزائم:



الأولى: أنه لا يقدر أن يحيي نُظُم الإسلام ((ومن يُهِنِ الله فما له من مكرم))!![سورة الحج: 18].

الثانية: أنه يراها عتيقةً ما عادت صالحة للذين يُبدّلون ويغيّرون ويلبسون لكل مناسبة لَبوساً!!

الثالثة: أنه لا يقدر أن يَهِمَّ بذلك مجرّد الهمِّ، وكفى بذلك همّاً وغمّاً!!

الرابعة: أنه يعترف بتبعيّته، ولا يستنكف من عبوديته للغرب!!

الخامسة: أنه يَرعى عهده مع أوربا ولا يراعي عهده مع الله في إحياء النظم العتيقة!!

السادسة: أنه يخشى أورباº لأنها وضعت أمامه عِقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل!!

السابعة: - وهي عار الدهر! - أنه ذلّل نفسه لخدمة أوربا، وأذلّها لعز الكافرين! وذلك ظاهر في قوله \"عِقاباً نُقيمها نحن\" فاستعماره عميق في داخله، واستلابه عتيق يملأ عليه أرجاء فؤاده!



فالحقيقة ـ التي لا يُمارِي فيها عاقلٌ منصف ـ أنّ الذين ضيّعوا الحضارة الإسلامية وعطّلوا نهضة الأمة هم العلمانيّون الذين أحسن وصفهم العلامة أحمد شاكر، فالواحد منهم قد \" استولى المبشرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي، وقد عُدّ من المسلمين - أو عليهم - في دفاتر المواليد، وفي سجلات الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسَه جنسيةً، ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآنَ ليُخضعه لما تعلّم من أُستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!!\"[حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد: 160]، وما أصدق ما وصفهم به الأديب الكبير كامل كيلاني بـ (المجدِّدينات)، مبيّناً أنّ هذا (جمع مخنث سالم!)[المرجع السابق]، وصدق الله العظيم القائل:((ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون))[سورة الروم: 31-32].

فوالله ما ضيّع فلسطينَ - بعد أن فتحها عمر - رضي الله عنه - وحرّرها صلاح الدين - إلا هؤلاء العلمانيون، وما أسَرَ اليهود فلسطين الغراء من أيدينا إلا بسبب ضعف الولاء والبراء في قلوبنا - نسأل الله أن يردّنا إلى رشدنا -.

باختصار من بحث بعنوان \" فقه الولاء والبراء في ضوء الحرب \" .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply