سياحة الصائمين في معاني ( لعلكم تتقون )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

[1] مقدمة:

لا شكَّ أنَّ المتأمِّلَ في سِياقِ آياتِ الصيامº يُدرِكُ بالتدبٌّرِ والتفكٌّرِ معانيَ كثيرةً ودلالاتٍ, عظيمةً لقولِ الله - عز وجل -: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلّكم تتقون أيّاماً معدوداتٍ, فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ, فعِدَّةٌ من أيّامٍ, أُخَر وعلى الذين يُطيقونه فِديةٌ طعامُ مسكين فمن تطوَّعَ خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون شهرُ رمضانَ الذي أُنزِل فيه القرآنُ هُدًى للناسِ وبيِّناتٍ, من الهُدى والفُرقانِ فمَن شَهِدَ منكم الشهرَ فليَصُمهُ ومن كان مرضاً أو على سفرٍ, فعدةٌ من أيامٍ, أُخَر يُرِيد الله بكم اليُسرَ ولا يُريد بكم العُسر ولتُكملوا العِدَّةَ ولتُكَبِّرُوا اللهَ على ما هداكم ولعلّكم تشكرون). [1]

 

[2] تسلية المسلمين:

فإذا تدبَّرنا قولَ الله - عز وجل -: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم)º أدركنا سِرَّ ذكرِ الأممِ السالفة من قبلِنا التي فُضِّلت عليها أمتُنا تفضيلاً! فقد \"ذكر أنه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على الذين كانوا من قبلِهمº فلهم فيه أسوةٌº وليجتهد هؤلاء في أداءِ هذا الفرض أكملَ مما فعلَهُ أولئك، كما قال - تعالى -: (لكلٍّ, جعلنا منكم شِرعةً ومِنهاجاً ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوَكم فيما آتاكم فاستَبِقوا الخيرات) الآية\". [2]

 

[3] استثارةُ هِمَمِ المسلمين:

فلهذا التعبيرِ القرآنيِّ البليغ: (يا أيها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم) دلالاتٌ كثيرةٌ وأغراضٌ عديدةٌ: \"أحدُها: الاهتمامُ بهذه العبادةِ والتنويهُ بهاº لأنها شرعها الله قبلَ الإسلامِ لمن كانوا قبل المسلمين، ثم شرعها للمسلمينº وذلك يقتضي اطِّرادَ صلاحِها ووفرةَ ثوابِها وإنهاضَ هِمَمَ المسلمين لتلقِّي هذه العبادةِº كي لا يتميَّزَ بها من كان قبلَهم...فهذه فائدةُ التشبيهِ لأهلِ الهِمَمِ من المسلمينº إذ ألحقهم بصالحِ الأمم في الشرائعِ العائدة بخيرِ الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: (وفي ذلك فليتنافسِ المتنافسون)! [3] والغرضُ الثاني: أنَّ في التشبيهِ بالسابقين تهويناً على المكلَّفِين بهذه العبادة أن يستثقِلوا هذا الصومº فإنَّ في الاقتداء بالغير أسوةً في المصاعب! فهذه فائدةٌ لمن قد يستصعب الصوم من المشركين فيمنعه وجودُه في الإسلام من الإيمان، ولمن استثقله من قريبي العهد بالإسلام.وقد أكَّد هذا المعنى الضمنيَّ قوله: (أياماً معدوداتٍ,)! والغرضُ الثالث: إثارةُ العزائمِ للقيامِ بهذه الفريضةِº حتى لا يكونوا مقصِّرين في قبولِ هذا العرض، بل يأخذوه بقوّةٍ, تفوق ما أدَّى به الأممُ السابقة\". [4]

 

[4] التقوى:

وقد بيَّنَت الآياتُ الكريمة الغايةَ الكبرى من الصوم، في قولِ اللهِ - عز وجل -: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلَّكم)º \"إنها التقوى! فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضةº طاعةً لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقامَ التقوى عند الله، ووزنها في ميزانهº فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها وطريقٌ موصلٌ إليهاº ومن ثَمَّ يرفعها السياقُ أمام عيونِهم هدفاً وَضِيئاً يتَّجِهُون إليه عن طريقِ الصِّيام (لعلَّكم تتقون)! \"[5]

وقال القرطبي: \"(تتقون) قيل: معناهُ هنا: تضعفونº فإنه كلما قلَّ الأكلُ ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوةُ قلَّت المعاصيº وهذا وجهٌ مجازيُّ حسنٌ، وقيل: لتتقوا المعاصي، وقيل: هو على العمومº لأنَّ الصيام كما قال - عليه السلام -: (الصيامُ جُنَّةٌ) و(وِجاء)، وسبب تقوىº لأنه يُميتُ الشهوات\". [6]

وقد بيَّن المفسِّرون أنَّ تحصيلَ التقوى من الصيام ظاهرةٌº \"لما فيه من زكاةِ النفوسِ وطهارتها وتنقيتها من الأخلاطِ الرديئة والأخلاق الرذيلة\"[7]º ذلك \"أنَّ الصوم يُورث التقوىº لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوىº فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوِّن لذّاتِ الدنيا ورياستهاº وذلك لأنّ الصوم يكسر شهوةَ البطن والفرج، وإنما يسعى الناسُ لهذين... فمَن أكثرَ الصومَ هان عليه أمرُ هذين وخفَّت عليه مؤنتهماº فكان ذلك رادعاً له عن ارتكابِ المحارمِ والفواحش، مهوِّناً عليه أمرَ الرياسة في الدنيا، وذلك جامعٌ لأسبابِ التقوى\"! [8]

وللهِ درٌّ ابنِ القيم حيث قال: \"للصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتهاº فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعِيدُ إليها ما استلبَته منها أيدي الشهواتº فهو من أكبر العونِ على التقوى، كما قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قبلكم لعلكم تتقون). [9] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصوم جُنَّة)، وأمر مَن اشتدّت عليه شهوةُ النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجاءَ هذه الشهوة\". [10]

 

[5] استحضار سماحة الشريعة:

وقد راعت الشريعةُ التدرٌّجَ في تشريعِ الصومِº تخفيفاً على المسلمين، كما قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: \"كان للصومِ رُتَبٌ ثلاثٌ: إحداها: إيجابُهُ بوصفِ التخيير، والثانية: تحتٌّمُه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعمَ حرم عليه الطعامُ والشرابُ إلى الليلة القابلة، فنُسِخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقرَّ عليها الشرعُ إلى يوم القيامة\". [11]

وقال ابن كثير في تفسير قول الله - تعالى -: (يُرِيد الله بكم اليُسر ولا يُرِيد بكم العُسر ولتُكملوا العِدَّةَ ولتكبِّروا اللهَ على ما هداكم ولعلكم تشكرون): \"أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حال المقيم الصحيحº تيسيراً عليكم ورحمةً بكم\". [12]

 

[6] شكر الله - تعالى -:

ورحم الله صاحبَ الظلال حيث قال في تفسير قولِ الله - عز وجل -: (ولتكبِّروا اللهَ على ما هداكم ولعلَّكم تشكرون): \"فهذه غايةٌ من غاياتِ الفريضة: أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسَّره الله لهم، وهم يَجِدُون هذا في أنفسِهم في فترةِ الصومِ أكثرَ من كل فترةٍ,! وهم مَكفُوفُو القلوبِ عن التفكيرِ في المعصية، ومكفُوفُو الجوارحِ عن إتيانِها، وهم شاعِرُون بالهُدى ملموساً محسوساً! ليكبِّروا اللهَ على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة، كما قال في مطلع الحديث عن الصوم: (لعلكم تتقون)º وهكذا تبدو مِنَّةُ الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقاً على الأبدانِ والنفوس، وتتجلى الغايةُ التربويّةُ منه، والإعدادُ من ورائه للدورِ العظيمِ الذي أُخرِجت هذه الأمةُ لتؤدِّيَه أداءً تحرسه التقوى ورقابةُ الله وحساسيةُ الضمير\"! [13]

 

[7] الحياءُ مِن الله - عز وجل -:

والحياءُ من ثمراتِ التفكٌّر في نِعَمِ الله - عز وجل - على العبد، والصائمُ كثيرُ التفكٌّرِ في ذلكº لصفاءِ ذهنِهِ ويقظةِ قلبِه. ورحم الله الإمامَ النوويَّ حيث قال: \"قال العلماء: حقيقةُ الحياء خُلُقٌ يبعث على تركِ القبيحِ، ويمنع من التقصيرِ في حقِّ ذَوِي الحقِّ! ورُوِيَ عن أبي القاسم الجُنَيد - رحمه الله - قال: الحياء: رؤية الآلاءِ أي النِّعم ورؤية التقصيرº فيتولَّدُ بينَهما حالةٌ تُسَمَّى الحياء! \"[14]

 

[8] إحياء الوَرَع:

فالورعُ ثمرةُ الاستقامة واجتنابِ الشبهات، وهذا من أعظمِ الزاد في هذا الشهر الكريمº فالورعُ يحملُ صاحبَه على \"تزكيةِ نفسِهِ وصَونـِها وتأهيلِها للوُصُولِ إلى رَبِّهاº فهو يصونها مما يشينها عنده ويحجبها عنه، ويصون حسناته عما يُسقِطها ويَضَعُهاº لأنه يسيرُ بها إلى ربِّهِ، ويطلب بها رِضاه، ويصون إيمانَه بربِّهِ: من حُبِّهِ وتوحيدِهِ ومعرفتِهِ به ومراقبتِهِ إياهُ عما يُطفِئ نُورَه ويُذهِبُ بهجتَهُ ويُوهِنُ قُوَّتَه! \"[15]

 

[9] الزهد:

ولعلَّ طالبَ العلم يُدرِكُ من قولِ اللهِ - عز وجل -: (أياماً معدوداتٍ,) الإشارةَ إلى الزهد في الدنياº فإذا كان رمضانُ وهو أشرفُ الأوقات وموسم اليقظةº (أياماً معدودات)! فكيف بشهور الغفلات؟! ذلك أنَّ \"المراد بالأيام من قوله: (أياماً معدودات) شهر رمضان عند جمهور المفسِّرينº وإنما عبَّر عن رمضان بـ(أيام) وهي جمعُ قِلةٍ,، ووصف بـ(معدودات) وهي جمع قلة أيضاًº تهويناً لأمرِه على المكلَّفين، والمعدودات كنايةٌ عن القلةº لأنَّ الشيء القليل يُعَدٌّ عدّاً\". [16]

ولا ريبَ أنَّ الزهدَ ينمو في شهرِ الصومِº لأنَّ الزهد في حقيقته كما قال سفيان الثوري: \"قِصَرُ الأملº ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء! \"[17] وقد فسّر أحمد الزهد كذلك في بعض ما نُقل عنه بقوله: \"الزهد قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس! \"[18] وهذا ظاهرٌ في حالِ الصائمين. و رحم الله النوويَّ حيث قال في شرح حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل): \"قالوا في شرح هذا الحديث: معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً. ولا تحدّث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلّق بها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله\"[19].

فالزهدُ إذن من أعظمِ ثمارِ الصومِº لأن الصائمَ يتحرَّر فيه من الشهوات والتعلٌّقِ بالدنياº لاسيما والزهدُ لا يختصٌّ بالمال، كما قال ابنُ رجب: \"قال أبو سليمان الداراني: اختلفوا علينا في الزهدِ بالعراق. فمنهم من قال: الزهدُ في تركِ لقاء الناس، ومنهم مَن قال: في تركِ الشهوات، ومِنهم مَن قال: في تركِ الشبع، وكلامُهم قريبٌ بعضه من بعض. قال: وأنا أذهب إلى أنّ الزهد في تركِ ما يشغلك عن الله - عز وجل -! وهذا الذي قاله أبو سليمان حسنٌ، وهو يجمع معانيَ الزهد وأقسامَه وأنواعَه\"[20].

 

[10] الاستقامة

ولا يخفى أنّ الصوم من أعظمِ أسبابِ الاستقامةº لما يتضمّنه من السعي الدائب إلى الطاعات والمراقبة الدائمة من اقترافِ السيِّئات، قال النووي: \"قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى\". [21] فالصومُ يبعث على يقظة الفِكرةِ وذهابِ الغفلةِº لأنّ العبد يعتريه الضعف في إيمانه والنقص في عمله والفتور في عزمه!

وقد بُشِّر أهل الاستقامة بولاية الله لهم ودفع الخوف والحزن عنهم وسكنى الجنات ونيل ما يريدون من الشهوات، كما قال - عز وجل -: (إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعُون نُزُلاً مِن غَفورٍ, رحيم). [22]

وقال ابن رجب - رحمه الله -º مصداقاً لذلك: \"الطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى اللهº فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما عوى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرةَ فيترك زينةَ الدنياº فهذا عيدُ فِطرِهِ يوم لقاء ربِّهِ وفرحِهِ برؤيتِهِ:

أهلُ الخصوصِ من الصُوَّامِ صومُهم *** صونُ اللسانِ من البُهتانِ والكذبِ!

والعارفون وأهلُ الأُنسِ صومُهُم *** صونُ القلوبِ عن الأغيارِ والحُجُبِ! \"[23]

 

-----

[1] البقرة 183-185.

[2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/279. جمعية إحياء التراث الإسلامي. ط5. 1420 هـ.

[3] المطففين 26.

[4] تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور 2/156-157. الدار التونسية للنشر.

[5] في ظلال القرآن لسيد قطب 2/168. دار الشروق القاهرة. الطبعة الشرعية الثلاثون. 1422 هـ.

[6] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/275-276. مكتبة الغزالي دمشق.

[7] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/202.

[8] التفسير الكبير للرازي 5/60.

[9] البقرة 185.

[10] زاد المعاد من هدي خيرِ العبادِ لابن القيِّم 2/29. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1. 1399 هـ.

[11] المرجع السابق 2/31.

[12] تفسير القرآن العظيم 1/283.

[13] في ظلال القرآن لسيد قطب 2/172.

[14] رياض الصالحين ص 294 295. المكتب الإسلامي بيروت. 1418 هـ.

[15] مدارج السالكين لابن القيم 2/25.

[16] تفسير التحرير والتنوير 2/161.

[17] الرسالة للقشيري ص 115.

[18] جامع العلوم والحكم ص 391.

[19] رياض الصالحين 226.

[20] جامع العلوم والحكم ص 391 392.

[21] رياض الصالحين ص 84.

[22] فصلت 30-32.

[23] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 178. دار ابن حزم بيروت. ط1. 1414 هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply