أخذتُ بيد ابنَتِي، وأنا أُسرِعُ الخُطَى باتجاهِ المدرسة.. في ذلك اليومِ السَّعيدِ مِن أيامِ الشتاءِ.. كان الوقتُ مُبكَِّراً، والبردُ يَلفَحُ الوُجُوهَ، والعرباتُ تطوِي الأرضَ طَيّاً، والشمسُ قد استيقظَت لِتَوِّها مِن نومِها العميق، فتثاءبت ومَسَحَت سوادَ الليل الذي كانت تكتَحِلُ به، وفتَحَت جَفنَها الفاتِرº لِيُشرِقَ مِن خِلالِه نورُ النَّهارِ السَّاحِر.
لا أدرِي سِرَّ شُعُورٍ, غامِرٍ, حَضَرَنِيº فشَغَلَنِي عن يدِ ابنتِي.. لقد سَحَرَنِي منظرُ الأطفالِ وهم يخرجون من كلِّ بيتٍ, ويتقاطرون من كلِّ حَدبٍ, وصَوبٍ,.. أطفالٌ مثل أزهار الياسمين.. يعيشُون في صَفاءٍ,.. ويَجرُون ويمرَحُون سُعَداء.. كالوُرُودِ الحالمة حين تغسلها قطراتُ النَّدَى.
مظهرٌ بديعٌ.. رفَّت له نفسِي.. واقشعرَّ له جِلدِي، وكاد قلبِي أن يطيرَ مِن بين جَوانِحي! تمنَّيتُ حِينئذٍ,.. لو عُدتَ طِفلاً صغيراً.. لا يأبه بالدنيا ولا يأسى على شيءٍ, مَضَى، ولا يُتعِبه النظرُ إلى الوراء!
فما أروعَ.. أن تُغمِضَ عَينَيكَ الغارِقتين في الهُمُومِ والغُمُوم! وتفتحَهما على عالَمٍ, لا تُكدِّرُه الغيوم! مثل أولئك الأطفال الذين تُورِقُ الآمالُ الغَضَّةُ في قُلوبِهم.. وتُشرِقُ الابتساماتُ العذبةُ على شِفاهِهم كالنٌّجوم..
آهِ لو كان الشبابُ.. يُباعُ بالمالِ، ويُستَرَدٌّ بالذهبِ والفضَّة! إذن لبذَلَ الناسُ في تحصيلِهِ ما يملكون، كما قيل:
ليتَ وهل ينفعُ شيئاً ليتُ؟ *** ليتَ شباباً بُوعَ فاشتريتُ!
الآنَ.. أعذرُ كعبَ بن زهير حين قال:
بانَ الشبابُ وأمسى الشيبُ قد أزِفا ***ولا أرى لشبابٍ, ذاهِـبٍ, خَلَفا
لَيتَ الشبـابَ حَلِيـفٌ لا يُزايِلُنا ***بل لَيتَهُ ارتَدَّ مِنهُ بَعضُ ما سَلَفا!
تفكَّرتُ.. وأنا راجِعٌ مِن المدرسة مُثقَلَ الخُطى.. والحُلمُ بين عَينيَّ واجِفٌ، والقلبُ بين جَنبَيَّ راجِفٌ: لماذا نَحِنٌّ إلى زَمَنِ الصِّبا ونرجُو أن يعودَ الشبابُ يوماً؟!
وسرعان ما حضَرَنِي الجوابُ.. إنَّنا نتمنَّى أن نَعُودَ أطفالاً صغاراً، أو نرجعَ كيومِ وَلَدَتنا أُمَّهاتُناº لِنُلقِيَ عَن كَواهِلِنا حِملاً ثَقِيلاً مِن العُيوب، ونَنفُضَ عَنّا عُقوداً مِن خَلفِنا تنُوء بالذٌّنوب!
ألا رحمةُ اللهِ عليك يا هارون الرشيدº ما أصدقَ قولَك:
أتأمُلُ رَجعةَ الدنـيا سـفاهاً *** وقد صار الشبابُ إلى الذَّهابِ
فليتَ الباكيـاتِ بكـلِّ أرضٍ, *** جُمِعنَ لنا فنُحنَ على الشبابِ!
لا أدري لماذا شعرتُ حينئذٍ,.. باحتقارٍ, للدنيا.. بكلِّ لَذَّاتها وشَهواتِهاº فها هو العمرُ.. وهو أغلَى شَيءٍ, في الدٌّنيا يَضِيعُ، كما قيل:
شيئانِ لو بَكَت الدماءَ عليهم *** عينـايَ حتى تأذَنـا بذهابِ
لن تبلُـغَ المِعشـارَ مِن حقَّيهما *** فَقدُ الشبابِ وفُرقةُ الأحبابِ
إنَّ الشبابَ يذكِّرُنا بحقيقةِ الدنيا، وأنها صائرةٌ إلى الفناء، كما قال المتنبِّي:
وما ماضِي الشَّبـابِ بِمُستَرَدِّ *** ولا يَـومٌ يَمـُرٌّ بِمُسـتَعَادِ!
فانقضاءُ الشبابِ عند العقلاءº إيذانٌ بانقضاءِ الحياة! وأنا اليومَ أعِي قِيمةَ العُمرِ الذي ضاع، واستنشدَ القرويَّ أبياته البديعةº فيُنشِدُها على مَسامِعي وأنا مُطرِقٌ إلى الأرضِ برأسي وقلبي:
مَتِّـع شبابَـكَ إنَّ العُمـرَ أطـوارُ *** وكلٌّ طَـورٍ, له في العيشِ أوطارُ
إن أنتَ لم تَجنِ من رَوضِ الصِّبا زَهَراً *** فليس في دِمـنةِ الأيّامِ أزهـارُ
وقيمـةُ الشيءِ مقـدارُ الهِيـامِ بهِ *** فإن زهِـدتَ فما للمَاسِ مِقدارُ
إن كنتِ للروحِ كُن للرٌّوحِ مشتغلاً *** أو كنتَ للجسمِ فلتَهنِئكَ أقذارُ!
إنَّ الشبابَ.. روضةُ ذِكرياتِنا الزاهرة، ودَوحةُ أحلامِنا الساحِرة، كما قال جميل بن معمر:
ألا ليـتَ رَيعانَ الشبابِِ جَدِيدُ *** ولَيـلاً تولَّـى يا بُـثَين يعود!
فنبقى كـما كُنَّا نكـونُ وأنتمُ *** قَرِيـبٌ وإذ ما تبذُلينَ زَهِـيدُ!
وأفنيتُ عُمري في انتِظارِي وَعدَها *** وأبلَيتُ فيها الدهرَ وهو جديدُ!
فالشبابُ أعذبُ سنواتِنا وأزهاها، وأروعُ سنابلِنا وأحلاها، وأندى أزهارِنا وأشهاها! ورَحِمَ اللهُ الحافظَ الذهبي حيث قال في ترجمة قيس بن الملوح من (سِيَر أعلام النبلاء):\"ما أفحَلَ شِعرَه:
صَغيرَينِ نرعَى البَهمَ يا ليتَ أننا *** إلى اليومِ لم نَكبر ولم تَكبُر البَهمُ!\"
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد