بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قلنا إن المدخل إلى الإيمان هو معرفة الرسول لأن الرسول هو المختار من الله لتبليغ رسالته، وهو المؤتمن على وحي الله والمطلع -بإذن الله- على غيبه، وليس هناك باب آخر لمعرفة الغيب إلا من طريق الرسل.
ولما كان ادعاء الرسالة يفعله الكذبة، ويفتريه المفترون وجب على كل ذي لب وعقل أن يعرف طريق التفريق بين من هو رسول الله حقًا وصدقًا فيؤمن به ويصدقه، وبين المدعي الكذاب فيكفر به ويكذبه. ولا شك أن من صدق الكاذبين فهو مثلهم، ومن كذب الصادقين فهو كافر جاحد.
وقلنا إنه ليس هناك من رسول قامت له أدلة الصدق، وبراهينه ما قامت لخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. وقلنا إن مدارسة أدلة صدق الرسول تزيد أهل الإيمان إيمانًا وتثبيتًا، وتفتح الطريق أمام المترددين والشاكين، بل والمعاندين والجاحدين لعلهم أن يرفعوا عن أعينهم الغشاوة، وعن قلوبهم الأقفال، وإلا فهي حجة الله تدمغهم، وتقطع عذرهم يوم لا ينفع الاعتذار، وتزيد في مقتهم أنفسهم مقتًا يوم يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وهذا -بحمد الله- أوان بيان جملة من الدلالات مما تقر به أعين المؤمنين، وترغم به أنوف الكافرين على صدق الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله وخاتم النبيين حقًا وصدقًا.
القرآن الكريم المعجزة الحية الباقية:
أول دلائل النبوة وأعظمها وأظهرها ظهورًا يفوق ظهور الشمس والقمر هو القرآن الكريم المنزل على قلب الرسول الأمين، بلسان عربي مبين تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثل سوره فعجزوا وإلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله ومن عليها قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وقال - تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ • فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
ووجه الإعجاز في القرآن كونه كلام عربي من جنس ما تكلم به العرب أهل الفصاحة والبلاغة، ولكن يستحيل على أي أحد منهم أو غيرهم أن يؤلف كلامًا مثله في البيان والحلاوة والحسن والكمال والعذوبة وأداء المعنى المراد.
وقد وقع التحدي لهم بهذا القرآن بدءًا بأن يأتوا بمثله، ثم تنزل معهم إلى عشر سور ثم إلى سورة مثله، ثم إلى سورة واحدة من مثله. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ • فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور: 32-33).
ثم تنزل معهم إلى عشر سور فقال سبحانه وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13).
ثم تنزل معهم إلى سورة واحدة مثل سورة فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 38).
ثم تنزل معهم إلى سورة من مثل سورة أي مما يشابهه ويقاربه قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23).
وقد عجزوا عن هذا كله وإلى يومنا هذا، فلم يدع أحد أنه قد ألف سورة من مثل القرآن لفظًا وصياغة وكفى بهذا العجز إعجازًا ودلالة أن القرآن كلام الله حقًا وصدقًا.
وإعجاز القرآن وعلوه عن كل كلام للبشر لا يفهمه إلا من يدرك ويفهم الفروق بين الأساليب العالية، والبيان الرفيع، وبين الأساليب الركيكة، والكلام الغثيث وبين درجات الكلام حسنًا ودون ذلك وقبحًا كما أن معجزة موسى عليه السلام في جعل عصاه حية تسعى، وإخراج يده السمراء من جيبه بيضاء من غير سوء، لا يفهم دليل الإعجاز فيها من لا يستطيع أن يفرق بين انقلاب الأعيان وبين تخييل السحرة وجعلهم حبالهم وعصيهم في أعين المشاهدين كأنها حيات تسعى!
وكذلك معجزة عيسى عليه السلام لا يدركها من لا يعرف الفرق بين التطبيب البشري، وبين ما لا يستطيعه طب من إبراء الأكمه (الذي ولد أعمى)، وفتح آذان الأصم، ولا يستطيع أن يفرق بين إفاقة المغمى عليه، وإخراج الميت من قبره حيًا، وكما وجد من لا يفرق بين هذه المعجزات الحسية الظاهرة مما لا يقدر عليه إلا الله، وبين ما يشتبه بها مما يستطيعه البشر، وجد كذلك من لا يستطيع أن يفرق بين كلام معجز لا يستطيع البشر أن يؤلفوا مثله، وبين كلام يقوله الناس يستحيل معارضة القرآن به.
وأما لماذا لم تقنع هذه المعجزات كل أحد، ولم يؤمن بها كل من يراها فذلك لأن أكثر الناس في كل العصور هم رعاع أتباع كل ناعق. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ • وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 170-171).
والمعجزة البيانية في القرآن الكريم ثابتة بأقصر سورة منه، والبشر عاجزون منذ نزل القرآن وإلى يومنا في تأليف سورة من مثل سور القرآن بيانًا وإبداعًا وحلاوة وطلاوة، وبلاغًا، وعجز البشر منذ نزول القرآن وإلى يومنا هذا عن معارضة كلام الله بكلام مثله أو قريبًا منه هو من أعظم الدلالات على نبوة الرسول عليه السلام، إذ ليس من شأن بشر أن يأتي بكلام لا يستطيع أحد من البشر أن يجاريه فيه أو يفوقه. وليس هذا وحده هو وجه الدلالة علي أن القرآن كلام الله.
أوجه الدلالة على أن القرآن كلام الله عز وجل وليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما أوجه الدلالة على أن القرآن كلام الله عدا إعجازه البياني فكثير جدًا، وهذا غير معجزة القرآن البيانية والتي وقع التحدي فيها، ومن هذه الدلالات:
1- أخبار الأمم السابقين:
إخبار القرآن بغيوب كثيرة لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأها في كتاب، ولا التقى بأحد ممن له علم بها فيتعلمها منه، وقد جاءت هذه الأخبار كما عند أهلها تمامًا، ومن ذلك قصص الأنبياء السابقين، وأحوال الأمم الهالكة، وتفصيل ما وقع لهم، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن قص عليه قصة يوسف بتفصيلاتها الكثيرة: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ • وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 102-103).
والمعنى هذا الذي قصصناه عليه من شأن يوسف وأبويه وأخوته هو من أنباء الغيب التي لم تشهدها أنت فإنك لم تكن حاضرًا عندما أجمع أخوة يوسف على إبعاده عن أبيه وإلقائه في غيابة الجب، ومكروا بأخيهم وأبيهم على ذلك النحو، ولكن الله هو الذي أطلعك على هذا الغيب وأوحاه لك ليكون هذا دليلًا على صدقك، ومع هذا فإن أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم، وقدمت لهم هذه الأدلة القاطعة لا يؤمنون.
وقال تعالى لرسوله أيضًا بعد أن قص عليه قصة موسى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ • وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ • وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 44-46).
وقال تعالى أيضًا بعد أن قص الله على رسوله قصة مريم وما كان من شأنها في ولادتها ونشأتها وكفالتها وتعبدها... الخ: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
وهذه القصص وتلك الأخبار التي جاءت مصدقةً لما في التوراة دليل واضح على أن القرآن من عند الله، وأن محمد بن عبدالله هو رسول الله حقًا وصدقًا.
2- إخبار القرآن بما يأتي من الأحداث:
أخبار القرآن بأمور كثيرة تقع مستقبلًا وقعت كما أخبر الله بها تمامًا كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55).
وقد تحقق هذا تمامًا علمًا أن كل الظواهر وقت نزول هذه الآيات كانت بخلاف ذلك فقد كان المسلمون بحال من الضعف مما لا يظن معه نصرهم، والكفار بحال من القوة والمنعة مما يظن أن الغلبة لهم.
وكذلك قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا • هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}.
وفي هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى أن صلح الحديبية سيكون فتحًا مبينًا علمًا أن الصحابة أنفسهم الذين نزل القرآن عليهم، وعاشوا هذه الأحداث كانوا يظنون صلح الحديبية ذلًا وهزيمة لهم كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: [أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد كدت أن أرد على رسول الله أمره، بعد حادثة أبي جندل] (رواه البخاري).
وقد كان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى وكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام خلافًا لما ظنه الجميع حتى إن الرسول نفسه الذي وقع هذا الصلح وارتضاه كان يقول عندما يسأل لماذا يرضى بهذا الصلح، وفيه ما فيه من قبول الدنية في الدين والإهانة للمسلمين: [إنه ربي ولن يضيعني].
فأي دليل أكبر من هذا على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا هذا الدليل لكفى إثباتًا أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأن القرآن المنزل عليه هو كلام الله وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم.
3- ومن الأدلة كذلك على أن القرآن من عند الله وليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بحقيقة مقالة النصارى في عيسى بن مريم واختلاف أمرهم فيه، وهذا أمر كان النصارى يخفونه ويكتمونه ولا يذيعونه، فأنى لرجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يجادل أحدًا من الأمم في دينهم ولا عرف شيئًا مما عند اليهود والنصارى أن يدل النصارى على حقيقة أقوالهم في دينهم، وحقيقة اختلافهم، ويعلم ما يخفونه من هذا الدين، ثم يقيم الحجة القاطعة عليهم التي يقطعهم بها، ويدفع باطلهم، ويميت دعوتهم.
وحول هذا الدليل يقول القاضي عبد الجبار الهمداني رحمه الله في كتابه تثبيت دلائل النبوة: \"ومن آياته وأعلامه صلى الله عليه وسلم إخباره عن النصرانية ومذاهب النصارى من هذه الطوائف الثلاث منهم، وهي الباقية القائمة الراهنة في قولهم أن المسيح عيسى بن مريم هو الله، وأن الله ثالث ثلاثة، فإن هذه الطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنسطورية، لا يختلفون في أن المسيح عيسى بن مريم ليس بعبد صالح ولا بنبي ولا برسول، وأنه هو الله في الحقيقة، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات، وأن للعالم إلهًا هو أب والد لم يزل، غير مولود، وأنه قديم خالق رازق، وإله هو ابن مولود، وأنه ليس بأب ولا والد، وأنه قديم حي خالق رازق، وإله هو روح قدس ليس بأب والد ولا ابن مولود، وأنه قديم حي خالق رازق، وأن الذي نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وصار هو ابنها إلهًا واحدًا ومسمى واحدًا وخالقًا واحدًا ورازقًا واحدًا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب وتألم، ومات ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه (قلت: هذا ملخص الأمانة النصرانية التي وضعها النصارى في مؤتمرهم الأول عام 320م) فحكى قولهم في أن المسيح هو الله وإن الله ثالث ثلاثة.
وهكذا مذهبهم في الحقيقة ولا يكادون يفصحون به بل يدافعون عن حقيقته ما أمكنهم، حتى إن أرباب المقالات (يعني المصنفون في العقائد والفرق والنحل) وأهل العناية بها من المصنفين لا يكادون يحصلون هذه منهم، وإنك لتجد الناظرين منهم والمجادلين عنهم إذا سألتهم عن قولهم في المسيح، قالوا: قولنا فيه أنه روح الله وكلمته مثل قول المسلمين سواءًا، أو يقول: إن الله واحد... وتجده صلى الله عليه وسلم وقد حكى حقيقة مذهبهم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم من المجادلين ولا من المتنبئين، ولا ممن يقرأ الكتب ويلقى من هذا، فانتشر هذا عنه صلى الله عليه وسلم، وفتش الناس عنه بعد ذلك فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم وكما فصل، بعد الجهد وطول الاستقصاء في الطلب والتفتيش، وما أكثر ما تلقى منهم فيقول: ما قلنا في المسيح أنه الله، ولا قلنا: إن الله ثالث ثلاثة، ومن حكى هذا عنا فقد أخطأ وكذب، ليعلم أن وقوف محمد صلى الله عليه وسلم هذا إنما هو من قبل الله - عز وجل -، وأن ذلك من آياته \".
قلت: وقد كان النصارى منذ ما نزل القرآن وظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عناية تامة لإبطال دين الرسول صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الإسلام، وحنق شديد على الإسلام وأهله، وقد كان يكفى في ذلك أن يثبتوا أن ما قاله الرسول عنهم في شأن عيسى ليس هو ما يقولونه وما يعتقدونه، وأنه كذب عليهم، وأنه قال عنهم ما لم يقولوه، بل أنهم لما نشروا مذهبهم، وأظهروا مقالاتهم، وأخرجوا للعالم ما سموه (الأمانة) وهي حقيقة قولهم في عيسى عليه السلام كانت تمامًا كما حكى القرآن عنهم فهل يمكن لرجل أمي أن يعلم حقيقة دين يخفيه أهله عن عامتهم.
إبطال الرسول لدين النصارى من أعظم أدلة نبوته:
بل إن ما جاء به القرآن الكريم في إبطال دين النصرانية، وفساد عقائدهم لهو من أعظم الأدلة على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقًا وصدقًا، فقد كان حظ العرب المشركون من فهم عقائد النصارى أن اعتقدوا أن آلهتهم خير من المسيح بن مريم!! كما قال تعالى عنهم: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ • وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
وأما القرآن فإنه دحض جميع حجج النصارى، وبين كذبهم وفساد معتقدهم في عيسى عليه السلام، وأنه لم يصلب ولم يقتل، وأنه لم يكن إلا عبدًا صالحًا ورسولًا كريمًا أعلن عبوديته منذ ولادته: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا • وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا • وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا • وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} وفي هذا أعظم رد على الذين قالوا إنه إله من إله، وأنه هو خالق للسماوات والأرض، لأنه ليس من شأن الإله الخالق أن يولد ويموت، وتكون له والدة، وليس من شأن الإله أن يصلي!! ولا أن يزكي ولا أن يعلم كتابًا!
وكان في كل أدوار حياته يعلن بشريته وعبوديته لإلهه ومولاه الذي في السماء {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} وفي الإنجيل: \"أبانا الذي في السماء نقدس اسمك\".
وجاء القرآن ليعلن كفر من اعتقد أن عيسى عليه السلام إلهًا خالقًا رازقًا فقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقال جل وعلا أيضًا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ • أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ • مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة: 71-76).
وفي هذه الآيات من الدلالات الواضحات على إبطال دين النصرانية ما لا يتسع لشرحه المقام، فقد أعلن أولًا كفر من زعم أن عيسى عليه السلام هو الله، ومن جعله ثالث ثلاثة، وبين أن عيسى وأمه كنا يأكلان الطعام وهذا دليل حاجة، وللطعام ضرورته المعروفة، وفضلاته التي لا تليق بالإله!
وفي الآيات أن الإله لا يكون إلا واحدًا لأن الإله هو من يملك نفع عبده وضره ومن هو خالقه ورازقه، وعيسى لم يكن كذلك فلم يكن خالقًا ولا رازقًا للبشر، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا أن يملكه لعابده، ولما كان الخلق واحدًا فإن الخالق لا بد وأن يكون واحدًا بالضرورة ولو كانوا ثلاثة لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض!! {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي لمغالبته.
وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ • مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
وهذه قضية عقلية لا يماري فيها عاقل، وقد كان البشر جميعًا وقت نزول الوحي على غير ذلك تمامًا فقد اعتقد كل منهم بإله غير الله خالق السموات والأرض وعبدوا بشرًا وملائكة وجنًا وشمسًا وقمرًا، وحجرًا وشجرًا... الخ عبادة ذل وخضوع وتقرب ومحبة!
وجاء هذا الرسول الأمي ليعلن لهؤلاء جميعًا أن الإله لا يكون إلا واحدًا وذلك لأن الإله الحق من خلق ورزق، ومن يدبر السماوات والأرض، ومن يتصرف في الملك كله، وليس هذا إلا لخالق السماوات والأرض وحده سبحانه وتعالى... وأنه لو كان معه إله آخر لفسد الكون واضطرب، وتنازع الآلهة الخلق ولعلا بعضهم على بعض وأنى لرجل أمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يطالع ما عند الأمم من العقائد أن يعلم عقائد الجميع بل أسرار عقائدهم وحقيقة قولهم، ثم ينكر على هذه العقائد فيبطلها بالحجة الدامغة، والقول الذي لا يمكن أن يعارض. أليس هذا من أعظم الأدلة على أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقًا وصدقًا.
الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر اليهود بمعتقداتهم، وما يخفونه من دينهم:
ومن الأدلة كذلك على أن القرآن كلام الله حقًا وصدقًا أنه أخبر اليهود بحقيقة دينهم، وأظهر كثيرًا مما كانوا يخفونه من هذا الدين حتى عن العامة منهم وعن أهل ملتهم فجاء القرآن فأظهر ذلك للناس وهتك أستارهم، وأخرج أسرارهم. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91).
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ • يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16).
وليس هناك من أمة هتك الله أسرارها، وبين حقيقة أمرها وأظهر مكنون قلوبها كاليهود، وذلك أنهم العدو اللدود للإسلام وأهله منذ وجد الإسلام، وإلى قيام الساعة، وقد كان فضح القرآن لأسرارهم، وإظهاره لحقيقة أمرهم، إلزامًا لهم بالحجة من دينهم وبيانًا لما أخفوه من الحق، وأظهروه من الباطل، وإثباتًا لهم أن محمدًا بن عبد الله هو رسول الله حقا وصدقًا وأنه المخلص الحق الذي ينتظرونه ليخلصهم وأنه المبشر به على لسان موسى وسائر أنبيائهم.
ثم ليكون هذا أيضًا تبصيرًا بحقيقة أمرهم، وتعليمًا للمسلمين طرائق الوقاية منهم، ودحضًا لباطلهم، وإزالتهم من وجه دعوة الإسلام ليأخذ طريقه في هداية البشر، وإقامة الحجة على المعاندين منهم.
ولو كان القرآن قد جاء بخبر واحد على خلاف الحق في كل ذلك لكان هذا دليلًا واضحًا عندهم أن القرآن ليس كلام الله ولكان هذا كافيًا لهدم رسالة الإسلام ومع تغيظ اليهود على الإسلام، وسعيهم في إبطال رسالة الرسول فإنهم لم يجدوا شيئًا مما قاله عنهم غير الحق، وإلى يومنا هذا، ولو وجدوا خبرًا واحدًا غير الحق لطيروه في كل مكان، وتكلموا به في كل زمان.
فمن أسرارهم التي أخفوها، وتظاهروا أمام الأمم والشعوب بغيرها، معاندتهم للرسل وقتلهم لأنبياءهم، وكونهم شعب صلب الرقبة، قساة القلوب {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قد لعنوا على ألسنة رسلهم، هذا مع تقبيحهم وإيذائهم لأنبيائهم والساعين في نجاتهم وإنقاذهم فقد آذوا موسى، واتهموه بقتل أخيه هارون، وهو المخلص الذي جاء لخلاصهم وسبوا الله واتهموه بالبخل والعجز، والضعف والنسيان {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: 64).
وجاء القرآن فنفى عن الله سبحانه وتعالى ما ألصقوه وشتموه سبحانه به، ونفى عن رسل الله ما شتموهم وسبوهم به فقد سبوا إبراهيم عليه السلام واتهموه بالدياثة، وسبوا لوطًا عليه السلام سبًا قبيحا، ونسبوا إليه أنه زنى بابنتيه بعد أن شرب الخمر!! واتهموا موسى بقتل هارون، واتهموا هارون عليه السلام أنه هو صانع العجل الذي عبدوه، واتهموا سليمان عليه السلام بالسحر، ونسبوا إليه شعرًا لا يقوله شاعر ماجن (نشيد الأنشاد)، وجاء القرآن لينفي هذا كله ويرد كل ما افتروه على الله وعلى رسالاته، ويبطل حجتهم، وأغنيتهم المفضلة أنهم شعب الله المختار إلى آخر الزمان، فبين أن هذا كان لفترة وجيزة فقط ثم إن الله لعنهم بكفرهم وعنادهم وقتلهم الأنبياء، وآخر من سعوا في قتله هو عيسى عليه السلام الذي سعوا للسلطان الرومي الكافر في قتله بكل سبيل، واستصدروا أمرًا منه بقتله بعد اتهامه له أنه ابن زنا، وأنه مهرطق كذاب كافر!! والعجب أن هذا ما زال اعتقادهم إلى اليوم في عيسى عليه السلام!! وأشد العجب من النصارى هذه الأزمان الذين يوالون اليهود ويحبونهم مع بقائهم على هذه العقائد وهذا لأنهم فقط أعداء الإسلام!
وأقول أنى لرجل أمي نشأ في مكة لم يقرأ كتابًا، ولم يناقش حبرًا ولا راهبًا ولا عرف شيئًا من الديانات السابقة أن يعلم هذا كله، وأن يصحح ليهود عقائدهم، ويبطل باطلهم، ويخرج مخازيهم، ويدعوهم بكل الرحمة والرأفة والشفقة مع عداوتهم له ليسلكوا طريق الرب، ويدخلوا في صراطه المستقيم، ولو لم يكن إلا هذه الآية وحدها عند أولي الأبصار لكفى ذلك.
ومن أسرارهم التي كانوا يخفونها حتى عن عامتهم حكم الرجم للزاني والزانية، وقد كان أحبارهم غيروا هذا الحكم، واخترعوا حكمًا آخر، وهو تسويد وجه من وقع منه الزنا، والطواف به في الأسواق، وفضحه على رؤوس الناس!! ولما وقع من بعضهم الزنا في عهد رسول الله، وتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه ينفعهم في دينهم لو حكم الرسول بحكم أخف من الرجم فقبلوه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن حكم الله المنزل عليهم في التوراة التي عندهم هو الرجم، وجادلوه في ذلك، وقالوا وهم يعلمون أنهم كاذبين، ما نجد حكم الرجم في كتابنا!
فأمرهم الرسول أن يأتوا بالتوراة وأن يقرأوها أمامهم إن كانوا صادقين!! فأتوا بالتوراة، وشرع حبر كذاب من أحبارهم يقرأ في أحكام الزنا، ولما جاء إلى حكم الرجم انتقل عنه، ووضع يده على آية الرجم، وكان عبد الله بن سلام رضي الله عنه حاضرًا فقال له ارفع يدك، وقرأ بنفسه آية الرجم من التوراة!
وقد ظهر للناس جميعهم فيما بعد أن الرجم للزاني هو حكم الله المنزل في التوراة بعد أن أظهر اليهود والنصارى العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل).
وهذه هي آيات الرجم الموجودة في التوراة التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم:
(إذا اتخذ رجل امرأة وحين دخل عليها أبغضها ونسب إليها أسباب كلام وأشاع عنها اسمًا رديًا وقال هذه المرأة اتخذتها ولما دنوت منها لم أجد لها عذرة، ويقول أبو الفتاة للشيوخ أعطيت هذا الرجل ابنتي زوجة فأبغضها، وها هو قد جعل أسباب كلام قائلًا لم أجد لبنتك عذرة وهذه علامة عذرة ابنتي ويبسطان بمائة من الفضة ويعطونها لأبي الفتاة لأنه أشاع اسمًا رديًا عن عذراء من إسرائيل فتكون له زوجة لا يقدر أن يطلقها كل أيامه، ولكن إن كان هذا الأمر صحيحًا لم توجد عذرة للفتاة يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها فتنتزع الشر من إسرائيل.
إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك، ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل الذي اضطجع معها وحدة وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئًا، ليس على الفتاة خطية للموت بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلًا هكذا هذا الأمر إنه في الحقل وجدها فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلصها) (سفر التثنية22).
ولقد نزل للقرآن بهذا كله، واعلم الله ورسوله بما كان يخفيه أهل الكتاب في هذا الشأن، ولو لم يكن من آية للرسول إلا هذه الآية لكفت.
وقد روى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله هذه القصة بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على هذا النحو عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: [ما تجدون في التوراة على من زنى] قالوا: نسود وجوههما ونجملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: [فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين] فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأنا فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.
وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا بإسناده إلى البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: [هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم] قالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم فقال: [أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم] قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف، أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه] فأمر به فرجم فأنزل الله - عز وجل -: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله: {إن أوتيتم هذا فخذوه}. يقول: ائتوا محمدًا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتأكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها.
قلت: وهذا يدل على أن أمر ترك الرجم قد كان سرًا من أسرارهم، وأن علماءهم تواصوا على كتمانه، وأنهم استمروا على مخالفة أمر الله في هذا الحكم، وأنى للرسول الأمي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن الرجم حكم ثابت في التوراة وقد كان هذا سرًا عندهم.. لولا أن الله أعلم بذلك.
ومن أخبار القرآن بأمور مستقبلية ووقوعها كما أخبر تمامًا قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
وقد وقع هذا تمامًا، فقد انطلق الرسول إلى فتح خيبر وكانت بلدة محصنة جدًا فقد كان فيها لليهود سبع حصون تدخل بسراديب بيتها، وكانوا يخزنون مؤنتهم في هذه الحصون، ويستطيعون أن يقاتلوا غيرهم وهم في حصونهم عامًا كاملًا حتى ينصرف الخصم عنهم، ولم يكن للعرب معرفة بفتح الحصون، ولا القتال من وراء جدر، ولم يجيدوا إلا القتال في العراء وجهًا لوجه.
وقد أخبر الله رسوله أنه سيفتح خيبر لهم ويجعلها غنيمة للمسلمين، وكل ذلك قد كان قبل أن يتوجه الرسول إليها، ولو لم يكن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقًا وصدقًا لما كان له أن يجازف ويقول سأفتح خيبر ويغنمها المسلمون، وحاله وحال عدوه يدل على غير ذلك، فلم يبق إلا إن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى، وهذا قرآن منزل من عند من يعلم غيب السموات والأرض، وقد أخبر الرسول في هذه الغزوة بغيوب كثيرة فقد استعصى على المسلمين فتحها في أول الأمر، ووجدوا أن الأمر أبعد مما تصورا، فقال لهم رسول الله في مساء يوم وهم محاصرون خيبر: [لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه]. ثم نادى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودفع إليه الراية، وقال له: [انفذ على رسلك، ولا تلتفت، وادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله وإني رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا منهم خير لك من حمر النعم].
وقد كان الأمر كما أخبر الرسول تمامًا، ووقع الفتح في يومه.
واستقصاء كل ما أخبر به القرآن عن أمور مستقبلية يطول جدًا والمقصود هنا هو ذكر بعض الأدلة فقط التي تثبت أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى.
وهذا الذي ذكرناه آنفًا هو مجرد شواهد على أن هذا القرآن لا يمكن أن يفترى من دون الله سبحانه وتعالى وأن رجلًا أميًا يستحيل أن يعلم عقائد هذه الأمم، ويطلع على أسرارهم، بل أن يصحح معلوماتهم الخاطئة، ويبطل ما ادعوه من الباطل في دينهم، ويدعو الأمم والشعوب جميعًا إلى الدخول في دينه القويم وصراطه المستقيم.
{وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس: 37).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد