بسم الله الرحمن الرحيم
سألني بعض الأخوة: لم كل هذا الاهتمام بالحرية في مقالاتك، وكل هذه العناية بها؟ ولم لا تكون الشريعة والتوحيد هو الهدف والغاية؟
فقلت له: هناك سببان لهذا الاهتمام: أما الأولº فلأن تحقيق الحرية غاية شرعية في حد ذاتها، بل الحرية من أشرف مقاصد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فالعبودية إنما هي لله، ثم الخلق بعد ذلك أحرار مع من سواه، فالخضوع والطاعة والرغبة والرهبة هي لله وحده الذي له الخلق والملك والأمر والحكم كما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله). وقد فسر النبي معنى الربوبية هنا بطاعة الرؤساء والأحبار والرهبان والخضوع لهم، وجاء في الحديث \"إنما السيد الله\"، فهو الذي له السيادة المطلقة. فإذا كان السيد هو الله وهو الملك والرب والحاكمº فليس للخلق على بعضهم سيادة ولا طاعة ولا حكم ولا خضوع إلا بإذن الله وهذا هو معنى الحرية الإنسانية.
وقد تقرر في الشريعة قاعدة \"الأصل في الإنسان الحرية\" وأما الرق فهو طارئ يجب العمل على التخلص منه، إذ أكثر الأحكام الشرعية وأجلها وأشرفها منوطة بالحرية كالإمامة العامة والجهاد والجمعة والجماعة والحج والزكاة، فكلها يشترط فيها الحرية وتسقط في حال العبودية والاسترقاق، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحرير رقيق العرب فقام عمر بتحرير كل عربي تم استرقاقه في الجاهلية، ودفع ثمن ذلك من بيت المالº فكان العرب أول أمة في التاريخ الإنساني تتخلص من الرق بشكل نهائي ومن جميع أشكاله، وتحققت فيهم الحرية بنوعيها: المعنوية، والصورية، ولم يبق فيهم عبد ولا رقيق منذ عهد عمر وإنما بقي الرقيق من غير العرب لكون الأمم الأخرى تسترق أسراها في الحروب، فكان العرب الفاتحون يعاملونهم بالمثل، إذ الاسترقاق أهون من القتل، ومع ذلك جعلت الشريعة تحرير الرقيق عموماً من أفضل القربات وكفارة لبعض المحظورات سواء كان الرقيق مسلمين أو غير مسلمين، بل أمر القرآن بتحريرهم من بيت مال المسلمين، وأوجب على السادة مكاتبة من يريد فداء نفسه منهم ومساعدتهم بالمال كما قال تعالى: (وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
كل ذلك يؤكد مدى عناية الشريعة بحرية الإنسان وتحريره من كل أشكال العبودية لغير الله تحريراً مادياً ومعنوياً، ولهذا قال عمر كلمته الخالدة دفاعاً عن قبطي مسيحي ظلمه بعضُ الأمراء: \"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا\"º فسمّى عمر الظلم استعباداً، مع أن القبطي لم يكن عبداً ولا رقيقاً، بل كان حراً إلا أن استذلاله وظلمه استعباد معنوي له، فالعرب تسمي كل تذلل وخضوع للغير عبودية، وإن كان الخاضع لغيره حراً في نفسه، إذ هي حرية صورية شكلية، ولهذا قال ربعي بن عامر لرستم: \"إن الله بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد\"، ومعنى عبادة العباد أي الخضوع والطاعة للملوك والرؤساء والأحبار والرهبان، ومنه قول موسى لفرعون: (وتلك نعمة تمنٌّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل) ولم يكن بنو إسرائيل رقيقاً لفرعونº بل كانوا أحراراً غير أنهم لما كانوا خاضعين لحكمه مستسلمين لظلمه صدق عليهم أنهم عبيد لا أحرار، بل جعل الإسلام هذه الحرية المعنوية من أصول الدين وقطعياته، فلا عبودية إلا لله ولا سيادة إلا لله ولا طاعة إلا لله ولا خضوع ولا تذلل إلا له وحده بينما جعل العبودية الصورية الشكلية وهي الاسترقاق من فروع الأحكام الفقهية وذلك لعظم خطر الحرية المعنوية وشدة أثرها على النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية، ولهذا كانت عناية القرآن بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية المعنوية لغير الله كالخشية والخوف والرغبة والرهبة والطاعة والتذلل والخضوع أشد من عنايته بالحرية الصورية التي يفتقدها الرقيق، إذ هذه فرع وتلك أصل، فتحرير الإنسان من العبودية والخضوع والتذلل لغير الله من أصول الدينº بل أشرف غاياته وهو أساس التوحيد الذي جاء الرسل لتحقيقه، أما تحريره من الرق فمن فروع الدين من أجل كمال التوحيدº حتى تكون عبودية الإنسان خالصة لله في المعنى والصورة. ولا تكون كذلك حتى تزول كل أشكال عبودية الإنسان للإنسان وتزول كل سيادة للإنسان على أخيه الإنسان فلا سيد إلا الله وحده، والخلق أحرار مع من سواه وكلما ارتفعوا في مقام العبودية لله اتسعت دائرة الحرية فيما بينهم.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلق عبودية لله، وبهذا وصفه القرآن لأنه أكثرهم تحرراً من الخضوع لغير الله وأكملهم حرية، وقد جعل الإسلام الحرية بجميع أشكالها حقاً محفوظاًº بل واجباً مفروضاً، فقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم- الأنصار في العقبة قبل الهجرة على \" أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم\"، وقال في شأن يهودي انتقد النبي - صلى الله عليه وسلم- علانية: \"دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً\" ليؤكد بذلك مبدأ حرية الكلمة وحرية نقد السلطة. هذه الحرية التي تعد حجر الأساس لجميع أنواع الحريات الإنسانية، بل لقد جعل النبي قول كلمة الحق أفضل أنواع الجهاد في سبيل اللهº فقال: \"أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر\"، وجعل العمل السياسي والاهتمام بشؤون الأمة والسلطة وتقويمها من الدينº فقال: \"الدين النصيحة....... لأئمة المسلمين وعامتهم\"، والنصيحة هي بذل الوسع في إرشادهم ومشاركتهم في الرأي والاجتهاد في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والتصدي لظلمهم والأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطراً، وصدعهم بالحق كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة. كما جعل الله - سبحانه وتعالى - حق اختيار السلطة للأمة يحرم مصادرته أو اغتصابه كما في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، وقال عمر: \"الإمارة شورى بين المسلمين\"، وقال عليّ: \"أيها الناس إنما الأمير من أمّرتموه والخليفة من اخترتموه\"، وقد أجمع الصحابة على هذا الأصل الذي يؤكد الحرية السياسية في مشاركة الأمة في اختيار السلطة كما قرر القرآن حق الأمة في مشاركة السلطة بعد اختيارها في اتخاذ القرار وأنه ليس للسلطة أن تقطع أمراً دون الأمة كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر).
وما تعيشه الشعوب العربية على وجه الخصوص هي العبودية المعنوية للملوك والرؤساء والعلماء، هذه العبودية التي تغتال كرامة الإنسان وحريته وإنسانيتهº لتصبح شعوب العالم العربي أكثر الشعوب خضوعاً للاستبداد الداخلي، وأكثر قابلية للخضوع للاستعمار الخارجي. وهي اليوم في عبودية أشد من عبودية بني إسرائيل لفرعون، فقد ضربت عليهم الذلة في كل بلد وصار ثلاثمائة مليون عربي يباعون في أسواق النخاسة الدولية دون أن يحركوا ساكناً أو يدفعوا باطلاً، أو ينصروا حقاً أو ينكئوا عدواً فهم أحوج إلى التحرير من العبودية لغير الله - الذي هو غاية كلمة التوحيد - منهم إلى الشريعة التي تسقط الكثير من أحكامها عن الإنسان إذا فقد حريته الصوريةº فكيف إذا فقد حريته المعنوية؟!
وللحديث بقية ..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد