توحيـد الربوبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



وهو توحيد الله بأفعاله، واعتقاد تفرده بالخلق والملك والرزق والتدبير،فهو وحده الذي يخلق الخـلق ويدبر الأمر،وهو وحده الذي يرسل الرسل، ويشرع الشرائع ليحق الحق بكلماته،ويقيم العدل بين عباده شرعاً وقدراً، إلى غير ذلك مما لا يحصيه العد ولا يحيط به القول.



* قال - تعالى - مبيناً تفرده بالخلق : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) (الزمر :62)



* وقال - تعالى - مبيناً تفرده بالأمر : (يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) (آل عمران : 154).



* وجمع بين الأمرين فقال - تعالى - : (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (الأعراف : 54). أي له الملك وله التصرف،لا راد لقضائه ولا معقب على حكمه لم يكن له شريك في الملك،ولم يكن له ولي من الذل.



* وقال - تعالى - على لسان موسى: (قال ربُنا الذي أعطى كل شيء خلقـه ثم هدى) (طه : 50)



فهو الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليـقة على ما أراد،وهو الذي أعطى كل خلق ما يصلحه،وأعطى كل شيء ما ينبغي له،وهيأ كل شيء على ذلك.



ثانياً : لا يكفي الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك :

وهذا التوحيد حق لا ريب فيه،وإن كان لا يكفي وحده للبراءة من الشرك،فإنه لم يذهب إلى نقيضه بالكلية طائفة معروفة من بني آدم،بل القلوب مفطورة على الإقـرار به أعظم من كونهـا مفطـورة على الإقرار بغيره من الموجودات،كما قالت الرسل عليهم السلام فيما حـكى الله عنهم : ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ) ( إبراهيم : 10 )،وأشهر من عرف تجاهله وتظـاهر بإنكـار الصانع فرعون،وقد كان مستيقناً به في الباطن،كما قال له موسى - عليه السلام -: ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) ( الإسراء : 102)،وقال - - تعالى - - عنه وعن قومه: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) ( النمل : 14 ).



ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال : إن للعالم صانعين متماثلين في الصفات والأفعال:



- فالثنوية من المجوس،والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة،وأن العالم صدر عنهما : متفقون على أن النور خير من الظلمة،وأنه الإله المحمود،وأن الظلمة شريرة مذمومة،وهم متنازعون في الظلمة : هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين؟



- والنصارى القائلون بالتثليث،لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض،بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد ويقولون : باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد.



وقولهم في التثليث متناقض في نفسه،وقولهم في الحلول أفسـد منه،ولهذا كانوا مضطربين في فهمه،وفي التعبير عنه،وفي الجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين.



- ومشركوا العرب وغيرهم من الأمم كانوا يقرون على الجملة بالخلق والرزق والتدبير.



قال - تعالى -: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخـر الشمس والقمر ليقولـن الله فأنى يؤفكون) (العنكبوت:63).



وقال - تعالى -: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصـار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدير الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون.) (يونس : 31).



ثالثاً : وقوع الشرك في بعض الربوبية :

وهذا الإقرار المجمل من المشركين بالربوبية لا يعنى أنه لم يقع شرك في الربوبية قط،بل قد وقع الشرك في بعض الربوبية لدى بعض الناس،كاعتقاد بعض المشركين أن ثمَّ خالقاً خلق بعض العـالم كمـا سبقت الإشارة إلى الثنوية والمانوية وبعض الفلاسفة وغيرهم ممن يثبتون أموراً محدثة بغير إحداث الله لها،أو اعتقاد بعضهم في آلهتهم شيئاً من النفع والضر لم يخلقه الله،كما قال قوم هود لنبيهم: ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) ( هود : 54 ) أو كما خوف قوم إبراهيم - عليه السلام - نبيهم بشركائهم فناظرهم بقوله:



(وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) (الأنعام : 81)



ولما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس بين القرآن بطلانه كما في قوله - تعالى -: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) (المؤمنون : 91).



فتأمل هذا البرهان الباهر،بهذا اللفظ الوجيز الظاهر،فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً،يوصـل إلى عابده النفع،ويدفع عنه الضر،فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه،لكان له خلق وفعـل،وحينئذٍ, فلا يرضى تلك الشركة،بل إن قدر على قهر ذلك الشريك،وتفرد بالملك والإلهية دونه فعل،وإن لم يقدر على ذلك انفـرد بخلقه،وذهب بذلك الخلق،كما ينفرد ملوك الدنيـا بعضهم على بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه،فلا بد من أحد ثلاثة أمور :



* إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.



* وإما أن يعلو بعضهم على بعض.



* وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء،ولا يتصرفون فيه،بل يكون وحده هو الإله،وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.



وانتظام أمر العالم كله،وإحكام أمره،من أدل الأدلة على أن مدبره إله واحد،ملك واحد،ورب واحد،لا إله للخلق غيره،ولا رب لهم سواه (راجع شرح الطحاوية : 39).



كما أن هذا لا يعني أنهم أتوا به على النحو الذي جاءت به الرسل،إذ لو كان كذلك لقادهم حتماً إلى عبادة الله وحده،ولكنه إيمان منقوص ومدخول،لم يتواطأ فيه اطمئنان الجنان مع إقرار اللسان،ولم يأتلف فيه عمل القلب مع قول القلب،ولم يخل من شوائب من الشرك كما سبق.



رابعاً : الإيمان بالربوبية هو المدخل إلى توحيد الألوهية :



كما لا يعنى القول بأن توحيد الربوبية مما أقر به المشركون الأوائل أن نضرب الذكر عن دراسته صفحاً أو أن تتجاوزه الدراسات الأكاديمية واللقاءات الدعوية ،فإن جل ما ورد في القرآن الكريم متعلقاً بالتوحيد إنما كان في تقرير هذا التوحيد ليؤسس عليه الدعوة إلى عبادة الله وحده، فلن يثبت توحيد الألوهية إلا على قاعدة مكينة صلبة من توحيد الربوبية،فإن من يرسخ يقينه بتفرد الله بالخلق والملك والرزق والتدبير لا بد أن يتوجه بدعائه وعبادته إليه وحده وإلا فهو التناقض أو الجنون !



وتأمل قول الله - تعالى -: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) (فاطر : 3) فقـد جعل من تفرد الله بالخلق والرزق دليلاً على تفرده بالألوهية واستحقاقه وحده للعبادة.



وتأمل قوله - تعالى - في سورة غافر: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمـين،هو الحي لا إله إلا هو فادعـوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) (غافر : 64 -65).



وقوله - تعالى - في سورة النمل: (أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون،أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون،أمن يجيب المضطـر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلـكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكـرون،أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته أءله مع الله - تعالى - الله عما يشركون،أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (النمل :60-64) فقد جعل من مظاهر تفرده بالربوبية في الخلق والرزق والتدبير دليلاً على تفرده بالألوهية واستحقاقه وحده للعبادة.





توحيـد الربوبية



ولو تدبرت في جميـع الآيات التي وردت في إقرار المشركين بالربوبية لوجـدتها تجعل من هذا الإقرار مدخلاً للدعوة إلى توحيد الألوهية وبرهاناً عليه.



قال - تعالى - : (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمـون،سيقولون لله قل أفلا تذكـرون،قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم،سيقولون لله قل أفلا تتقون،قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون،سيقولون لله قل فأنى تسحرون) (المؤمنون : 84-89).



وقال - تعالى -: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) (يونس : 31). فقد جـعل من هذه الإقرارات مدخلاً لدعوتهم إلى نفي التشريك في باب الألوهية.



ولو تدبرت أيضاً في جميع الآيات التي نعت على المشركين عبادة الأوثان لوجدت احتجاجها عليهم بأن هذه الأوثان لا تملك شيئاً من مظاهر الربوبية،فهي لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع،ولا تملك تدبيراً ولا تأثيراً،فكيف يعبد من هذا حاله؟!



قال - تعالى - : (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون،أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون،إلهكم واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) (النحل : 20 - 22).



وقال - تعالى -: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً،إذا قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً) (مريم : 41- 42)



وقال - تعالى -: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون،ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصـرون ) (الأعراف :191،192)



وقال - تعالى -: (إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) (العنكبوت: 17).



فقد جعل من عجز هذه الآلهة المزعومة عن الخلق والرزق والتدبير دليلاً على بطلان عبادتها من دون الله.



ومن هنا يجب أن تعنى الدراسات العلمية بإحياء فريضة النظر في ملكوت السماوات والأرض،والتدبر في مظاهر ربوبية الله لهذا الكون فإنها تحيي الإيمان وتجدد ربيعه في القلب،وتسوق صاحبها سوقاً إلى الإخبات لله جل وعلا وإفراده وحده بالعبادة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply