الاستغاثة والرد على محمد علوي المالكي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فمسألة الاستغاثة بالأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء والصالحين ، من المسائل التي كثر فيها النزاع في العصور المتأخرة ، بين مانع يراها ضربا من الشرك والوثنية ، ومبيح يراها من أفضل القرب لدى رب البرية .ولا شك أن القرآن الكريم لم يغفل هذه القضية ،ولم يسكت عن بيان حكم هذه البلية ، كيف وغاية مقصده بيان التوحيد ودعوة الناس إليه ، وكشف الشرك وتنفير الناس منه وعامة من ضل في هذا الباب إنما أتي من قبل إعراضه عن نور القرآن ، وإقباله على ذبالات الأذهان ، وخرافات الأحبار والرهبان ، المعتمدين على منطق اليونان .
وهذا بحث مختصر ليس لي فيه إلا جمع الأقوال ، وترتيب النقول ، فعسى أن ينفع الله به كاتبه وقارئه ، وأن يجعله ذخرا لي يوم الحساب .
وقبل الشروع في مقصود البحث لا بد من عرض مقدمات ضرورية ، أرى التقصير في عرضها سببا لاتساع رقعة الخلاف ، وكثرة القيل والقال .
وإذا ما اتفق الجميع على هذه المقدمات أمكن الاتفاق على المسألة محل النزاع .



المسألة الأولى :
هل كان المشركون الأولون مقرين لله بالربوبية ؟
هل أثبتوا خالقا ورازقا ومدبرا لهذا الكون غير الله رب البرية ؟
وسيتفرع عن هذه المسألة مسائل ، تذكر تباعا إن شاء الله .
والذي يدفعني إلى إثارة هذه القضية التي تبدو من البدهيات الواضحات : أني رأيت بعض من كتب في مسألة الاستغاثة ، ينكر هذه القضية ، ويزعم أن المشركين لم يفردوا الله بالخالقية والرازقية .
فإليك البيان ، وأبدأ بذكر آيات مشهورة معلومة للجميع ، مرتبة حسب ترتيب المصحف ، مفسرة من كلام أئمة التفسير المتفق على إمامتهم وجلالتهم .
فاللهم وفق وسدد وأعن .
أولا:
قوله تعالى : \" قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله . فقل أفلا تتقون \" يونس :31
قال الامام البغوي (ت:516 ه) في تفسيره: \"(فسيقولون الله ) هو الذي يفعل هذه الأشياء (فقل افلا تتقون ) أفلا تخافون عقابه في شرككم . وقيل : أفلا تتقون الشرك مع هذا الإقرار. (فذلكم الله ربكم ) الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم ( الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) أي فأين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرون به .\" اه
وقال الامام الرازي في تفسيره (17/70 (
\" ثم بين تعالى إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون انه الله سبحانه وتعالى ، وهذا يدل على إن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى ، وانهم شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر\" انتهى
قلت : احفظ هذا الموضع فسنرجع إليه.
وقال الإمام ابن كثير (ت:774 ه ) في تفسيره :
\" يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته ، على وحدانية الآلهة ، فقال تعالى ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته ، (ومن يدبر الأمر) أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ... فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه ، عبيد له خاضعون لديه (فسيقولون الله) أي هم يعلمون ذلك ويعترفون به
(فقل أفلا تتقون ) أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم .
وقوله (فذلكم الله ربكم الحق ) الآية ، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، ( فأنى تصرفون ) أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة من سواه ، وانتم تعلمون انه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء .
وقوله (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا) الآية ، أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره ، مع انهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده ، فلهذا حقت عليهم كلمة الله انهم أشقياء من ساكني النار\" انتهى .
فهذا إفراد لله بالخلق والرزق وهبة السمع والبصر وإخراج الحي من الميت والعكس وتدبير الأمر . فانتبه .
ثانيا :
قوله تعالى : \" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون \" يوسف : 106
قال الإمام البغوي :
\" فكان إيمانهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض ؟ قالوا الله ، وإذا قيل لهم من ينزل المطر ؟ قالوا الله ، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون\" ثم ذكر قول ابن عباس وعطاء ، ويأتي.
وقال الإمام ابن الجوزي ( 508 – 597 ) ، في زاد المسير
” فيهم ثلاثة أقوال : احدها : انهم المشركون ، ثم في معناها المتعلق بهم قولان : أحدهما: أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم ، وهم يشركون به ، رواه صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة .
والثاني :أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . رواه الضحاك عن ابن عباس\" انتهى .
وقال الامام القرطبي ( ت : 671 ) في تفسيره 9 / 272
\"نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها ، وهم يعبدون الأوثان ، قاله الحسن ومجاهد وعامر والشعبي وأكثر المفسرين.
وقال عكرمة : هو قوله ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا ....
وقال عطاء : هذا في الدعاء ، وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء . بيانه ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) الآية ، وفي آية أخرى ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ).
وقيل معناها : انهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة فإذا أنجاهم قال قائلهم : لولا فلان ما نجونا ، ولولا الكلب لدخل علينا اللص ، قلت : وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .\" انتهى
وقال ابن كثير بعد نقل كلام ابن عباس :
\" وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وفي الصحيحين (إن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) وفي صحيح مسلم (إنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قد قد ) أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا ، وقال الله تعالى (إن الشرك لظلم عظيم) وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره\" انتهى

فهاهم يحجون لله ! فهل يشك أحد في إقرارهم بالخالق ، بل وفي تقديم عبادات له ؟!
وهاهم يعترفون بأن جميع آلهتهم مملوكة لله ( تملكه وما ملك ) فهل يقول مسلم بعد ذلك: انهم أشركوا لاعتقادهم أنها آلهة مساوية لله ، تنفع وتضر بذاتها.
ولا تعجل بالإنكار على ما تقدم مستدلا بقوله تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين ) فسيأتيك معناه واعلم أن القرآن من عند الله والقرآن لا يتناقض ، ولله الحمد .
ثالثا :
قوله تعالى : \" قل لمن الأرض ومن عليها إن كنتم تعلمون . سيقولون لله . قل أفلا تذكرون . قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم . سيقولون لله . قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون . سيقولون لله . قل فأنى تسحرون \"
المؤمنون : 84 – 89
فهل تحتاج هذه الآيات الى تفسير ؟!
صدق الله ، وكذب المبطلون .
قال الإمام ابن جرير الطبري :(يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا مـحمد لهؤلاء الـمكذبـين بـالآخرة من قومك: لـمن ملك الأرض ومن فـيها من الـخـلق إن كنتـم تعلـمون مَن مالكها؟
ثم أعلـمه أنهم سيقرّون بأنها لله ملكا، دون سائر الأشياء غيره. قُل أفَلا تَذَكَّرُونَ يقول: فقل لهم إذا أجابوك بذلك كذلك: أفلا تذكرون فتعلـمون أن من قدر علـى خـلق ذلك ابتداء فهو قادر علـى إحيائهم بعد مـماتهم وإعادتهم خـلقا سويًّا بعد فنائهم) انتهى
وقال الإمام ابن كثير -وانتبه جيدا لما يقول-:
\" ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية وانه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه ، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا ولا يستبدون بشيء ، بل اعتقدوا انهم يقربونهم إليه زلفى ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) فقال ( قل لمن الأرض ومن فيها ) ...سيقولون لله ) أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له ، فإذا كان ذلك ( قل أفلا تذكرون ) انه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره.( قل فأنى تسحرون ) أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك . ) انتهى
ما أروعه من كلام !
وسيأتي مزيد توضيح عن حقيقة شركهم ، والدافع إليه ، لنسف شبهة أن الشرك اعتقاد الاستقلال ، أو النفع والضر ، أو اعتقاد شريكين متساويين ، فقط .
رابعا :
قوله تعالى \" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون\" . إلى قوله : \"ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله . قل الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون \" العنكبوت :63
قال الامام الطبري :\"يقول تعالـى ذكره: ولئن سألت يا مـحمد هؤلاء الـمشركين بـالله من خـلق السموات والأرض فَسَوّاهن، وسخَّر الشمس والقمر لعبـاده، يجريان دائبـين لـمصالـح خـلق الله؟ لـيقولنّ الذي خـلق ذلك وفَعَلَه الله. ( فأنَّى يُؤفَكُونَ) يقول جلّ ثناؤه: فأنى يُصرفون عمن صنع ذلك، فـيعدلون عن إخلاص العبـادة له\" انتهى .
وقال البغوي : (3/474 )
\" (بل اكثرهم لا يعقلون) ينكرون التوحيد مع إقرارهم أنه الخالق لهذه الاشياء \" انتهى.
وقال ابن الجوزي : ( 6/ 283 )
\" (ولئن سألتهم ) يعني كفار مكة ، وكانوا يقرون بأنه الخالق والرازق ، وإنما أمره إن يقول ( الحمد لله ) على إقرارهم º لان ذلك يلزمهم الحجة ، فيوجب عليهم التوحيد (بل أكثرهم لا يعقلون) توحيد الله مع إقرارهم بأنه الخالق ، والمراد بالأكثر: الجميع \" انتهى .
وقال القرطبي ( 13/ 361 )
\" ( ليقولن الله ) أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به ، وتنكرون الإعادة ؟ \" انتهى.
وقال ابن كثير ( 3/406 )
\" يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو ، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم ، فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟
فكما انه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته ، وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية ، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك ، الا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك \" انتهى
خامسا :
قال الله تعالى : \" ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله . قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون \" لقمان : 25
قال القرطبي : (14 / 75(

\"أي هم يعترفون بأن الله خالقهم فلم يعبدون غيره .\" انتهى
وقال ابن كثير ( 3/ 434 )
\" يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء المشركين به ، إنهم يعرفون أن الله خالق السموات وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون انها خلق له وملك له...
( قل الحمد لله ) أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم \" انتهى
واحفظ هذه الإشارة ( يعترفون أنها خلق له وملك له ) .
سادسا :
قال تعالى : \" ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله . قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته . قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون \" الزمر : 38
قال ابن جرير :
\"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام: مَن خلق السموات والأرض؟ ليقولنّ:
الذي خلقهنّ الله . فإذا قالوا ذلك، فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة إن أرَادَنِي اللَّهُ بِضُرَ ، يقول: بشدة في معيشتي، هل هنَّ كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر؟
أو أرَادَنِي بِرَحمَةٍ, ، يقول: إن أرادني ربي أن يصيبني سعة في معيشتي، وكثرة مالي، ورخاء وعافية في بدني، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟
وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه.
والمعنى: فإنهم سيقولون لا، فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها، إياه أعبد، وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه، فإنه الكافي، وبيده الضرّ والنفع، لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، عَلَيه يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ يقول: على الله يتوكل من هو متوكل، وبه فليثق لا بغيره.\" انتهى
وقال القرطبي :
\" بين انهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله ، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى ، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السموات والأرض ...( أو أرادني برحمة ) نعمة ورخاء ( هل هن ممسكات رحمته )
قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا.
وقال غيره : قالوا : لا تدفع شيئا قدره الله ، ولكنها تشفع . فنزلت قل حسبي الله \" انتهى.
قلت : الله اكبر .
لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع .
فأين شرك الاستقلال واعتقاد الربوبية ؟!!
وقال الرازي : (25/282)
\" اعلم انه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين ، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام ، وبنى هذا التزييف على أصلين :
الأصل الأول : هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم ، وهو المراد بقوله : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله )
واعلم أن من الناس من قال : إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه ، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم º فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة ، وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة ، علم انه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم \" انتهى
وقال ابن كثير: \" (ليقولن الله ) يعني المشركين ، كانوا يعترفون أن الله عز وجل هو الخالق للأشياء كلها ، ومع هذا يعبدون معه غيره مما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا \" انتهى.
قلت : لو اعتقد المشركون في آلهتهم نفعا ذاتيا مستقلا ، لكان لهم جواب على السؤال : (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ؟..)
بلى ، لهم جواب ، وهي أنها تشفع !!
سابعا :
قوله تعالى : \" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم \" الزخرف : 9
قال ابن عطية ( 13/200)
\"ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم . وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسموات والأرض هو الله تعالى ، وهم مع ذلك يعبدون أصناما ويدعونها آلهتهم . \" انتهى
وقال القرطبي :
\" قوله تعالى ( ولئن سألتهم ) يعني المشركين ( من خلق السموات والأرض ليقولن العزيز العليم ) فأقروا له بالخلق والإيجاد ، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم ، وقد مضى في غير موضع \" انتهى .
وانظر ابن كثير وغيره
ثامنا :
قوله تعالى : \" ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون \" الزخرف : 87
قال الطبري :
\"يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلقهم؟ ليقولنّ: اللّهُ خلقنا ، ( فَأنَّى يُؤفَكُونَ ) فأيّ وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم، ويحرمون إصابة الحقّ في عبادته\" انتهى
وقال ابن عطية:
\"ثم أظهر تعالى الحجة عليهم من أقوالهم وإقرارهم بأن الله تعالى هو خالقهم وموجدهم بعد العدم ...\" انتهى .
وقال القرطبي :
\" قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد ان لم يكونوا شيئا ( فأنى يؤفكون ) أي كيف ينقلبون عن عبادته ، وينصرفون عنها ، حتى أشركوا به غيره ، رجاء شفاعتهم له \" انتهى
قلت : احفظ هذا الموضع ولا تنساه.( رجاء شفاعتهم له ) لا استقلالا ، ولا خلقا .
تاسعا :
قوله تعالى : \" فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون \" البقرة : 22
وإنما أخرته لحكمة تقف عليها الآن .
قال الإمام ابن جرير الطبري :
\"القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأنتُـم تَعلَـمُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عنـي بها جميع الـمشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنـي بذلك أهل الكتابـين: التوراة، والإنـجيـل.
ذكر من قال: عنـي بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفـار أهل الكتابـين:
حدثنا... عن ابن عبـاس، قال: نزل ذلك فـي الفريقـين جميعا من الكفـار والـمنافقـين. وإنـما عَنَى بقوله: فَلاَ تَـجعَلُوا لِلَّهِ أندَادا وأنتُـم تَعلَـمُونَ أي لا تشركوا بـالله غيره من الأنداد التـي لا تنفع ولا تضرّ، وأنتـم تعلـمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علـمتـم أن الذي يدعوكم إلـيه الرسول من توحيده هو الـحقّ لا شك فـيه.
حدثنا .... عن قتادة فـي قوله: وأنتُـم تَعلَـمُونَ : أي تعلـمون أن الله خـلقكم وخـلق السموات والأرض، ثم تـجعلون له أندادا.
ذكر من قال: عَنَى بذلك أهلَ الكتابـين:
حدثنا ... عن مـجاهد: فَلا تَـجعَلُوا لِلَّهِ أندَادا وأنتُـم تَعلَـمُونَ : أنه إله واحد فـي التوراة والإنـجيـل.
وحدثنـي ، عن مـجاهد مثله.
وحدثنـي... عن مـجاهد: وأنتُـم تَعلَـمُونَ يقول: وأنتـم تعلـمون أنه لا ندّ له فـي التوراة والإنـجيـل.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مـجاهدا إلـى هذا التأويـل، وإضافة ذلك إلـى أنه خطاب لأهل التوراة والإنـجيـل دون غيرهم، الظنّ منه بـالعرب أنها لـم تكن تعلـم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانـية ربها، وإشراكها معه فـي العبـادة غيره. وإن ذلك لقولٌ ، ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر فـي كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانـيته،غير أنها كانت تشرك فـي عبـادته ما كانت تشرك فـيها، فقال جل ثناؤه: ( وَلِئِن سألتَهُم مَن خَـلَقَهُم لَـيَقُولُنَّ اللَّهُ ) وقال: ( قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أم مَن يَـملِكُ السَّمعَ وَالأبصَارَ وَمَن يُخرِجُ الـحَيَّ مِنَ الـمَيِّتِ ويُخرِجُ الـمَيِّتَ مِنَ الـحَيَّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُل أفَلا تَتَّقُونَ).
فـالذي هو أولـى بتأويـل قوله: وأنتُـم تَعلَـمُونَ إذ كان ما كان عند العرب من العلـم بوحدانـية الله، وأنه مبدع الـخـلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابـين. ولـم يكن فـي الآية دلالة علـى أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: وأنتُـم تَعلَـمُونَ أحد الـحزبـين، بل مخرج الـخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تـحدّى الناس كلهم بقوله: يا أيٌّها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُم : أن يكون تأويـله ما قاله ابن عبـاس وقتادة، من أنه يعنـي بذلك كل مكلف عالـم بوحدانـية الله، وأنه لا شريك له فـي خـلقه يشرك معه فـي عبـادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربـيا كان أو أعجميا، كاتبـا أو أميا، وإن كان الـخطاب لكفـار أهل الكتاب الذين كانوا حوالـي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفـاق منهم ومـمن بـين ظهرانـيهم مـمن كان مشركا فـانتقل إلـى النفـاق بـمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم \" انتهى .
فانتبه إلى هذا الكلام العظيم ، لا سيما قوله انه خطاب عام للناس كافة ، لكل من يؤمن بالله ثم يشرك معه غيره في العبادة .
لكني أقول والله اعلم : إننا لا نظن في مجاهد انه قال ما قال لا جل ذلك ، فقد سبق تفسيره لقوله تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) وأنه موافق لابن عباس بأنها في المشركين ، يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به .
بل العجيب إن الطبري نقل كلام مجاهد في تفسير الآية المشار إليها قال \" حدثني ... عن مجاهد ( إيمانهم قولهم الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا ، هذا ايمان مع شرك ، عبادتهم غيره ) انتهى من الطبري لعله خص أهل الكتاب بذلك ، لكون الآية مدنية ، أو غير ذلك ، والله اعلم.
ومن باب الفائدة أنقل كلام بعض الأئمة من غير المفسرين

أولا : الإمام ملا علي القاري
قال في شرح الفقه الأكبر ص 16
\"وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود ، ففي التنزيل: ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ).
فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ويومئ إليه حديث : \" كل مولود يولد على فطرة الإسلام \".وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد ، ولذا أطبقت كلمتهم وأجمعت حجتهم على كلمة لا إله إلا الله ، ولم يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا : الله موجود ، بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ، ردا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد. \" انتهى.
فاحفظ هذا الكلام ، والخبير يعرف من المقصود برد الإمام .

ثانيا : وقال على القاري ايضا: في شرح الشفا للقاضي عياض (2/528)
تعليقا على ما نقله القاضي عن الباقلاني أن الإيمان بالله هو العلم بوجوده ، قال :
” وما يتعلق به من توحيد ذاته ، وإلا فمجرد العلم بوجوده حاصل لعامة خلقه ، كما قال الله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) وإنما أنكر وجوده سبحانه طائفة من الدهرية والمعطلة \" انتهى.

ولست بحاجة إلى نقل كلام ابن تيمية وابن القيم والآلوسي والشوكاني والصنعاني والقاسمي والشنقيطي والسعدي ، ولا كلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده .
ولله الحمد والمنة .
نظرة إلى المخالفين
ربما تظن أنه لوضوح هذا الحق دليلا ، واتفاق العلماء عليه شرحا وتعليلا ، أنه لا يوجد من يجرؤ على المخالفة.
ولكن أقول : لقد دأب دعاة الاستغاثة بالأموات على نفي هذه الحقيقة والتشكيك فيها ، والزعم بأن المشركين كانوا يشركون في الربوبية ، وينسبون الخلق والنفع والضر لأصنامهم .
وإليك بعض ما سطرته أيديهم ، وغدا يرونه في صحائفهم :
يقول محمد علوي المالكي في مفاهيمه :
” وقل ذلك أيضا في قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) فإنهم لو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى الخالق وحده ، وان أصنامهم لا تخلق لكانت عبادتهم لله وحده دونها ) انتهى
وهو كلام لا ينقضي منه العجب .. ألا يكفي إخبار القرآن وتقريره لهذه القضية أن تكون من الحقائق لا الأوهام .
وأعجب منه ظنه – المفهوم من كلامه – أن من اقر بالخالق استحال منه صرف العبادة لغيره .
أقول : بل لم يقروا بالخالق فحسب ، إنما اقروا أنه الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف في الكون الذي يجير ولا يجار عليه .
ومن كلامه الذي دخل به التاريخ ، قوله بعد ذكره قوله تعالى \" ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى \") هذه الآية صريحة في الإنكار على المشركين عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة من دونه تعالى وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية (!!) على أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله زلفى . فكفرهم وشركهم من حيث عبادتهم لها ومن حيث اعتقادهم أنها أرباب من دون الله ، وهنا مهمة لا بد من بيانها وهي أن هذه الآية تشهد بأن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي عنهم ربنا ) انتهى.

فقارن رحمك الله بين كلامه وكلام المفسرين السابق .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply