الدولة الصهيونية: صراع الحاخامات والجنرالات


 

بسم الله الرحمن الرحيم



في نوفمبر 1995م اشتدت وطأة هجوم الحاخامات واليمين الصهيوني المتطرف ضد (رئيس الوزراء حينئذٍ,) إسحاق رابين بسبب ما عدوه تنازل عن أرض إسرائيل الكبرى، وقالوا: إن \"مشروع التوراة في خطر\" بسبب توقيعه اتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين (1993م)، وبلغت الأزمة بين الطرفين حد كتابة منشورات تدعو لقتل رابين، ونشر صور له وهو يلبس العقال (الكوفية) الفلسطينية.

ثم جاء التطور الأخطر عندما أعلن بعض الحاخامات - منهم الحاخام \"يوسف دايان\" من مستوطنة \"بساغوت\" القريبة من \"رام الله\" في الضفة الغربية - أنهم سيقيمون صلاة (بولسا دينورا) التي تقام لتمني قتل إنسان آخر، ولم تمض أيام حتى قتل رابين بالرصاص علي يد شاب يهودي متطرف بالفعل.

ومع إصرار شارون على الانسحاب من غزة لتأمين الدولة العبرية ضد هجمات المقاومة الفلسطينية، ما يعني الانسحاب من 22 مستوطنة يهودية 18 منها في غزة، وإخراج قرابة 8 آلاف مستوطن من غزة، بدأت نفس مظاهر العداء بين شارون من جهة والحاخامات واليمين الديني المتطرف من جهة أخرى، وبدأ كتابة شعارات تحريضية على حوائط الكليات الدينية (كلية بيت يعقوب لمرغليت) في القدس تهدد بقتل (رئيس الحكومة) أريئيل شارون، كما بدأت تظهر صور لشارون يلبس الكوفية الفلسطينية، وقد كتب عليها كلمة \"خائن\"و\"كذاب\".

وبدأ السيناريو الأخطر المتكرر، ليس فقط في إعلان حاخامات أنهم مستعدون لإقامة صلاة (بولسا دينورا) للدعوة لقتل شارون، ولكن بدعوتهم الجيش الصهيوني لعصيان أوامر قادته، والانصياع لمطالب الحاخامات، ورفض إخراج المستوطنين بالقوة من مستوطنات غزة ليفتح هذان التطوران الباب أمام السؤال:

هل تؤدي هذه الحرب التي بدأت بين شارون والجيش مع الحاخامات واليمين المتطرف إلى قتل شارون في نهاية المطاف، وبوادر انهيار الدولة الصهيونية من الداخل؟!

لقد كانت العبارات التي كتبت على حوائط الكليات الدينية اليهودية واضحة، وتقول: \"قتلنا رابين.. سنقتل شارون أيضاً\"، وكان تصريح الحاخام \"يوسف دايان\" أيضاً واضحاً عندما أكد استعداده للصلاة من أجل وفاة (رئيس الوزراء الإسرائيلي) أرييل شارون، وقال: \"أتمنى وفاة شارون\"، وصرح للشبكة الثانية الخاصة للتلفزيون الإسرائيلي أنه: \"إذا ما طلب مني إقامة (بولسا دينورا) من أجل شارون بسبب خطته للانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة ومن المستوطنات الأربع في شمال الضفة الغربية فأنا مستعد للقيام بذلك\"، مشيراً إلى احتفال قديم توقفت ممارسته لطلب وفاة شخص ما.

أيضاً كانت الصيحات الغاضبة لنواب أقصى اليمين ضد خطة شارون وقت التصويت لصالحها تقول بوضوح: \"إن الخطة تخون المزاعم اليهودية في أرض الميعاد \"، وجاء رد شارون مستفزاً لهم أكثر عندما سخر من الدعاوى التوراتية في قطاع غزة قائلاً: إن لديهم \"عقدة المسيح المنتظر\".

وإذا علمنا أن هناك قوى دينية إسرائيلية لا تعترف بقرارات الحكومة أو الكنيست، وتعد التصويت على الانسحاب من غزة حبر على ورقº فإن هذا يكشف خطورة هذه الجماعات، واحتمال قيامها بأعمال اغتيال، مثل: جماعة \"شبيبة التلال\" أو (شبيبة المستوطنات) الذين يقولون علناً: إنهم لا يولون للكنيست أي أهمية، ويقولون: إنهم يضعون علامة إكس كبيرة على الكنيست، كما يقولون: \"يمكن للكنيست أن تتخذ قرارات لكن هذا واقع خيالي.. واقع لنشرات الأخبار وليس ما سيكون على أرض الواقع\"!!



الحاخامات خطر على الجنرالات:

مع أن الجيش الإسرائيلي استفاد كثيراً من فتاوى ومواقف الحاخامات اليهود في رفع الروح المعنوية للجنود الصهاينة في مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني، فقد أدت خطط شارون للانسحاب من غزة لصدام غير عادي بين الجيش، والحاخامات يدعون العسكريين إلى عصيان أوامر شارون والجيش لو طلب منهم أن يشاركوا في إخلاء المستوطنات، معتبرين أن المسألة \"أمر ديني\" يتعلق بأرض إسرائيل الكبرى والتعاليم التوراتية!!

فـ(كبير حاخامات إسرائيل السابق) ابراهام شابيرا - الذي يعد من أكبر الزعماء الدينيين - دعا عناصر الجيش الإسرائيلي إلى رفض ما أسماه \"ارتكاب الخطيئة\" - وهي إجلاء المستوطنين -، وسانده في ذلك حوالي ستين حاخاماً بينهم العديد من مسؤولي المدارس التلمودية، كما اتخذ \"مجلس حاخامات ييشع\" الذي يمثل المستوطنين المتدينين موقفاً داعماً لما دعا إليه شابيرا، وطالب الجنود بعصيان أوامر الإخلاء بالقوة للمستوطنات.

وقد حاول الجيش في البداية احتواء هذا الخلاف، وتم إيفاد الجنرال اليعاز شتيرن (المكلف بإدارة الأفراد في الجيش الإسرائيلي) للاجتماع بمسؤولي المدارس التلمودية التي تستقبل العديد من المجندين بهدف شرح موقف الجيش، ثم حذر (وزير الدفاع) شاؤل موفاز مما أسماه \"دعوات العصيان هذه التي تفضي إلى الكراهية، وإلى ضرب التماسك الوطني، وهو تماماً ما يريده الأعداء\"، وقال: \"إن الدعوات إلى العصيان التي أطلقها بعض الحاخامات غير مقبولة، ويجب أن تكون موضع إدانة\"، واستعاد الكلمات نفسها (رئيس الأركان) الجنرال موشي يعالون، الذي اعتبر أن دعوات الحاخامات: \"تعرض الصهيونية للخطر\".

ومع أن بعض الحاخامات الآخرين سعوا لإيقاف هذه الحرب الكلامية، وقال الحاخام يوئيل بن نون (المسؤول الديني لكيبوتز هاداتي ): \"إن: دعوة الحاخام شابيرا تعرض للخطر مستقبل دولة إسرائيل\"، كما أصدرت إدارة كيبوتز هاداتي بياناً دعت فيه الحاخامات إلى \"عدم إقحام الجيش في الجدل الدائر حول خطة الانسحاب\" مع التذكير بأن الإدارة نفسها تعارض الخطة، وتطالب باستفتاء عام بشأنها.

رغم ذلك تصاعد الخلافات، وبلغ الأمر حد مطالبة (وزير العدل) تومي لبيد لمحاكمة الحاخامات، قائلاً : إنه لن يكون هناك مفر من تقديمهم للمحاكمة، بل وحذر الحاخامات من أن إيمانهم بأرض إسرائيل لا يمنحهم الشرعية للتحريض والحض على خرق الأوامر، أو تحريض المستوطنين للجوء إلى العنف\".

وحذر الوزير لبيد من خطر تدهور إسرائيل إلى وضع مشابه للوضع الذي ساد في أسبانيا خلال الحرب الأهلية التي عصفت بها، وأدت إلى مقتل الملايين: \" نتيجة المواجهات السياسية التي تهدد المجتمع الإسرائيلي\".



حكومة شارون.. حكومة \"إكراه\"!

أيضاً كان من أبرز معالم احتدام الصراع بين شارون والجيش من جهة، والحاخامات والمتطرفين الدينيين من جهة، أن الحاخامات بدؤوا يصفون حكومة شارون - تماماً كما فعلوا مع رابين - بأنها \"حكومة إكراه.

فـ(الزعيم الروحي لحركة شاس) الحاخام عوفاديا يوسف أمر بالتصويت ضد \"خطة الانفصال\"، قال لأسبوعية \"بَـمِـشبحاه\" الدينية: \"هذه حكومة إكراه، إذا قالوا عن حكومة رابين: إنها كانت حكومة إكراه، فيجب قول ذلك بشكل مضاعف عن حكومة شارون\"!؟

ورغم أن (وزير الدفاع الصهيوني) شاؤول موفاز ذهب للحاخام يوسف في منزله، وأطلعه على خرائط الانسحاب، وإيجابيات الخطة، كما زاره قادة عسكريون لإقناعه بعدم معارضة خطة الانسحاب، أو تحريض الجنود علي العصيانº فقد استمر هجوم الحاخام يوسف على شارون، وقال: \"إن وزراء شارون يحاربون ضد أرض إسرائيل، وضد توراة إسرائيل وشعب إسرائيل، لقد هدموا مؤسسات التوراة \".

وقد سعت جهات أمنية إسرائيلية للتخفيف من الأنباء بشأن احتمالات استهداف المتطرفين الدينيين اليهود لشارون بالقتل، فأصدرت بيانات تقول: إن هذه التهديدات \"تم تضخيمها بشكل بالغ \"، بيد أن مصادر أمنية أخرى قالت لصحف إسرائيلية: \"إن شارون موجود حقاً تحت تهديد متواصل\"، ولكنها قالت: إنه لم يتم إجراء أي تغيير في نظام حراسته، ولا توجد تحذيرات عينية بشأن نية يهود المس به.

وبالمقابل استمرت التحذيرات العسكرية للحاخامات من أن التحريض على العصيان خطر على كامل الدولة الصهيونية، فـ(وزير الدفاع) موفاز قال بوضوح: \"إن رفض تنفيذ الأوامر العسكرية سيمزق الشعب، إن الرفض سيقود إلى الاندثار، وهذا هو بالضبط ما ينتظره أعداؤنا، أن نندثر.. لقد أرادوا لنا الانهيار الداخلي والخلاف الذي يشق دولة إسرائيل\".

ويبدو أن \"بأس\" اليهود والانقسام بين بعضهم البعض ربما يكون عامل إغاثة للطرف العربي الضعيف في بعض الأحيان، ظهرت مزاياه في عدة مواقف كما حدث عقب توقيع اتفاقات أوسلو، وظهور ما يسمى \"معسكر السلام الإسرائيلي\" ومعسكر اليمين المتطرف، وكما حدث في الخلافات بين حزبي العمل والليكود، وبين الليكود والأحزاب الدينية اليهودية، وأخيراً في صورة رفض ضباط وجنود إسرائيليين الخدمة في الضفة الغربية وقتل الفلسطينيين، ثم الصراع بين الحاخامات والجيش.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply