دعوتنا .. أمام الخلافات الدينية


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

الشيخ حسن البنا


أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية والآراء المذهبية.

تجمع ولا تفرق:

فاعلم فقهك الله أولاً أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، ونود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر.فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كانº تحب الإجماع وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الآمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.



الخلاف الضروري:

ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة:

منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص على أعماق المعاني. وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس جد متفاوتين فلا بد من خلاف.

ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك، والآخر شأنه كذلك. وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة.

ومنها اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.

ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله.

ومنها اختلاف تقدير الدلالات، فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً وذاك لا يقول معه به وهكذا.



الإجماع على أمر فرعي متعذر:

كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جمود فيه ولا تشديد.



نعتذر لمخالفينا:

نعتقد هذا، فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو من الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟

هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخالف بعضهم بعضاً في الإفتاء، فهل أوقع ذلك اختلافاً بينهم في القلوب؟ وهل فرَّق وحدتهم أو فرَّق رابطتهم؟ اللهم لا.. وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.

وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهداً بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات تافهة لا خطر لها؟ وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة ورسوله قد اختلف بعضهم مع بعض وناظر بعضهم بعضاً، فلم لا يسعنا ما وسعهم؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها كالأذان الذي ينادى به خمس مرات في اليوم الواحد ووردت به النصوص والآثار، فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط !.

وثمَّ أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى \" الخليفة \" وشرطه الإمامة فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن، فأنى الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.

يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علماً، وفي كل دعوة حقاً وباطلاً، فهم يتحرون الحق ويأخذون به ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين، نسأل الله لنا ولهم الهداية.

ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply