أصول أهل البدع


بسم الله الرحمن الرحيم

 

سأذكر في هذه الحلقة شيئا من المصادر التي يتلقى منها أهل الأهواء عقائدهم وأعمالهم.

فأول هذه المصادر: الأهواء:

والهوى في الغالب أمر خفي، وقد يكون جليا. والهوى هو الميل الذي يجعل الإنسان يتجاوز الحق أو يقصر فيه بالجهل أو العمد مع استبانة الحق، فإذا مال الإنسان عن النهج السليم بقصد أو بغير قصد فإن ميله يسمى هوىº لأن الميل عن الحق بغير قصد لا يكون إلا نتيجة التقصير بالعلم بالحق أو اتباعه.

والهوى معنى جامع يشمل أشياء كثيرة. وتدخل فيه المصادر الأخرى التي سأذكرها فيما بعد. لكن الهوى أو الأهواء هي أول الأسباب التي اختلت بها عقائد أهل الابتداع والافتراق في تاريخ الإسلام.

فلو رجعنا بالذاكرة قليلا إلى أول افتراق حدث في الأمة لوجدنا أنه حدث من الخوارج. والخوارج قوم ذوو تدين وصلاح واستقامة في الظاهر، لكنهم تشددوا في الدين وخرجوا عن الاعتدال فوقعوا في الهوى. ولم يكن وقوعهم بمعنى أنهم تركوا نصوص الكتاب والسنة، أو أنهم عولوا على عقولهم كما يظن بعض الناس لا. كان أهم سبب لوقوعهم في الهوى هو أنهم أخلوا بمنهج السلف في الاستدلال بالنصوص حينما تشددوا في الدين وتنطعوا وقسوا في الأحكام وبدؤوا يتناولون نصوص الكتاب والسنة بحسب ما يحلو لهم، أو يوافق اتجاهاتهم. فحينما اتجهوا إلى التكفير تشبثوا بنصوص الوعيد، وأغفلوا نصوص الوعد. لأن الأولى توافق نزعتهم، والثانية تخالف نزعتهم. فعولوا على نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، عولوا على جانب الخوف، وتركوا جانب الرجاء. ولذلك حكم عليهم الصحابة بأنهم من أهل الأهواء، مع أن منهم من يعدون من قراء القرآن. ومنهم من يشهد لهم بالبلاء في الجهاد، ومنهم من يشهد له بالاستقامة والعبادة الظاهرة، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنكم (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم)، ووصفهم بأنهم (يقرؤون القرآن)، ووصفهم بصفات أهل التقوى والصلاح ومع ذلك ذمهم وأمر بقتالهم وقد أتوا من حيث غلبوا نزعة الهوى، ومن حيث تركوا منهج الاستدلال بالنصوص، رغم قيام الحجة عليهم.

فكانت أول نزعة هوى في تاريخ الإسلام من طريق الخوارج والسبئية. ثم انفتحت أبواب الأهواء. فكانت كل فرقة خرجت عن أصل أهل السنة والجماعة لها نصيب من الهوى. وهذا أمر طبيعي. ولولا الهوى لاهتدوا.



الثاني: من مصادر أهل البدع الاعتماد على العقليات فيما لا طاقة للعقل به.

ذلك أن العقل نعمة من الله - تعالى -يميز به الإنسان بين الخير والشر. لكن للعقل وظيفة محدودة. لا تعدو ما كلفه الله به من النظر في عالم الشهادة، ومن توجيه الإنسان وترشيده إلى الخير والرشد. هذه وظيفة العقل.

لكن الذين عولوا على العقليات في الدين، وهم الجهمية والمعتزلة ومن جاء بعدهم، أقحموا العقل فيما لا طاقة له به، أقحموه في الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، ومن ذلك تقرير العقيدة، والعقيدة غيب. ولذلك صار الإيمان بالغيب أبرز سمات المؤمنين المتقين المهتدين المفلحين. كما ذكر الله - تعالى -في آيات كثيرة. قال - تعالى -: {آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} البقرة: ا- ه.

وأصول العقيدة كلها غيب. وهذا مما ينبغي أن يفهم. بل هذا من الأمور التي أخل بفهمها كثير من الناس، وخاصة غالب الذين يسمون بالمثقفين والمفكرين. فإن بعضهم تطاول وتجرأ على الغيب، زعما منه أن هذا مما يتناوله الفكر الإنساني، وهذا خطأ شنيع، فالغيب غيب، وهو ما غاب عن الإنسان، وكثير من مسائل العقيدة غيب، ومبناها على التسليم، وهو الإسلام. ولذلك لا يمكن للبشر لو اجتمعوا جميعا أن يقرروا أصلا من أصول العقيدة من دون الشرع.

نعم العقول تؤيد ما جاء به الشرع، أعني العقول السليمة. لكن يستحيل أن تستقل العقول ولو اجتمعت كلها أن تخترع أصلا من أصول الدين فيطابق الحق من كل وجه.

وعلى هذا كان من أسباب انحراف كثير من الفرق التي ضلت عن نهج السلف تعويلها على العقل في أمور العقيدة.

الثالث من مصادر أهل الأهواء: الديانات والنحل القديمة:

من المصادر المخالفة لنهج أهل السنة والجماعة عند أهل الافتراق التأثر بالديانات والنحل القديمة. وهذه السمة أكثر ما توجد في فرق الرافضة والباطنية والصوفية فإنها امتداد لديانات سابقة بشكلها ومضمونها، إلا أنها ترفع شعار الإسلام. وإن كان قد يوجد فعلا ممن ينتسب للتصوف، أو ينتسب للتشيع من يكون في بعض أموره على الحق والسنة. ولكن هذا قليل، وقليل جدا.

فمثلا نجد في الصوفية شبها بكثير من الديانات والنحل والفلسفات الشرقية. بل إننا لو تأملنا مناهج الصوفية في العقائد خاصة في التوحيد، وفي الأعمال الظاهرة، وخاصة ما يسمى عندهم بالسماع والوجد والأوراد وأسلوب العبادة وأدائها، الذي يقترن بالحركات، ويقترن بالألفاظ والأناشيد، والأحوال لوجدناها امتدادا للديانات السابقة، خاصة المجوسية والنصرانية، والديانات الهندية والفلسفة الغنوصية وهي أشبه، أو أقرب إلى النصرانية والمذاهب الشرقية أو الديانات الشرقية.



الرابع من مصادر أهل الأهواء: تقديس الأشخاص

من المصادر التي يعتمد عليها أهل الأهواء التعويل على بعض الأشخاص في الدين واعتبار أقوالهم مصدرا من مصادر الدين، بادعاء العصمة أو القداسة. ويتبع ذلك أيضا ادعاء العصمة لهم، ومن ثم إدعاء علم الغيب منهم، وأنهم يطلعون على أمور الغيب كلها أو بعضها، أو أنهم يشتملون على العلم اللدني.

وهذا من أوسع أبواب الضلالة التي تدخل بها زنادقة الصوفية والرافضة على أتباعها. فإن الرافضة تزعم أن لأئمتها العصمة التي لم تكن إلا للرسل-عليهم الصلاة والسلام-º لأنهم تنزل عليهم الوحي، ولأنهم يتلقى عنهم الدين، فالرافضة تزعم أن لأئمتها العصمة. فلذلك تعلقت بأوهام وأخذت كلام البشر على أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. واستغل الوضاعون والكذابون والزنادقة والكائدون للإسلام، والذين عز عليهم أن يفقدوا مذاهبهم وفلسفاتهم وأديانهم الباطلة، استغلوا هذا الاتجاه عند الفرق الرافضة والباطنية، وهو اتجاه ادعاء عصمة الأشخاص فوضعوا لهم دينا كذبا..

ففي حين يقدس الشيعة الأئمة الإثني عشر ويعتقدون عصمتهم نجد أن الصوفية تجعل للأولياء قداسة.فتعطيهم خصائص هي من صفات الله - سبحانه -.كالنفع والضر وإحياء الموتى وادعاء علم الغيب وادعاء التشريع والتحريم والتحليل. وغير ذلك من الدعاوى الباطلة التي عولوا بها في الدين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply