التزكية عند الصوفية (13)


بسم الله الرحمن الرحيم

 



تكلمنا في الحلقة الماضية عن حقيقة الذكر، وذكرنا أنه يعد من أهم أبواب التزكية في المنهج الإسلامي الصحيح، وذكرنا أيضا أنه سبب للوقاية من الشيطان وسبب لمحبة الله وذكره لعبده، وأوضحنا في الحلقة الماضية أن الذكر عبادة مشروعة كسائر العبادات وينبغي أن تراعى فيه شروط العبادة التي هي : الإخلاص والمتابعة.

وينبغي كذلك الحذر من اعتقاد فضيلة هذا التقييد بهذا الوقت أو المكان أو العدد، كما قال أبو شامة: -ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة، فإن كان كذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء والصلاة في جوف الليل والعمرة في رمضان-، وقال شيخ الإسلام مبينا المفسدة المترتبة على مثل هذا التخصيص: -من أحدث عملا في يوم كإحداث صوم أول خميس من رجب...فلابد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب، وذلك لأنه لابد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله وبعده مثلا..إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة-.

- وبالنظر والتأمل في الذكر عند الصوفية نجد أنهم يولون هذا الباب عناية كبيرة، إلا أنهم انحرفوا فيه عن جادة السنة إلى طرق البدع والمحدثات والغلو، وإليك شيئا من انحرافاتهم في الصور التالية:

أولاً: ضرورة تلقي الذكر عن الشيخ المرشد:
يعد الصوفية ذكر الله عز وجل بجميع صيغه دواء لأمراض القلوب وعلل النفوس، وكل هذه الأدوية مستخرجة من صيدلية القرآن والسنة!! ـ كما يعبر عبد القادر عيسى في حقائق عن التصوف ص179ـ وبما أن صيغ الأذكار كثيرة ومتنوعة، ولكل صيغة تأثير قلبي خاص ومفعول نفسي معين ـ ولا أدري ما هو الدليل الشرعي على هذا التقسيم المحدث ـ فإن مرشدي السادة الصوفية أطباء القلوب ووارثي الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتوجيه يأذنون لمريديهم بأذكار معينة تتناسب مع أحوالهم وحاجاتهم، وترقيهم في السير إلى رضوان الله تعالى، وذلك كما يعطي الطبيب الجسماني للمريض أنواعا من الأدوية والعلاجات تتلاءم مع علله وأسقامه، ثم يبدل له الدواء حسب تقدمه نحو الشفاء، ولهذا لابد للمريد السالك أن يكون على صلة بالمرشد، يستشيره ويذاكره ويعرض عليه ما يجده في الذكر من فوائد روحية وأقوال قلبية وحظوظ نفسية، وبذلك يترقى في السير، ويتدرج في السمو الأخلاقي والمعارف الإلهية!!
- تأمل هذا القياس الفاسد الذي استند إليه الصوفية حيث جعلوا الأذكار الشرعية التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوم على توحيد الله عز وجل والثناء عليه والتوجه إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات بمنزلة الأدوية الطبية التي لا يعرف مكوناتها إلا حذاق الأطباء والصيادلة، ويترتب على الخطأ في تناولها الضرر البليغ وربما الهلاك المتحتم، وهل الأمران سيان؟ ولو باشر المريد ذكرا قبل آخر أو جمع بين ذكرين أو أكثر مما صح وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هل يتضرر بذلك أو يلحقه الهلاك المحقق كالأدوية؟
فالصوفية جعلوا الدين أسراراً وطلاسم لا يعرفها إلا خاصة الشيوخ كالديانات الباطلة التي اختص بمعرفة أسرارها كهانها وسدنتها، وألزموا المريد بملازمة الشيخ يقول الجيلاني في الغنية 2/166: -فلا ينبغي له أن ينقطع عن الشيخ حتى يستغني عنه بالوصول إلى ربه عز وجل فيتولى تبارك وتعالى تربيته وتهذيبه ويوقفه على معاني أشياء خفيت على الشيخ ويستعمله فيما يشاء من الأعمال- -تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي 2/ 257- .

- وهل كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم يخص بعض الصحابة بذكر دون غيرهم؟ أم كان يقول لأحدهم إلزم هذا الذكر مدة كذا وبعدد كذا ثم راجعني لأرى مدى تقدمك في العلاج فإن تحسن صرف له ذكرا آخر أقوى منه وإلا قال له استمر على الذكر الأول حتى تشفى من عللك وأسقامك؟!
بل إن الصوفية يرون أن أسماء الله تعالى الحسنى لا يناسب ذكرها كل مريد، يقول ابن عطاء الله السكندري في مفتاح الفلاح ص23: -اسمه تعالى-العفو- يليق بأذكار العوام لأنه يصلحهم!! وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره!!! اسمه تعالى -الباعث- يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء!!! اسمه تعالى -الغافر- يلّقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب!! وأما من يصلح للحضرة فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة!!! اسمه تعالى -المتين- يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين -ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ -هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل ص145-
- وتأكيدا على ضرورة ملازمة شيوخ الصوفية والارتباط بهم في كل شيء ديني ودنيوي كما تقدم، يصر الصوفية على ضرورة تلقي المريد الذكر من شيخه من خلال طقوس معينة واحتفالات مطولة حتى يتشرف بتلقي الذكر عن الشيخ المبجل، جاء في كتاب مرصاد العباد من المبدأ إلى المعاد لنجم الدين الرازي تحقيق د. علي أحمد إسماعيل ص434 ما نصه: -اعلم أن الذكر التقليدي!! أمر، والذكر التحقيقي أمر آخر، فالذكر التقليدي هو ما يخرج عن طريق الفم إلى باب السمع ولو أنه لا يؤثر كثيرا ـ تأمل هذا الاحتقار والتهوين من شأن الأذكار الشرعية ـ مثلما تلقى بذرة غير ناضجة في الأرض فلا تنبت، والذكر التحقيقي هو ما يقع لقلب المريد بتصرف ـ وهذا الشاهد ـ وتلقين صاحب الولاية على أرض الاستعداد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply