رؤية هلال رمضان أو شوال


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إذا رُئِيَ هلال رمضان في أي بلد لزم المسلمين جميعاً- أن يصوموا، وإذا رُئِيَ هلال شوال لزمهم أن يفطروا.

مما يثير الأسى والحزن في نفس المسلم أنه في كل عام عند دخول شهر رمضان أو حلول عيد الفطر يبرز تفرق المسلمين وتشتتهم عند بداية صومهم ثم عند فطرهم، حتى وإن تقاربت بلادهم جغرافياً. والصوم عبادة وليس سياسة ولكن رغم ذلك فإن أنظمة الحكم المتمسكة باختلافها وتفرقها فيما بينها قد فرضت هذا الاختلاف والتفرق على شعوبها حتى في عباداتهم وعلماء الأمة في كل قطر لم يحركوا ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم بل سايروا هذا الواقع وفقاً للحدود السياسية التي حددتها ورسمتها الدول الاستعمارية تطبيقاً لاتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة وأخضعت الأحكام الشرعية لدخول شهر رمضان ولعيد الفطر طبقاً للحدود السياسية المرسومة حسب هذه الاتفاقية الاستعمارية.

وإليك أخي المسلم- البيان والبرهان فيما يلي:

أولاً: أن وقت دخول شهر رمضان أو شهر شوال أو غيرهما من الشهور العربية التي بنيت عليها الأحكام الشرعية قد بينها القرآن الكريم وحددتها السنة النبوية الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والصوم والفطر والحج إنما هي عبادات لها أحكامها الشرعية التي إنما تؤخذ من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ونبني عليها فحسب. فقد ورد السؤال وجوابه في آية واحدة من سورة البقرة حيث يقول الله -سبحانه-: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) آية (189).

وروى ابن كثير في تفسيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يومياً"[الحديث صحيح الإسناد] أهـ. قال شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: هذا الحديث دليلٌ على أن المعتبر في العبادات هو رؤية الهلال وأن الحساب لا يعول عليه في ذلك وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع العلماء على ذلك. أهـ. وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" وفي رواية "فأكملوا العدة ثلاثين" وقال ابن رشد -رحمه الله- في كتابه العظيم (بداية المجتهد ونهاية المقتصد): "فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن الاعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" أهـ.

ثانياً: السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل لكل بلد رؤيته فلا يصوم أهل كل بلد أو يفطرون إلا إذا رُئِيَ في بلدهم فحسب، أم أنه إذا ثبتت رؤية الهلال شرعاً في بلد ما وجب الصيام على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل حكم الصوم والإفطار في كل بلد أو إقليم مرتبط شرعاً بالحدود السياسية لذلك البلد أو الإقليم الذي رُئِيَ فيه الهلال من حيث وجوب الصوم أو الإفطار من عدمه. أم ماذا؟

هذا سؤال مهم وهو الذي يخطئ فيه كل سنة كثير من الناس أفراداً وجماعات، ويبدو لي أن علماء وفقهاء المسلمين في هذا الزمان قد قصروا كثيراً في هذا المجال، إذ لم يبينوا للناس أن الحكم الشرعي للصوم والفطر لا علاقة له بالنظام السياسي في كل بلد، كما أنه لا علاقة له بالحدود السياسية حتى يجنبوا المسلمين من الوقوع في هذا الخطأ الفاحش، حيث تجد على جانبي الحدود السياسية مسلمين بعضهم صائم أول يوم من رمضان وبعضهم مفطر تبعاً لأنظمتهم السياسية التي ينتمون إليها مع أن مساكنهم بجوار بعضها أو يفصل بينها بضع مئات من الأمتار.

وهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ليس من الإسلام في شيء وذلك للأسباب التالية:

أن حكم الصوم والفطر متعلق بوقت دخول شهر رمضان أو خروجه، وهذا إنما يعتبر شرعاً -برؤية الهلال من جهة الغرب في بداية كل شهر كما تقدم-، ولا يلتفت في ذلك إلى حساب الفلكيين أو التقاويم المبنية على حسابهم لأن الصيام عبادة والعبادات أحكامها توقيفية لا تتلقى إلا من المشرع، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه".

وأما حكم رؤية الهلال في بلد ما وهل يلزم المسلمين جميعاً في البلاد والأقاليم الأخرى الصوم والفطر بناءً على هذه الرؤية أم يكون خاصاً بأهل ذلك البلد؟ فالصحيح الذي لا يسع المسلمين العمل بسواه اليوم هو أنه إذا ثبتت رؤية هلال رمضان شرعاً في أي مكان من الأرض وجب على المسلمين الذين بلغهم خبر رؤية الهلال جميعاً أن يصوموا، وإذا ثبتت رؤية هلال شوال وجب عليهم جميعاً أن يفطروا وذلك لما يلي:

1.    من حيث الدليل فالأمر في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، عام وموجه لجميع المسلمين الذين يجب عليهم الصوم في جميع البلدان وقوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) قال الإمام الشوكاني - رحمه الله- في نيل الأوطار: "وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين لأنه إذا رآه بلد فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم... إلى أن قال: "فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعلم بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل" أهـ.

2.    الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن ابن عباس "أن أعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد أنه رأى هلال رمضان قال له: أتشهد أن لا إله إلا الله. قال نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله. قال نعم، قال: يا بلال أذِّن في الناس فليصوموا غداً".

فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بالصيام برؤية ذلك الأعرابي ولم يسأله أين رأى الهلال ولا عن المكان الذي رآه فيه هل هو بعيد أم قريب مع أن الأعرابي قد جاء من البادية وليس من المدينة.

وأما الأثر الذي رواه مسلم عن كريب أنه قال: قدمت الشام واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال يعني في الشام فقلت رأيته ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية أمير الشام قال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين يوماً أو نراه فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية فقال لا هكذا أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد استدل بهذا الأثر من قال بأن لكل بلد رؤيته، وهذا الاستدلال إنما يصلح لمن لم يبلغهم خبر رؤية الهلال في البلد الآخر إلا بعد أيام فهنا يستدل بهذا الأثر بأنه لا يلزمهم قضاء ذلك اليوم الذي رُئِيَ في ليلته الهلال في بلد بعيد عنهم كالشام بالنسبة للحجاز، لأن ابن عباس قال: "لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يومًا أو ما نراه" وذلك لأنه لم يبلغهم خبر رؤية الهلال في وقته، أي في اليوم الأول الذي رُئِيَ فيه الهلال بالشام، وإنما بلغهم بعد عدة أيام. أما في وقتنا هذا الذي توفرت فيه وسائل الاتصال والمواصلات وأصبح الخبر يبلغ القاصي والداني خلال دقائق من نشره وبطرق متواترة فإن الحكم هنا يختلف بحيث أصبحت رؤية الهلال في أي بلد رؤية لجميع المسلمين، وحكمها يلزم جميع المسلمين متى بلغهم خبرها بأنها رؤية ثابتة شرعاً لأن المسلمين أمة واحدة، وقد شبهها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجسد الواحد، والقرآن الكريم نص على أن الأهلة (مواقيت للناس والحج) أي لجميع الناس على جهة العموم وللمسلمين على جهة الخصوص، حيث تتعلق بها أحكام عبادات لهم كالصوم والحج والعدد ونحوها، وخطاب الأمر بالصوم والفطر إذا رُئِيَ الهلال "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" خطاب عام موجه لجميع المسلمين متى بلغهم خبر رؤيته لزمهم حكم هذه الرؤية من صوم وفطر وحج أينما كانوا، أما الحدود السياسية القائمة اليوم بين البلاد الإسلامية فإنما هي حدود وضعتها الدول الاستعمارية الأوربية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، رسمتها على الخرائط عند نهاية الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن الماضي كما هو معروف- بموجب اتفاقية (سايكس بيكو) حيث قامت الدول المذكورة باقتسام البلاد الإسلامية فيما بينها كما تقسم الغنيمة! فقسمت البلاد الإسلامية إلى قطع وأوصال، ومزقتها إلى كيانات صغيرة ضعيفة وجعلت من كل وصلة دويلة مبتورة ومفصولة عن بقية العالم الإسلامي والعربي بالذات، وبذلك قصمت ظهر ذلك المارد النائم، وقطعت أوصال الجسد الإسلامي الكبير بعد ما قضت على آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية!، حيث نخرت في تلك الخلافة من الداخل وتكالبت عليها من الخارج حتى قضت عليها، ونفذت تلك الدول الاستعمارية الصليبية الحاقدة مخططاتها في الضحية وهو الوطن الإسلامي الكبير وشعوبه المستضعفة، وما زال المسلمون يعيشون مآسي وآثار تلك المخططات الآثمة إلى اليوم من تقسيم وهيمنة واحتلال عسكري وسياسي وثقافي وتخلف على جميع المستويات.

والذي يهمنا في هذا البحث هو أن هذه الحدود السياسية القائمة اليوم بين تلك الكيانات إنما هي أثر من آثار اتفاقية (سايكس بيكو)، فلا اعتبار لها من حيث الأحكام الشرعية للعبادات كالصوم والفطر ونحوهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إنه إذا اعتبرنا حداً أي للبلد- كمسافة القصر أو الأقاليم فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك وشخص آخر بينه وبين غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين" أ. هـ. وقول شيخ الإسلام هذا يكشف مدى المهزلة التي تترتب على قول من قال باختلاف حكم صوم والفطر تبعاً لاختلاف البلاد والأقاليم حتى ولو بلغهم خبر رؤية الهلال في وقته كما هو جارٍ, اليوم، وقوله هذا قبل سبعة قرون يوم أن كانت وسيلة المواصلات الجمل والحصان، فكيف لو عاش معنا اليوم في عصر الطائرة والتلفاز والإنترنت والقنوات الفضائية؟! وماذا عساه أن يقول في حكم حدود اتفاقية (سايكس بيكو) وما يبنى عليها من أحكام رغم توفر وسائل الاتصال المذكورة؟!.

ولعل من المناسب اليوم في سبيل توحيد كلمة المسلمين في صومهم وفطرهم وعيدهم والقضاء على تلك البلبلة والفوضى التي تحصل كل سنة عند دخول شهر رمضان وعند خروجه وليست من الإسلام في شيء، طرح حل لهذه المشكلة وذلك بتشكيل هيئة شرعية من علماء المسلمين في البلدان الإسلامية يكون مقرها في إحدى البلاد الإسلامية، ولتكن مكة المكرمة لمكانتها في قلوب المسلمين، وتقوم هذه الهيئة الشرعية بتلقي ما يثبت رؤية هلال رمضان أو رؤية هلال شوال أو رؤية هلال ذي الحجة من شهادات شهود الرؤية من شتى البلاد الإسلامية، ويقوم بتولي سماع تلك الشهادات من الشهود مباشرة في بلدانهم- قضاة أو علماء شريعة يقومون بسماعها واتخاذ الإجراءات الشرعية اللازمة لثبوتها وقبولها، ثم يقومون بتدوينها وبعثها للهيئة الشرعية المركزية المختصة لتتولى جمعها وتمحيصها، ثم إثبات الحكم الشرعي المبني عليها من دخول شهر رمضان أو خروجه أو دخول شهر ذي الحجة ثم إعلانه لعموم المسلمين للعمل بموجبه في جميع البلاد الإسلامية.

وفق الله الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين من وحدة وقوة وعزة وكرامة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله".

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply