بسم الله الرحمن الرحيم
دخل رجل على فقيه المدينة ومفتيها ربيعة الرأي - رحمه الله تعالى - فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، بعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السٌّرَّاق(1).
وما ذاك منه - رحمه الله تعالى - إلا لأن الفتيا عظيمة الخطر، كبيرة الموقـع، جلـيلة المنـزلةº إذ هـي تـوقيع عـن الـله - تعالى - ووقوف بين الله - تعالى - وخلقه. وقد جاءت النصوص والآثار محذرة مـن الإقـدام عليهـا قبـل امتـلاك أدواتهـا، فقـال - تعالى -: {قُل إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الـحَقِّ وَأَن تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال - عز وجل -: {وَلا تَقُولُوا لِـمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ} [النحل: 116]، وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماءº حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(2). وعن حِبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «من أفتى بفتيا يُعَمَّى عليها فإثمها عليه»(3).
ولهذا الترهيب الشديد وَجِل من الفتيا الأئمة وخاف منها السلف، وأقوالهم المنبهة على ذلك أكثر من أن تحصى. يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون»(4)، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثله(5). وعن البراء - رضي الله عنه - قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا»(6)، وقال ابن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسألُ أحدُهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول»(7). وقال عطاء: «أدركت أقواماً يُسألُ أحدُهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد»(8)، وقال سفيان: «أدركت الفقـهاء وهـم يكـرهـون أن يجـيـبوا في المسـائل والفتـيا حتـى لا يجدوا بداً من أن يفتوا»(9)، وقال مـالك: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»(10)، وقال أبو إسحاق السبيعي: «كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يُدفَع إلى مجلس سعيد بن المسيبº كراهيةً للفتيا»(11). وكان سعيد بن المسيب «لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني»(12). ويزيد العلاَّمة ابن القيم الأمر إيضاحاً فيقول: «كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسـنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى»(13).
ومن أجل أن لا يتصدر للفتوى كل أحد وضع العلماء شروطاً لا بد من توافرها في المتصدر للفتيا من أبرزها: العدالة، والاجتهاد. قال النـووي: «واتفقـوا عـلى أن الفاسـق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين»(14). وقال أبو يعلى: «من لم يكن من أهل الاجتهاد لم يجـز له أن يفتـي ولا يقضي، ولا خلاف في اعتبار الاجتهاد فيهما عندنا»(15). والمتأمل في واقع الصحوة المباركة اليوم يلحظ حدوث تطاول متكرر على مقام الفتوى من بعض أبنائها، قد يصل بالأمر من كثرته إلى درجة المشكلة، وليس هذا مقصوراً على صغار أبناء الدعوة، بل إن ممن خاض في ذلك شخصيات مشهورة تزعم نفسها أمام الملأ أنها من قيادات الصحوة وكبار دعاتها وإدارييها، وصدق فيهم قول أبي الحصين الأسدي: «إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر»(1).
وهو أمر محزن، يزيد من شدته ومرارته إدراك أن الفتوى لا تجوز بالتقليدº فكيف تجوز بمحض الجهل؟ (2). وبمقارنة حال هؤلاء بمثل حال الأئمة يظهر الفرقº فهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سئـل عن مسـألـة فقـال: لا علم لي، ثم قال: «وَابَردَها على الكبد! سُئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم»(3)، وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلمº فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلمº فإن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ, وَمَا أَنَا مِنَ الـمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]»(4) و «جاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء، فقال: لا علم لي بها، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نِعمَ ما قال ابـن عمـر، سئـل عَمّـا لا يعلم فقال: لا أعلم»(5). وهذا فقيه المدينة القاسم بن محمد يـقول: «لأن يعيـش الـرجـل جـاهلاً خير لـه من أن يفتـي بمـا لا يعلم»(6). وهذا شيخ الإسلام ابن سيرين «كان إذا سئل عن شيء من الفقه: الحلال والحرام، تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان»(7). وهذا أبو حنيفة النعمان يقول: «من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه»(8)، وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - كان ربما يُسأَل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها(9)، وكان يقول: «من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيـها»(10)، «وسئــل عــن مســألة فقــال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: {إنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]، فالعلم كله ثقيل، وخاصـة ما يُسأَل عنه يوم القيامة»(11). وقال أبو داود: «ما أحصـي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول: لا أدري»(12).
وكل ما يُخشَى منه أن يكثر المتجرئون على الفتيا(13)، وأن تزداد أصواتهم ارتفاعاً، وحركتهم انتشاراً، فيسدلوا الستار على أهل العلم والاختصاص، فيحولوا بينهم وبين كثير من خواص الأمة فضلاً عن عامتها، وبخاصة أن كثيراً من هؤلاء الجسورين على الفتوى لا يعرف أنه جاهل، ولا يدرك أن قيمة المرء ما يحسن، ولذا فقد أخذ يتحدث في كل شيء بدءاً بأصول الشريعة ومقاصدها، ومروراً بنوازل الأمة وقضاياها الكبرى، وانتهاء بأقسام المياه وأحكامها، ورحم الله - تعالى - أيوب السختياني حين قال: «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً باختلاف العلماء، وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء»(14). وكل ما يُخشى منه أن يأتي اليوم الذي يكون فيه المتصدرون للفتوى - ممن لم يبلغ مرتبتها - أكثر من طالبيها.
حقاً إن استفحال هذه الظاهرة أمر يستدعي من العلماء والمربين سرعة المعالجة حتى لا يكون ذلك بوابة لفُشُوِّ أمراض أكثر خطورة، مثل: ضعف الخشية، والإعجاب بالنفس، وعدم احترام العلماء وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله - تعالى - إياها، وفشو ظاهرة التعالم، والجرأة على النص، والخروج عن فهم السلف وطريقتهم في العلم والعمل والدعوة، وإضلال الناس، وتعلقهم في مسائل الشريعة برؤوس جهال...ونحو ذلك من الأدواء الفتاكة.ولله در علماء السلف الصالح الذين كانوا ينكرون على العُبَّاد إقدامهم على الفتوى مع معرفتهم بكثير من العلمº لأنهم لم يجمعوا شروط الفتوىº فكيف لو رأوا في أيامنا هذه تخبيط بعض أبناء الصحوة وجرأتهم على اقتحام بوابة الفتوى دون رسوخ في العلم فضلاً عن قلة التعبد.
ولعل من أبرز ما يعين على معالجة هذا الأمر: أن يقوم العلماء بدورهم في سد الفراغ الذي تحتاجه الأمة، والذي لولا التقصير فيـه لما لجأ أفراد من الأمة إلى استفـتاء هـؤلاءº لأنـه - كما قيل -: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
ومما يعين أيضاً: جدية الدعاة والمربين في نشر العلم الشرعي في أوساط أبناء الصحوة وفق سلم علمي معتبرº لأن المرء كلما ازداد معرفة كلما عظم إدراكه لجهله وأنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً. ومما يعين أيضاً: التعريف بأهل العلم وبطرائقهم في التعلم والتعليم والعملº لكي ينغرس إجلالهم في نفوس أبناء الصحوة، فيهابوا العلم، ويُنزلوا العلماء المنزلة التي أنزلهم الله - تعالى - إياها.
اللهم قِنَا الضلال والفتنة، ولا تجعلنا من رؤوس الجهالة، الذين يأتون الناس بالعجائب، ويفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون، بجود منك وإحسان يا رحمن يا رحيم! وصلى الله وسلم على النبي الكريم، وعلى الآل والأصحاب أجمعين.
----------------------------------------
(1) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/20).
(2) البخاري (6877)، مسلم (2673).
(3) الدارمي (160).
(4) المعجم الكبير، للطبراني: (9/188)، رقم: (8924).
(5) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/9).
(6) صفة الفتوى، للنمري: (7).
(7) الطبقات الكبرى، لابن سعد: (6/109)، تاريخ دمشق، لابن عساكر: (36/87)، واللفظ له.
(8) آداب الفتوى، للنووي: (15)، إعلام الموقعين، لابن القيم: (4/218).
(9) صفة الفتوى، للنمري: (12).
(10) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1037).
(11) إعلام الموقعين، لابن القيم: (1/35).
(12) تهذيب الكمال، للمزي: (11/72).
(13) إعلام الموقين، لابن القيم: (1/33).
(14) آ داب الفتوى، للنووي: (20).
(15) صفة الفتوى، للنمري: (5).
(1) تهذيب الكمال، للمزي: (19/406).
(2) يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في إعلام الموقعين: (1/51) في هذا الشأن ما نصه: «لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم، والفتوى بغـير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم».
(3) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1104).
(4) البخاري (4774).
(5) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1107).
(6) العلم لأبي خيثمة (90).
(7) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1087).
(8) الفقية والمتفقه، للخطيب البغدادي (1092).
(9) آداب الفتوى، للنووي: (16).
(10) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/13).
(11) بدائع الفوائد، لابن القيم: (3/793)، الموافقات، للشاطبي: (4/289).
(12) مسائل أبي داود: (276)، وانظر إعلام الموقعين، لابن القيم: (2/61).
(13) الفئات المتطاولة على مقام الفتوى في يومنا هذا- والذي يتسم بغربة الدين في كثير من بلاد المسلمين - أكثر من أن تحصىº فهناك على سبيل المثال: طلائع الغرب في بلداننا، وبعض أهل السلطة والنفوذ، وكثير من رجال الإعلام، وأهل البدع والأهواء، وأصحاب المصالح، وكثير من العامة،... ونحو ذلك من الفئات التي ما فتئت خائضة في دين الله - تعالى - تصدر الفتاوى المحققة لأهوائها صباح مساء، بل إنا لنلحظ في أيامنا صناعة رائجة في بعض وسائل الإعلام لرؤوس جهال يخوضون بلا علم في دين الله - تعالى - ويقدمون على أنهم العلماء الأجلاء، والمفتون الكبار!! ولكن لأن المقالة موجهة إلى الدعاة فقد كان الحديث مقصوراً عليهم.
(14) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (969).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد