قوانين الأحوال الشخصية ومؤسسة الأسرة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد نظم الإسلام مؤسسة الأسرةº لأنها اللبنة الأولى في المجتمع، وضبط أمور هذه المؤسسة، ووزع الاختصاصات، وحدد الواجبات، وبيَّن الحقوق.

ووضع الإجراءات التي تتخذ لضبط هذه المؤسسة، وحافظ على استقرارها من التيارات والخلافات، قال - تعالى -: (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).

 

إن قضية هذه المؤسسة هي قضية كل مجتمع في القديم والحديثº لأن توفير عناصر الاستقرار لها هو استقرار للمجتمع كله، والحقوق التي قررها الإسلام للمرأة حقوق ثابتة، جاء بها تشريع إلهي خالد لا يستطيع أحد مهما علا شأنه أن ينال منها بالتغيير أو التبديلº لأنها لم تكن حقوقًا أوحت بها ظروف اجتماعية طارئة ثم زالتº بل هي قانون الفطرة الذي جاء الشرع الإسلامي ليعمل على استقراره وثباته، فلا تحيز للرجال ضد الفساد ولا العكسº لأنه صنع الحكيم العليم.

 

ولقد استهدفت حركة تحرير المرأة- التي حمل لواءها أتباع التوجيهات المعروفة في العالم الإسلامي- تحقيق مجموعة من الأهداف الخطيرة، التي ترمي إلى هدم الأسرة وتدمير لبنات المجتمع، ودفع المرأة بعيدًا عن الطريق السوي، لتصبح أداة للأهواء والرغبات، إنه دور أدى إلى نزول المرأة المسلمة عن مكانتها ورسالتها، وإضعاف القيم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية في شأن العلاقة بين الرجل والمرأة، ووضح أن الهدف من تحرير المرأة هو استبعادها وتدمير وجودها الحقيقي كرائدة ومربية، وتحويلها إلى دمية بعد أن حررها وكرمها الإسلام.

وللأسف فقد غلب على عصرنا هذا سلطان الدعاية الموجهة بوسائلها الجبارة الخطيرة، التي أثرت كثيرًا في القيم والأفكار والتصورات عند البعض، وقد لعبت الدعاية في قضية المرأة بالذات دورًا خطيرًا في قلب الحقائق وبلبلة الأفكار وتغطية وجه الشريعة السمح، وحملت الدعايات مفاهيم مغلوطة وفاسدة، في شأن علاقة المرأة بالرجل والمجتمع والأسرة والنسل، لقد صدرت الدعايات الكاذبة أن للمرأة أعداء من الرجال ينقمون عليها، ويتربصون بها، صوروا الأمر وكأنه ساحة قتال لا تهدأ، وأكدوا هذا من خلال الإذاعة والصحافة والمسلسل والمسرحية، حتى خُدِع الكثيرون والكثيرات، وظنوا أن هذه حقائق مسلمات، كما صوروا أن هناك أصدقاء للمرأة وأحباب يدافعون عنها، وهم يحرصون في مواقعهم على تجسيم قضايا ظلم المرأة، والجور الواقع عليها من الرجل، وواضح أن هذا التقسيم كله جور وأهواء ومغالطات، وبعيد تمامًا عن الحق والصواب، فلا نتصور عاقلاً يمكن أن يكون بهذه الصورة التي صوروه بها، والمرأة إما أمه، أو أخته، أو بنته، أو زوجته، أو قريبته.

 

قضية سفر الزوجة بدون إذن زوجها وبدون محرم فيها إسقاط صريح لحق الزوج في القوامة، وخروج على النص الصريح، يقول الحق - سبحانه وتعالى -: ?الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ, وَبِمَا أَنفَقُوا مِن أَموَالِهِم? (النساء: 34).

 

والزوجة في عصمة رجل، وهو الزوج، فلا تخضع إلا لأوامره، وما دام النص الشرعي موجودًا وصريحًا، فلا يملك القاضي ولا غيره أن يحكم بما يخالفه، والأصل في عقد الزواج وما يترتب عليه من حقوق للزوج على زوجته هو الطاعة، وقد سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن حق الزوج على زوجته، فقال: \"السمع والطاعة\".

 

وجاء في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه عن معاذ- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: \"إني لو كنت أمرت أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه\" (حديث حسن صحيح).

 

إن محاولة تحطيم قوامة الرجل، وحقه في الرعاية لمؤسسة الأسرة، تحطيم للأسرة كلها، ثم نقل اختصاصات الرجل هذه إلى القاضي وتجريده من كل سلطان، وهنا تكون الكوارث والقضاء على الأسرة كلها...

 

إن شأن الأسرة في الإسلام، شأن عظيم جدًّا، واستقرار الحياة الزوجية وحسن التفاهم وتبادل الثقة من أهم ما يحرص عليه الإسلام، وفي ظل التراضي يلتقي الجميع على مشاعر الحب والرحمة والحنان، وتنطبع الأسرة بالطابع الإنساني، الذي يلازمها مدى الحياة، أما بالنسبة لسفر المرأة بلا محرم فإن الأصل المقرر في الشريعة، ألا تسافر المرأة وحدهاº بل يجب أن تكون في صحبة زوج أو محرم لها، وليس مرجع هذا إلى اتهام للمرأة أو سوء ظن بها- كما يزعم البعض- لكنه حسن الرعاية والحماية لها والتكريم.

 

ودليل هذا الحكم ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"لا تسافر المرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم\".

 

وأيضًا: عن أبي سعيد- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تسافر المرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذي محرم\" (رواه الشيخان)، وعن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تسافر ثلاث ليالي إلا ومعها محرم\"، ومرجع اختلاف الروايات غالبًا اختلاف السائلين، فكانت جوابًا لهم.

 

والإمام أبو حنيفة رجح حديث ابن عمر، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد، وهذه الأحاديث تشمل كل سفرº سواء كان لأداء فريضة الحج، أو كان لزيارة، أو طلب علم أو تجارة.

 

وجاء في الحديث: \"لا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، ولا تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه\"، فإذا كانت لا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، فمن باب أولى ألا تسافر أي سفر إلا بإذنه.

 

اتقوا الله:

وأقول للذين عرفوا الكثير الكثير عن ثقافات الغرب وآمنوا بها، وسمعوا القليل القليل المشوه عن تعاليم الإسلام: اتقوا الله، فإن الإسلام لم يظلم أبدًا المرأةº بل كرمها ورفع شأنها، وأعطاها من الحقوق ما لم تصل إليه بعض الأمم إلى اليوم.

 

أقول لهم: اتقوا الله، وحرام عليكم أن تضعوا شريعة الإسلام الخالدة في قفص الاتهام، وتحكموا عليها، وأنتم غرباء عنها... وأدعوهم للقرب والنظر في شريعة الإسلام، والتعرف على جوانبها، في تكريم المرأة، ورعاية الأسرة، وصيانة الأعراض، وحماية المجتمعات، واستقرار الحياة الزوجية، ودوامها، وقد أمر الإسلام أن تستقر الحياة بين الزوج وزوجته على التراضي، والتفاهم والتعاون، وإن شريعة الإسلام منزهة عن المحاباة لأحد، لا للزوج على زوجته، ولا للزوجة على زوجهاº لأنها شريعة لم تضعها قضية الخلع.. وهو مأخوذ من خلع الثوب إذا أزاله عن جسده، وعند الفقهاء: \"هو فراق الرجل زوجته ببدل\".

وحكمه كما يرى بعض العلماء الجواز بشرط أن يكون السبب مقيدًا، فإن لم يكن معتبرًا فهو ممنوع ومحظور.

 

روى ثوبان أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: \"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة\" (رواه أحمد والنسائي).

 

يقول ابن قدامة: \"وهذا يدل على تحريم المخالعة لغير حاجةº ولأنه إضرار بها وبزوجها، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة، فحرم\" (كتاب المغني، ج7).

والسؤال الملح: هل يحتاج الخلع إلى القاضي كما يقول مشروع القانون، أم أن الأمر يجب أن يتم بالتراضي بين الزوج والزوجة؟

 

جاء في كتاب المغني لابن قدامة: \"ولا يفتقر الخلع إلى حاكم- أي إلى القاضي- نص عليه الإمام أحمد، فقال: \"يجوز الخلع دون السلطان- أي القاضي\".

وروى البخاري ذلك عن عمر وعثمان- رضي الله عنهما- وبه قال القاضي شريح، والزهري ومالك والشافعي، وإسحاق وأهل الرأي، ويقول الإمام ابن حزم: \"الخلع هو الافتداء، إذا كرهت المرأة زوجها، فخافت ألا توفيه حقه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها، فلها أن تفتدي منه ويطلقها، إن رضي هو، وإلا لم يجبر هو، ولا أجبرت هي، وإنما بتراضيهما\".

 

ثم يقول: \"ولا يصلح الخلع إلا بأحد الوجهين المذكورين، أو باجتماعهما، فإن وقع بغيرهما فهو باطل، ويرد عليها ما أخذ منها، وهي امرأته كلما كانت، يبطل طلاقه، ويمنع من ظلمها\" (المحلى، ج9).

ففي هذه النصوص الصحيحة والصريحة وغيرها، نجد الأئمة الأربعة وغيرهم مما يشبه الإجماع على أن الخلع يتم بين الزوجين بالتراضي، وأن أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بتطليق زوجته مع قبول المهر هو أمر إرشاد وندب، وليس أمرًا على سبيل الوجوب، والخلع عقد بين الزوجين، والعقود كلها تقوم على الرضا، فلا يجوز إجبار أحد الطرفين على إبرام العقد، وإلا يكون باطلاً، وقد ثبت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سأل زوجة ثابت بن قيس: \"أتردين عليه حديقته؟ \" قالت: نعم. فإذا كان الرسول قد أخذ برأي الزوجة ورضاها في الخلع، أفلا يكون من حق الزوج أن يؤخذ رأيه، وهو الذي يملك حق الطلاق؟!

كما أن الأصل في الأشياء الإباحية، ما لم يرد دليل بحرمتها، بعكس الفروج والدماء، فالقاعدة العامة فيها هي أن الأصل الاحتياط والتحريم ما لم يرد دليل يبيحها، فالاستمتاع بالمرأة محرم، ولا يباح إلا بالزواج، وقتل النفس أيضًا لا يباح إلا في الحالات التي حددتها الأدلة، كالقصاص من القاتلº ولهذا كانت القاعدة العامة: الأصل في الأشياء هو الإباحة، ما لم يرد تحريم، وعلى العكس تمامًا في الفروج والدماء.

 

وهذا الأمر الدقيق يجعلنا نتوقف ونحتاط كثيرًا في قضية التفريق بين الزوجين، وضرورة التراضي بين الطرفين، والقول بسلب الزوج حقه، ورد الأمر إلى القاضي يحكم بالخلع، على الرغم من عدم رضا الزوج وموافقته [الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء على خلافه].

 

فإذن ليس من حق الزوجة كما جاء في المادة 20 من المشروع في أي وقت أن تطلب التطليق بإرادتها وحدها، متى زعمت أنها تكره زوجها، وترد عليه صداقه، الذي دمغه لها، من غير رضا وموافقة الزوج، فهذا القانون بهذه الصورة يفتح الباب أمام الكثيرات جدًّا من النساء- بمجرد أن تتغير ميولهن عن أزواجهن، أو لأدنى خلاف- أن تطلب الخلع وترد له ما دفعه من مهر، فهذا من أشد ألوان الخطر على الأسرة المسلمة، وهو على خلاف ما أجمع عليه العلماء.

 

يقول الإمام ابن تيمية- رحمه الله -: \"وليس للمرأة أن تطيع أمها فيما تأمرها به، من اختلاع من زوجها، أو مضاجرته حتى يطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدًا من أبويها في طلاقه، إذا كان متقيًا لله فيها\" (الفتاوى الكبرى ص32).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply