بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن المؤسسات الإعلامية تقوم بدور كبير في المجتمع، وبعض هذه المؤسسات يقوم بدور خدمي، وآخر يقوم بدور إعلامي، وهو ما تقوم به مؤسسات إسلامية إعلامية، ولا شك أن هذه المؤسسات تحتاج إلى تمويل مادي لتقوم بدورها في المجتمع.
وتبقى الإشكالية مطروحة لاستمرار هذه المؤسسات في دورها من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن غالب هذه المؤسسات غير ربحي، فهل تستطيع آلية الاجتهاد الفقهي أن تخرج باجتهاد يجيز إخراج الزكاة لها، أم تبقى مصارف الزكاة محددة بمفهومها التقليدي؟ وهل يمكن إدراج المؤسسات الإعلامية ضمن أحد المصارف، ليكون القول بالإجازة مندرجاً تحت أصل مصارف الزكاة؟
المتتبع للاجتهادات المعاصرة يلحظ أن جمهور الفقهاء المعاصرين يميل إلى إخراج الزكاة للمؤسسات الإعلامية الدعوية، أي التي تسعى لنشر الدعوة، ويعتبرون ذلك نوعاً من الجهاد في سبيل الله، توسيعاً لمفهوم مصرف \"وفي سبيل الله\".
وقد تبنى هذا الاتجاه مجلس المجمع الفقهي في دورته الثامنة والمنعقدة بمكة المكرمة فيما بين 27-4-1405ه، 8-5-1405ه وبعد دارسة ما يدل عليه معنى (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة، جوز المجمع هذا، وبنى الجواز على تحقيق مقصد الجهاد من خلال الدعوة والعمل الإعلامي، وقرر \"أنه نظراً إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله - تعالى -، ونشر دينه بإعداد الدعاة، ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم فيكون كلا الأمرين جهاداً.
لما روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم\". ونظراً إلى أن الإسلام محارَب بالغزو الفكري والعقدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأن لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام وبما هو أنكى منه.
ونظراً إلى أن الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة بخلاف الجهاد بالدعوة، فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون، لذلك كله فإن المجلس قرر بالأكثرية المطلقة دخول الدعوة إلى الله - تعالى - وما يعين عليها، ويدعم أعمالها في معنى: (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة\".
وهذا الاجتهاد المجمعي هو دليل على تطوير آلة الاجتهاد المعاصر، وفتح آفاق جديدة لدعم المؤسسات الإعلامية التي تجعل همها الأكبر الدعوة إلى الله.
وهذا ما أيده أيضاً الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية - يرحمه الله - بشرط ألا يوجد ما ينفق على تلك المؤسسات، فساعتها يجوز أن تدرج ضمن مصارف الزكاة كصورة من صور مصرف (في سبيل الله)، فيقول: \"لا شك أن مصلحة الدعوة إلى دين الله، وبيان محاسن الدين، والرد على المفسدين والملحدين، وتفنيد شبهات الكفار والمنافقين ونحو ذلك، هو من نصر الله ونشر دينه الذي ارتضاه وأحبه وفرضه على البشر، فإذا تعطل هذا الباب ولم يوجد من ينفق عليه، ويدفع به إلى الأمام، ويتبرع للدعاة والمصلحين بما يكفل استمرارهم، وجب أن يصرف فيه من الزكوات المفروضة، لاقتضاء المصلحة\".
بل يرى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أن الإنفاق على الدعوة، ومنها المؤسسات الإعلامية الدعوية قد تكون أولى من غيرها من مصارف الزكاة، فيقول: \"فالنفقة فيه قد تكون أهم من دفعها لبعض المذكورين، كالمكاتب والمؤلف وابن السبيل، فإن هؤلاء قد يتحملون الصبر، ولا يكون فيهم من الضرورة كضرورة الرد على المفسدين وقمع المنافقين، ونشر العلم وطبع المصاحف وكتب الدين، وتسجيل أشرطة إسلامية، تتضمن بيان حقيقة الإسلام وأهدافه، ومناقشة الشبهات التي تروج على ضعفاء البصائر، فمتى توقف الإنفاق على هذه المصالح من التبرعات جاز الصرف على جميعها، وما أشبهها من الزكاة، التي شرعت لمصالح الإسلام.
ويرى العلامة الشيخ القرضاوي أن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان، وقد يكون الجهاد فكريًا، أو تربويًا، أو اجتماعيًا، أو اقتصاديًا، أو سياسيًا، كما يكون عسكريًا.
وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل.
المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله، وهو أن يكون (في سبيل الله) أي في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته في الأرض.
بل يرى القرضاوي أن الجهاد الفكري بما يشمل المؤسسات الإعلامية الدعوية قد يكون أولى في عصر من العصور من الجهاد العسكري، وإن \"كان جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة قديمًا، قد حصروا هذا السهم في تجهيز الغزاة والمرابطين على الثغور، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من خيل، وكراع، وسلاح، فنحن نضيف إليهم في عصرنا غزاة ومرابطين من نوع آخر، أولئك الذين يعملون على غزو العقول والقلوب بتعاليم الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، أولئك هم المرابطون بجهودهم، وألسنتهم، وأقلامهم، والدفاع عن عقائد الإسلام، وشرائع الإسلام\".
ويستشهد العلامة القرضاوي بأن من صور الجهاد المذكورة في السنة: \"كلمة حق عند سلطان جائر\".
وأن ما ذكرناه من ألوان الجهاد، والنشاط الإسلامي لو لم يكن داخلاً في معنى الجهاد بالنص، لوجب إلحاقه به بالقياس، فكلاهما عمل يقصد به نصرة الإسلام، والدفاع عنه، ومقاومة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض.
بل يؤكد القرضاوي أن \"توجيه مصرف (في سبيل الله) إلى الجهاد الثقافي والتربوي والإعلامي أولى في عصرنا، بشرط أن يكون جهادًا إسلاميًا صحيحًا\". ويضرب لذلك أمثلة، منها: \"إنشاء صحيفة إسلامية خالصة، تقف في وجه الصحف الهدامة والمضللة، لتعلي كلمة الله، وتصدع بقولة الحق، وترد عن الإسلام أكاذيب المفترين، وشبهات المضللين، وتعلم هذا الدين لأهله خاليًا من الزوائد، والشوائب، جهاداً في سبيل الله، أو نشراً لكتاب إسلامي أصيل، يحسن عرض الإسلام، أو جانب منه، ويكشف عن مكنون جواهره، ويبرز جمال تعاليمه، ونصاعة حقائقه، كما يفضح أباطيل خصومه، وتعميم مثل هذا الكتاب على نطاق واسع، جهاد في سبيل الله.
وإن تفريغ رجال أقوياء أمناء مخلصين، للعمل في المجالات السابقة بهمة وغيرة وتخطيط لخدمة هذا الدين، ومد نوره في الآفاق، ورد كيد أعدائه المتربصين به، وإيقاظ أبنائه النائمين عنه، ومقاومة موجات التنصير والإلحاد والإباحية والعلمانية، جهاد في سبيل الله.
وإن معاونة الدعاة إلى الإسلام الحق، الذين تتآمر عليهم القوى المعادية للإسلام في الخارج، مستعينة بالطغاة والمرتدين من الداخل، جهاد في سبيل الله.
وإن الصرف على هذه المجالات المتعددة لهو أولى ما ينبغي أن يدفع فيه المسلم زكاته وفوق زكاته، فليس للإسلام بعد الله إلا أبناء الإسلام، وخاصة في عصر غربة الإسلام\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد