بسم الله الرحمن الرحيم
يراد بالنفقة ما يصرفه المرء من مال على زوجته وذوي رحمه وما ملكت يمينه وإن وجوبها بالنسبة لهؤلاء الأفراد ثبت بالنص والفقهاء في تناولهم لمسألة نفقة الزوجة لم يختلفوا في حكمها، ولكن اختلفوا في تعيين مشمولاتها، فحصرها جمهور الفقهاء في المطعم والملبس والمسكن وتوسع فيها الزيدية فأضافوا إلى هذا الذي ذكره الجمهور نفقات علاج الزوجة إذا مرضت، وإلى رأيهم ذهب أغلب الفقهاء المعاصرين وهذا تفصيل قولهم في المسألة:
أولاً: آراء وأدلة الفقهاء في المسألة
1ـ مذهب جمهور الفقهاء وأدلتهم في المسألة:
ذهب جمهور الفقهاء وفيهم الأئمة الأربعة والظاهرية إلى أن ما يجب على الزوج في النفقة ثلاثة أشياء: الطعام، والكسوة، والسكن
فبالنسبة للمذهب الحنفي، جاء في حاشية ابن عابدين أن<النفقة هي الطعام والكسوة والسكن> فلا يجب على الزوج غير هذه الأشياء الثلاثة وصرح الكاساني بأن الزوجة <لو مرضت في الحضر كانت المداواة عليها لا على الزوج> بل جاء في فتح القدير أن شمس الأمة الحلواني قال: <إذا مرضت مرضاً لا يمكن الانتفاع بها بوجه من الوجوه تسقط النفقة> وجاء في حاشية ابن عابدين أيضاً أنه <لا يلزمه مداواتها>
وبالنسبة للمذهب المالكي فقد نص الشيخ خليل على أنه <يجب لممكنة مطيقة للوطء على البالغ ـ وليس أحدهما مسرفاً ـ قوت وإدام، وكسوة، ومسكن وقال الخرشي عند قول المختصر: <لا مكحلة ودواء وحجامة وثياب المخرج>: <يعني أن الرجل لا يلزمه المكحلة وكذلك لا يلزمه الدواء عند مرضها لا أعياناً ولا أثماناً ومنه أجرة الطبيب>
وبالنسبة للمذهب الشافعي صرح إمام المذهب أن الزوج <لا يكلف غير الطعام العام ببلده الذي يقتاته مثلها، ومن الكسوة والأدم بقدر ذلك> ونقل عنه الماوردي قوله: <ليس على رجل أن يضحي لامرأته ولا يؤدي عنها أجر طبيب ولا حجام> وعلل السيوطي قول الشافعية بعدم استحقاق الزوجة الدواء للمرض ولأجرة الطبيب بأن <هذه الأمور لحفظ الأصل، فكانت عليها كما يكون على المكري ما يحفظ العين المكراة> وذكر أنه <يلزم الزوج الطعام والأدم في أيام المرض، ولها صرف ما تأخذه إلى الدواء ونحوه>
وبالنسبة للمذهب الحنبلي ذكر ابن قدامة أن الزوج <لا يجب عليه شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب، لأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه وتجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم>.
وبالنسبة لابن حزم، فإنه صرح بأن الذي <على الزوج كسوة الزوجة ـ مذ يعقد النكاح ـ ونفقتها وما تتوطاه وتتغطاه وتفرشه، وإسكانها كذلك أيضاً صغيرة أو كبيرة ذات أب أو يتيمة غنية أو فقيرة>
هذه هي أقوالهم في المسألة، ظاهرها أن الزوج لا يلزمه لزوجته غير إطعامها، وإكسائها، وإسكانها وقد كان العمل بمقتضاها في قانون الأحوال الشخصية المصري قبل تعديله وبقي قانون الأسرة في لبنان يعمل بها وينص على أن <النفقة هي تأمين المأكل، والملبس، والمسكن>. وإلى هذا القول ذهب الشيخ المهدي الوزاني من فقهاء المغرب، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة فإنه حصر النفقة في <الإطعام، والكسوة، والمسكن> وربط استجابة المرأة لطلب زوجها بتمكينها من نفسها بتوفير نفقتها كلها فقال: <فوجوب التمكين يكون بأن يعد لها النفقة بأنواعها ثلاثة، فيقدم لها الطعام الذي تحتاج إليه، والكسوة التي تليق به، ويعد المسكن الذي تسكنه> ولا يزال بعض من يتصدون للفتوى في هذا العصر يفتون بهذا الرأي
واحتجوا بأدلة من القرآن والسنَّة النبوية:
ـ فمما احتجوا به من القرآن:
ـ قوله - تعالى -: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) الأحزاب: 50
احتج به الإمام الشافعي على أن الزوج <لا يكلف غير الطعام العام ببلده الذي يقتاته مثلها، ومن الكسوة والأدم بقدر ذلك>
ـ وقوله - تعالى -: (أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وجدكم) الطلاق: 6
احتجوا به لإيجاب سكنى الزوجة على قدر طاقة زوجها، فأخذ منه ابن قدامة أنه: <إذا وجبت السكنى للمطلقة فالتي في صلب النكاح أولى قال - تعالى -: (وعاشروهن بالمعروف)، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن السكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع، لأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام، فجرى مجرى النفقة والكسوة>
ـ ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع: <ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف> فإنه يفيد وجوب إنفاق الزوج على زوجته بالمعروف ووردت النفقة فيه محصورة في الرزق والكسوة لأنهما تتجددان وورد تأكيدهما فيما أجاب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم بن معاوية حين سأله: <ما حق زوجة أحدنا عليه؟ > فقال: <أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذ اكتسيت>، وأيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: <وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن>
وأما وجوب إسكان الزوجة فيدل عليه القرآن، ويستفاد من الأحاديث التي ورد فيها نهي النساء عن أن يخرجن من بيوتهن إلا بإذن أزواجهن
2 ـ مذهب الزيدية:
الذي عليه مذهب الزيدية أن أجرة الدواء تدخل فيما يجب للزوجة على زوجها من النفقة هذا ما نص عليه الشوكاني فقال: <وأما وجوب الدواء فوجهه أن وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها، والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها>
وبهذا القول عملت معظم قوانين الأحوال الشخصية العربية، فجعلت نفقات علاج الزوجة ـ إذا مرضت ـ واجبة على الزوج مثلما يجب عليه طعامها ولباسها ومسكنها، جاء في الفقرة الثانية من المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية المصري رقم 25 لسنة 1920 المعدل بالقانون 100 لسنة 1985 أنه <تشمل النفقة الغذاء والكسوة والسكن ومصاريف العلاج> وصرحت مذكرته الإيضاحية بأن هذه الفقرة جاءت بما ذهب إليه مذهب الزيدية وجاء في المادة الحادية والسبعين من قانون الأحوال الشخصية السوري أن <النفقة الزوجية تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم> وجاء في الفصل الثامن عشر ومئة من مدونة الأحوال الشخصية المغربية أن نفقة الزوجة تشمل <السكنى، والطعام، والكسوة، والتمريض بالقدر المعروف وما يعتبر من الضرورات في العرف والعادة> وجاء في المادة الثامنة والسبعين من قانون الأسرة الجزائري أن النفقة تشمل <الغذاء، والكسوة، والعلاج، والسكن أو أجرته، وما يعتبر من الضرورات في العرف والعادة> وجاء في المادة الثانية والعشرين من قانون الأسرة الليبي رقم 10 لسنة 1984 أنها تشمل <السكن والطعام والكسوة والعلاج وكل مقومات الحياة>
ظاهر هذه النصوص جميعها أن تطبيب الزوجة مما يجب لها على زوجها وهو الرأي الذي رجحه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: <خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف> <فظاهره أن ذلك غير مختص لمجرد الطعام والشراب، بل يعم جميع ما يحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات <الكماليات> التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة بحيث يحصل التعذر بمفارقتها أو التضجر أو التكدر، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال بما فيه الأدوية ونحوها وإليه يشير قوله - تعالى -: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة: 233، فإنه نص في نوع من أنواع النفقات إذ الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه والرزق يشمل ما ذكرناه>.
ثانياً:
يمكن بعد عرض رأي وأدلة الفريقين في المسألة والتأمل فيها أن نرجح الرأي الذي قال به الزيدية لما يلي:
1 ـ بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعظم نفقة الرجل أجراً، ما ينفقه على أهله في قوله - عليه الصلاة والسلام -: <دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك> ففيه تقديم إنفاق الرجل على أهله على الإنفاق في سبيل الله وعلى الإنفاق في الرقاب وعلى التصدق على المساكين ومعلوم أن الإنفاق على أحد لا يكون إلا لدفع الضرر عنه، وأي ضرر يصيب الزوجة أكبر من أن تمرض مرضاً قد يكون سببه كثرة اشتغالها في بيتها، أو يصيبها في أثناء حملهاأو بعد ولادتها؟! لاشك أن هذا الضر لا يمكن دفعه بسوق الطعام أو الملبس إليها وإنما يمكن دفعه بالدرجة الأولى بالفحوص الطبية واستعمال الأدوية فتشفى بإذن الله.
2 ـ إن الله - تعالى -أمر الأزواج أن يعاشروا زوجاتهم بالمعروف فقال: (وعاشروهن بالمعروف) النساء: 19، فهل يكون من المعروف أن يترك أحد زوجته مريضة فلا يهتم بصحتها؟ وهل من حسن العشرة أن ينفق عليها في حال صحتها، فإذا مرضت أرسلها إلى أهلها حتى تُشفى؟
ولقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأزواج إلى ملاطفة نسائهن والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، كما دعا النساء إلى حسن تبعل أزواجهن، فبيّن - عليه الصلاة والسلام - أن أعلى رتبة في الخير وأحق الناس بالاتصاف بها من كان خيراً لأهله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: <أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً>.
وهذا يحصل إذا كان اعتناء الأزواج ببنية زوجاتهم كاعتنائهم بصحتهن وهو ما كان يقوم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع نسائه إذا مرضت إحداهن فقد روت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - <كان يعود بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس أذهب الباس، اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً>، وأيضاً أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: <أما تغيب عثمان عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: <إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه>، فثبت بهذا أن تمريض الزوج زوجته هو عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودأب الصحابة مع زوجاتهم، وأنه يتقدم سائر ما تحتاجه الزوجة في غير حال مرضها
ثم إن الفقهاء أوجبوا النفقة للزوجة إذا مكنت زوجها من نفسها قبل مرضها، ولم يسقطوا نفقتها بمرضها، فحكى ابن القيم قوله: <لو تعذر من المرأة الاستمتاع لمرض فتطاول وأعسرت بالجماع، لم يمكن الزوج من فسخ النكاح، بل يوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء>
من أجل هذا كان اللازم أن يختار الزوج من نفقة زوجته ما يقيم عودها ليستمتعا ببعضهما بعضاً وإن ما تحتاجه المرأة في مرضها أن تتناول الدواء لا الطعام وحده، لأن المرء إذا مرض يفقد شهية الأكل حتى يشفى وهنا تتقدم نفقات العلاج على الإطعام، لأن الغاية من الإنفاق على الزوجة حفظ نفسها وهذا واجب، ومن لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
ولعل الأئمة الفقهاء لم يذكروا نفقات التطبيب ضمن ما يجب للزوجة على زوجها لأن <المداواة لم تكن في الماضي حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم.
3 ـ إن الشرع ترك أمر تقدير النفقة إلى العرف، وقد تعارف الناس وساروا على أن الرجل كما ينفق من أجل إطعام زوجته وإسكانها وإلباسها، فإنه ينفوق من أجل تطبيبها <وما من شك أن أهل العرف يذمون الزوج القادر وينكرون عليه إذا أهمل زوجته المحتاجة إلى العلاج
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
زوجي لا يصرف على العلاج وانا حامل
-ام كرم
22:35:33 2019-10-23