التهنئة بأعياد غير المسلمين

4 دقائق
10 رجب 1447 (30-12-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هناك التباسٌ شائعٌ عند كثير من الناس في مسائل الولاء والبراء، ليس من جهة أصل المفهوم فقط، بل من جهة تنزيله على الواقع الاجتماعي اليومي، حيث تختلط الدوافع الدينية بالاعتبارات الإنسانية، وتتشابك الأحكام الشرعية مع المجاملات الاجتماعية، فينشأ هذا الحرج الذي يطرق أبواب كثير من المسلمين، خاصة في المجتمعات المختلطة أو في بيئات العمل والدراسة.

من أكثر الأمثلة تداولًا في هذا الباب: التهنئة بأعياد غير المسلمين.

وهنا لا بد من التوقف قليلًا، لا بنبرة الاتهام، ولا بروح التخفيف المخل، وإنما بمحاولة فهم الإشكال كما هو، ثم تفكيكه بهدوء.

كثير من الناس يتعامل مع هذه المناسبات باعتبارها ممارسة اجتماعية لا أكثر، خالية من أي محتوى ديني حاضر في الوعي. فالكريسماس -مثلًا- عند عدد كبير من غير المسلمين لم يعد احتفالًا بولادة (الرب) كما تقرره العقيدة النصرانية، بل صار مناسبة استهلاكية، أو طقسًا عائليًا، أو حتى عادة موسمية بلا أي حمولة عقدية عند بعضهم، بل قد يحتفل به ملحد لا يؤمن بإله أصلًا.

ومن هنا يتولد السؤال: إذا كان المعنى الديني غائبًا عن قصد المحتفل، فهل يبقى الحكم كما هو؟ وهل للاعتبار الاجتماعي وزن في هذه المساحة؟

ويزداد الإحراج حين تكون العلاقة الإنسانية قائمة على قدر من الإحسان المتبادل: جارٌ غير مسلم يهنئك في عيدك، أو زميل عمل يحسن إليك، أو صديق يشاركك أفراحك، ثم يأتي عيده، فينتظر منك كلمة، إشارة، ردّ اعتبار، وأنت تقف مترددًا بين ما تشعر به إنسانيًا، وما تعتقده دينيًا.

لفهم المسألة على وجهها الصحيح، لا بد من ردّها إلى أصولها، لا إلى انطباعاتها.

أول ما ينبغي تقريره:

أن التهنئة بأعياد غير المسلمين الدينية مسألة قديمة، ليست وليدة واقعنا المعاصر، ولا نازلة مستجدة لم يتعرض لها أهل العلم. بل تناولها العلماء بوضوح، ومن أشهر من بسط الكلام فيها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذمة.

وقد نقل ابن القيم إجماع العلماء على تحريم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم المختصة بدينهم، وعباراته في ذلك شديدة، ليس من باب الغلو، بل من باب بيان خطورة المعنى المتضمن في الفعل.

فهو يقرر أن تهنئة الكافر بشعائر كفره نوع إقرار، بل شبّهها - من حيث القبح الشرعي - بما هو أعظم من تهنئته بارتكاب كبائر ظاهرة كقتل النفس أو الزنا أو شرب الخمر، لأن تلك معاصٍ، أما هذه فمتعلقة بأصل الكفر نفسه.

وهنا يجب التمييز الدقيق الذي يغيب عن كثير من النقاشات المعاصرة:

الحكم الشرعي لا يتغير بتغير شعور المحتفل أو قصده الذهني، بل يتعلق بطبيعة الفعل نفسه وما يدل عليه في ميزان الشريعة.

فالكريسماس - مهما فرغ من محتواه العقدي عند بعض الناس - يبقى في أصله ونواته عيدًا دينيًا مرتبطًا بعقيدة باطلة في نظر الإسلام، ولا يُنظر إليه باعتبار الاستعمال الاجتماعي المعاصر فقط.

ولهذا قرر أهل العلم أن المسلم لا يهنئ النصراني المتدين بعيدٍ يقوم على أصل عقدي يناقض التوحيد.

لأن التهنئة هنا، من حيث الدلالة، كأنها تهنئة له على دينه، أو إقرارٌ له عليه، ولو لم يقصد المسلم ذلك في قلبه.

تخيّل مسلمًا ارتد عن الإسلام واعتنق النصرانية، فجاءه شخص وقال له: "مبارك دخولك في النصرانية".

هل يُتصور أن يقال: النية كانت اجتماعية؟ أو المجاملة فقط؟

الشارع لا ينظر إلى الأمر بهذه السذاجة، بل إلى المعنى الذي يحمله الفعل في ذاته.

لكن هذا لا يعني - وهذا مهم جدًا- أن الإسلام يدعو إلى الجفاء، أو القسوة، أو قطع الإحسان.

فالتمييز بين البراء والولاء أصلٌ ضُيّع عند كثير من الناس.

قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [سورة الممتحنة: 8].

البر، والإحسان، وحسن الخلق، والعدل… كل ذلك مشروع، بل مأمور به.

أما التهنئة بشعيرة دينية باطلة، فشيء آخر.

ومن هنا نصل إلى الإشكال الثاني الذي يُطرح كثيرًا:

"هم يهنئوننا بأعيادنا، فلماذا لا نهنئهم بأعيادهم؟"

وهذا السؤال في حقيقته مبني على تسوية غير صحيحة بين الحق والباطل.

والشريعة - في أصولها الكبرى- لا تسوي بينهما.

قال الله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [سورة القلم: 35].

الأعياد في الإسلام ليست مجرد مناسبات ثقافية، بل هي شعائر دينية.

وتهنئة المسلم بعيد الفطر أو الأضحى هي تهنئة له بشيء يتقرب به إلى الله، ويدين الله بصحته وحقه.

أما أعياد غير المسلمين، فليست كذلك في ميزان الإسلام، فلا تستوي الأحكام ولا الاستحقاقات.

وهنا يظهر الأصل الثاني الذي يجب استحضاره دائمًا:

أن مرجعية المسلم في أفعاله هي الوحي، لا المعاملة بالمثل، ولا الأعراف السائدة، ولا الضغوط الاجتماعية.

المسلم لا يقول: "كيف يعاملونني لأعاملهم"، بل يقول: "ماذا قال الله؟ ماذا قال رسوله ؟".

قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الجاثية: 18].

فإن كان الفعل مباحًا، فعله.

وإن كان واجبًا، التزمه.

وإن كان محرمًا، تركه، ولو قبّحه الناس، ولو استغربه المجتمع.

أما الاحتجاج بالقيم الليبرالية السائدة - كحرية التعبير والمساواة المطلقة- فليس حجة على المسلم، لأن المسلم لا يتحاكم إلى هذه المرجعيات، بل إلى خطاب الشارع.

يفتح من مساحات الحرية ما فتحه الشرع، ويغلق ما أغلقه، لا ما فتحه المزاج العام أو أغلقه الضغط الثقافي.

ومن يعيش في المجتمعات الغربية، أو يراقب المشهد العالمي بوعي، يدرك أن المسألة ليست دائمًا بهذه المثالية المتصورة.

فكثير من "التسامح" المرفوع شعارًا يُمارس بانتقائية، ويُسحب عند أول تعارض مع الثوابت الإسلامية.

لهذا، فإن الوعي بهذه الأصول ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة دينية ونفسية، تحمي المسلم من الذوبان، كما تحميه من الغلظة.

فهو يقف على أرض صلبة:

يعرف أين يكون الإحسان، وأين يكون الامتناع، وأين يكون الثبات دون عدوان، والوضوح دون استعلاء.

وهذا - في جوهره - هو معنى إقامة الفرق الحقيقي بين الحق والباطل، كما أراده الله، لا كما تصوغه المجاملات العابرة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق