بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بالنسبة لساعة الجمعة إليك هذا المبحث، أسأل الله أن ينفع به:
تحديد هذه الساعة في وقت معين، اختلف العلماء فيها على أقوال كثيرة، قد ذكر ابن حجر منها أربعين رأياً في "فتح الباري".
ومن هذه الأقوال ما ذهب إليه بعض العلماء إلى أن هذه الساعة لم تحدد.
وقد قال القرطبي:
"... كما خبأ ليلة القدر في رمضان وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات …." تفسير القرطبي 3 / 212.
وقال الحافظ:
... وقال ابن المنير في الحاشية: إذاً علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها. "فتح الباري" 2 / 422.
وأرجح الأقوال في تحديدها عند محققي العلماء قولان -وأحدهما أرجح من الآخر-:
الأول: أنها تكون بعد صعود الإمام إلى المنبر وجلوسه حتى ينصرف من الصلاة.
والقول الثاني: من بعد العصر إلى مغيب الشمس.
قال ابن القيم -رحمه الله-:
وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر:
الأول: أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة.
وحجة هذا القول: ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى أن عبد الله ابن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله في شأن ساعة الجمعة شيئاً؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". وروى ابن ماجة والترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني عن النبي قال: "إن في الجمعة ساعة لا يسأل اللهَ العبدُ فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه"، قالوا: يا رسول الله أية ساعة هي؟ قال: "حين تقام الصلاة إلى الإنصراف منها".
والقول الثاني: أنها بعد العصر.
وهذا أرجح القولين وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق. وحجة هذا القول: ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي قال: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر"، وروى أبو داود والنسائي عن جابر عن النبي قال: "يوم الجمعة اثنا عشر ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر..."زاد المعاد 1 / 389 391.
وقال - رحمه الله-:
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الساعة التي تذكر يوم الجمعة: ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحداً حتى تغرب الشمس. وهذا هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث، ويليه: القول بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها.
وعندي: أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله -تعالى-تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة.
وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله -تعالى- في هاتين الساعتين. "زاد المعاد" 1 / 394.
وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكره الأقوال التي ذكرت في تحديد ساعة الاستجابة:
… فهذا جميع ما اتصل إليَّ من الأقوال في ساعة الجمعة، مع ذكر أدلتها، وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف، والإشارة إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره … ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام كما تقدم، قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام. ا. هـ، وما عداهما إما موافق لهما، أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه -صلى الله عليه وسلم- أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي أشار إلى ذلك البيهقي وغيره.
وقد اختلف السلف في أيهما أرجح فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره، وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في "الروضة" بأنه الصواب ورجحه أيضا بكونه مرفوعاً صريحاً وفي أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك، وقال ابن عبد البر: أنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجَّحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق، ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني -شيخ الشافعية في وقته- كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي. "فتح الباري" 2 / 421.
وفي غير ما سبق من الأحاديث ما يؤيد أنها بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس. عن أنس بن مالك: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس". رواه الترمذي 489.
والحديث: صححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في صحيح الترمذي 406.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي فيسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه إياه. قال أبو هريرة: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له هذا الحديث. فقال: أنا أعلم بتلك الساعة. فقلت: أخبرني بها ولا تضنن بها علي. قال: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس فقلت كيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي"، وتلك الساعة لا يصلى فيها فقال عبد الله ابن سلام أليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة؟" قلت: بلى. قال: فهو ذاك.
والحديث: صححه الإمام الترمذي والشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" 407.
ومعنى قوله "أخبرني بها ولا تضنن بها عليَّ": أي: لا تبخل بها علي.
قال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-:
هذا هو الوقت الذي رغَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدعاء في يوم الجمعة، ولكن هذا لا يعني أن المسلم لا يدعو ربه في يوم الجمعة إلا بهذا، بل يسن الدعاء في كل يوم وساعة وفي يوم الجمعة غير أن الساعة المذكورة من يوم الجمعة له خصيصة.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد