بسم الله الرحمن الرحيم
إنه لَيَشقّ علينا وداعُك يا رمضانُ الحبيب، فبقدومك فرح المسلمون الأتقياء العابدون وتنافسوا في طاعة الله، وتسابقوا إلى الأعمال الصالحات، فأحسنوا صيام أيّامك وقيام لياليك وتلاوة القرآن، وجادت نفوسُهم ببذل الصدقات، وإطعام ذوي الحاجات، والتوسعة على الفقراء والمساكين. أيها الشهر العظيم لقد سِرتَ بنفوسهم وقلوبهم إلى معارج السموّ الموصل إلى الله - تعالى -. صدقوا في طاعة الله، وأخلصوا له عند حلولك، وبذلك كنتَ المشارك الأكبر في تزويدهم بشحنات روحية هائلة يستقبلون بها العام بكامله، وفي تربيتهم على أهم الفضائل الخُلُقية كالصبر وعلى المشاعر الجماعية النبيلة مثل التعاون والتكافل والإحسان.
هذا هو حال الصائمين الأتقياء العابدين، فهل هو حالنا جميعاً؟ وهل استفدنا من موسم هذا الشهر العظيم في صفاء النفوس والأفكار والقلوب، ووحدة السلوك على شريعة الله؟ هل خرجنا من مدرسة هذا الشهر أحسن حالاً، وأقوم سلوكاً، وأكثر يقظةً، وأعظم قوةً، وأجمع شتاتاً؟.
فقير فقير، ومسكين مسكين: مَن مرّ عليه ذاك الموسم العظيم ثم لم يستطع أن يظفر بمغانمه إهمالاً وكسلاً، أو جنوحاً وانحرافاً، أو جحوداً واستكباراً.
والواقع أنّ وطأة غياب شهر الرحمة والمغفرة والعِتق من النار قد خفّفتها فرحة عيد الفطر، كيف لا وقد نال الصائمون فرحتهم الصغرى التي وعدهم بها الرحمن عند فطرهم، ونجدهم ينتظرون بلهفةٍ, وشوق فرحتهم الكبرى عند لقاء ربهم. إنه العيد، أنه فرحة المسلمين الكبيرة بانتصار إراداتهم الخَيِّرة على أهوائهم وشهواتهم وعلى شياطين الإنس والجنِّ، عقب تأدية عبادة عظيمة لله - عز وجل -.
وإذا كان المسلمون قد احتفلوا ببهجة العيد وسروره فلبسوا أجمل الثياب وتطيّبوا بأطيب الطيب وخرجوا مكبّرين مهلّلين فوزّعوا الصدقات، وجَدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء والتراحم بين الأقرباء، ونزعوا الضغائن من القلوب فصَفَت بعد تكٌّدر، واشتركوا جميعاً ـ شرقاً وغرباً من مختلف اللغات والأقوام ـ بالفرح والسرور في وقتٍ, واحد. ولكن، هل هذه هي كل معاني العيد؟ وهل العيد تعاون بين الناس في المدينة الواحدة فقط، وهل هو تجديد للصلة الاجتماعية بين الناس في المنطقة الواحدة؟ وهل هو تذكير أبناء البلد الواحد بحق الضعفاء والعاجزين عليهم؟.
(إنّ له أيضاً بُعداً أعمق من ذلك، إنه يذكِّر بمصائب وكوارث ونكبات المسلمين في جميع الأقطار. إن الأقصى جريح وأطفال الانتفاضة قد حُرِموا لَذَّة العيد، وأفغانستان تقاتل الصليبية الرعناء والعراق يدافع عن ثروات المسلمين، والشيشان يقاتل الإلحاد الأحمر، والبلاد العربية تقيم الحكم الإسلامي بالقول والحكم الغربي الوضعي بالتنفيذ. فهل كان لنكبات إخواننا من تفكيرنا وأفعالنا وأموالنا في رمضان والعيد نصيب؟ هل اقتصدنا في لهونا لنوفّر من ذلك ما تحتاج إليه أمّتنا في صراعها الدامي المرير؟ هل تحدّثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم بما يقوِّي العزائم ويبسط الأيدي بالبذل والعطاء والفداء؟ هل اقتصدنا في ضحكنا تعبيراً عن مبلغ عنايتنا بقضايانا، واهتمامنا بما يجري في وطننا الكبير من أحداث ونكبات؟.
والآن، ماذا بعد رمضان والعيد؟.
لئن زكت نفوسُنا وحلّقت في العلوّ، وقمنا بواجب الأخوة الحقّة في رمضان، فإنه ينبغي الاستمرار على هذه الحالة الحسنة الفاضلة التي اكتسبناها في هذا الشهر الكريم الذي كان من أبرز أهدافه إعدادُ النفس والجسم للعمل الدائب المستمر.
فواجب علينا بعد رمضان المداومة على الأخلاق الحميدة، ومراقبة الله - عز وجل - والاستمرار بالعبادات المُزَكِّية للنفوس من صيام تطوع وصلاة ليل وتلاوة قرآن وذكرٍ, لله دائمٍ, في القلب وعلى اللسان، ولا ننسى لذة التغلّب على وساوس الشياطين في رمضان بسبب تصفيدها إكراماً من الله - تعالى - لهذا الشهر الفضيل وللصائمين. فهل سنجعل للشياطين علينا من جديد سبيلاً؟ فلنُخلص النية لله - تعالى - ولنعمل عملاً دائباً، ولنشمرّ، فإن الله لا يجعل للشياطين على المؤمنين العاملين سبيلاً.
وواجب علينا بعد رمضان استدامة تذكٌّر جوع الجائعين ولوعة المُلتاعين وعَبَرات البائسين، والعمل على مواساتهم، فلا تكون سعادتنا إلا بسعادتهم، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُهُ جائع إلى جنبه وهو يعلم\" رواه البخاري.
وواجب علينا بعد رمضان تهيئة شبابنا للنضال، وأبنائنا للقتال، وأيدينا للبذل، وألسنتنا للدعاء حتى نتمكن من انتشال أوطاننا الرازحة تحت أقدام الغزاة المتوحشين الذين استعمروا بلادنا أو أفكارنا أو معتقداتنا، أو الكل في آن.
إيمانٌ راسخ، ونفحاتٌ رمضانية، وعقول مدبّرة، وأيدٍ, حديدية، وصلابةٌ صِدِّيقية، وشجاعةٌ عُمَرية، وجُود عثماني، وتعاطف أخوي: هي وحدها الكفيلة بانتصارنا على أعدائنا.
اللهم أَعِد علينا شهر رمضان المبارك وقد شتَّتَّ شملَ الأعداء ونكَّستَ أعلامهم وضربت بعضهم ببعض وأنزلت عليهم غضبك ونصرتنا عليهم نصر المؤمنين المجاهدين.آمين اللهم آمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد