في ظلال أحاديث الأحكام - حكم بيع العينة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أولا: نص الحديث

عَن أَبِي سَعِيدٍ, الخُدرِي - رضي الله عنه - قَالَ: \"جَاءَ بلاَلٌ إِلَى النََّّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِتَمرٍ, بَرنِيٍ,، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم -: \"مِن أَينَ هَذَا؟ \" قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِندَنَا تَمرٌ رَدِيءٌ، فَبِعتُ مِنهُ صَــــــاعَينِ بِصَاعٍ, لِمَطعَمِ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ ذَلِكَ: \"أَوَّهٍ, أَوَّهٍ,، عَينُ الرِّبَا، عَينُ الرِّبَا، لاَ تَفعَل، وَلَكِن إِذَا أَرَدتَ أَن تَشتَرِيَ فَبِع التَمرَ بِبَيعٍ, آخَرَ، ثُمَّ اشتَرِ بِهِ\"، متفق عليه(1).

 

ثانيا: ترجمة راوي الحديث

هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد الخدري، و هو مشهور بكنيته، استُصغِر بأحد،و استشهد أبوه بها، و أول مشاهده الخندق و غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشر غزوة.

و كان - رضي الله عنه - من أفاضل الصحابة، حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنناً كثيرة، و له في كتب الحديث ألف و مائة و سبعون حديثا(2).

و كان من نجباء الأنصار و علمائهم، و قد روى له جماعة من الصحــــابة و جماعة من التابعين، و توفي أبو سعيد يوم الجمعة سنة أربع وسبعين و دفن بالبقيع(3).

 

ثالثا: غريب الحديث

- \"بَرنِي\": ضرب جيّد من التمر، مدوّر و أحمر مشرّب بصفرة(4). قال أبو حنيفة: أصله فارس، قال: إنّما هو بارني، فالبار الحمل ني: تعظيم و مبالغة(5)، و هذا النوع الجيد من التمر لا يزال معروفا في المدينة المنورة.

- \"الصاع\": مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، يذكّر و يؤنّث(6).

- \"أوه\": كلمة تقال عند الشكاية و التوجّع، إلاّ أنّها ساكنة الواو، و ربما قلبوا الواو ألفا فقـــــــالوا: \"آه\" من كذا، و ربما شدّدوا الواو و كسروها و سكّنوا الهاء فقالوا: \"أوِّه\" من غير مد، و بعضهم يقول: \"آوَّه\" بالمدّ و التشديد و فتح الواو و سكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية، فلهذه الكلمة إذن - اللغات الفصيحة المتقدمة(7).

- \"عين الربا\": حقيقة الربا المحرّم.

 

رابعا: المعنى الإجمالي للحديث

يبيّن الشارع الحكيم الطرق المباحة التي تغني عن الوسائل المحرّمة التي قد يفعلها مَن يجهل الحكم فيها، كما حدث لبلال الذي أحبّ أن يطعم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من تمر جيّد، فسأله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكيفية و الوسيلة التي استعان بها في الحصول على هذه الجودة، فأجبره بلال عن الصفقة التي أجراها متمثلة في بيع عوضين من جنس واحد مع التفاضل، فترجع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك مستعظماً المعصية الناجمة من هذه المعاملة الربوية، و نهاه أن يعود لمثل ذلك، ثمّ أرشده إلى الأخذ بوسيلة جائزة تغنيه عن المحرّمة، و هي أنّه إذا أراد بيع رديء بجيّد، فعليه أن يبيع الرديء بالدراهم ثمّ يشتري بالدراهم تمرا جيّدا.

 

خامسا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث

تظهر الفوائد والأحكام فيما يلي:

1- فيه دليل على أنّ بيع التمر بالتمر لا يجوز إلاّ مثلاً بمثل، بمعنى أنّه يمنع فيه التفـــــاضل، و هو قول جماهير العلماء(7) و اختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، فمنعه مـــــــــــــــالك و الشافعي و أحمد، خلافـــــــــاً لمن احتجّ بأنّ مستهلك التمرة أو التمرتين لا تجب عليه القيمة، و لأنّه غير مكيل و لا موزون فجاز فيه التفاضل.

والصحيح ما عليه الجمهور، لأنّ ما جرى الرّبـــــــا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا و نظرا(9).

2- فيه دليل على أنّ التفاضل في الصفات لا اعتبار له في تجويز الزيادة(10).

3- فيه اهتمام التابع بمتبوعه في أكله وجميع أموره(11).

4- فيه جواز الرفق بالنفس و ترك الحمل عليها لاختيار أكل الطيّب على الرديء ترفيهاً في المـــــــأكل و المشرب، بشرط أن لا يصل حدّ الإسراف و التبذير المنهيّ عنه، قال - تعالى -: (...وَ كُلُوا وَ اشرَبُوا وَ لاَ تُسرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبٌّ المُسرِفِينَ، قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا)(12).

5- الحديث لم يذكر فسخ العقد و ردّ المبيع، و سكوت الرواة عن ذلك لا يدلّ على عدم الوقوع، فقد يكون ذهولاً أو اكتفاء بأنّ ذلك معلوم، و مع ذلك فقد و رد الفسخ في بعض الطرق من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد نحو هذه القصـــــــــة و فيه: \"هذا رِبَا فرُدٌّوهُ ثمّ بِيعُوا تمرنا و اشتروا لنا مِن هَذا\"(13) قال ابن عبد البر: \"القصة و قعت مرّتين: مرة لم يقع فيه الأمر بالردّ، و كــــان ذلك قبل العلم بتحريم الرّبا، ومرة وقع فيها الأمر بالردّ و ذلك بعد تحريم الرّبا والعلم به، و يدلّ على التعدّد أنّ الذي تولّى ذلك في إحدى القصتين سواد بن غزية عامل خيبر وفي الأخرى بلال. \"(14).

6- و فيه قيام عذر من لا يعلم التحريم حتّى يعلمه.

7- و فيه أيضاً أنّ من اجتهد في الحكم فأخطأ فحكمه مردود، و قد بوّب له البخاري في الاعتصام: \"إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلافاً للرسول من غير علم فحكمه مردود\"(15)، و في الوكالة: \"باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا فبيعه مردود\"(16).

8- و في قوله: \"بيع آخر\": يحتمل أن يكون المقصود منه أن يبيعه بيعا آخر، بمعنى أن يكون على صفة أخرى و تكون الباء زائدة، ويحتمل المقصود أن يبيعه بمبيع آخر ويراد به الثمن غير التمر. و هذا الاحتمال الأخير هو المتبادر إلى الذهن لترتيب الشراء عليه في قوله: \"ثمّ اشتر به\"(17).

9- فيه تقبيح المعصية لمن يعلم بذلك مع تعليمها للغير حتى يتجنّبها.

10-استُدِلّ بالحديث على جواز بيع التورّق(18)، و هي الرواية الأولى عن الإمام أحمد، خلافاً للرواية الأخرى القائلة بأنّ بيع التورّق مكروه، و هذا الحكم مرويّ عن ابن عبّاس و عمر بن عبد العزيز و نصره ابن تيمية(19).

و الظاهر أنّ الرواية الأولى أقوى، لأنّ عموم النصوص تدلّ على الجواز، و لأنّه لا فرق في مقصود المشتري بين أن ينتفع بالسلعة من استهلاك أو استعمال أو تجارة و بين أن يشتريها لينتفع بثمنهـــــا، و ليس فيه محذور شرعي قائم و لا تحيّل على الرّبا بوجه من الوجوه، لذلك و جب الرجوع إلى الأصل و هو الحلّ و الإباحة الذي تقتضيه النصوص العامة و الاعتبار(20).

11- استُدِل بالحديث على أنّ بيع الرّبا جائز بأصله من حيث أنّه بيع، ممنوع بوصفه من حيث أنّه ربا، فيسقط الرّبا و يصحّ البيع، و هو قول أبي حنيفة، و تعقّبه القرطبي بقوله: لو كان على ما ذكر لما فسخ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفقة، و لأمره بردّ الزيادة على صاع و لصحّح الصفقة في مقابلة الصاع(21).

12- فيه بيان لبعض جوانب أدب المفتي و أنّه إذا سئل في مســـــــألة محرّمة منع المستفتي عنها، و نهاه عن اقترابها، و أرشده إلى الطرق التي تصرفه عنها(22).

13- فيه اهتمام الإمام بأمر الدين و تعليمه لمن لا يعلمه، و إرشاده للتوصل إلى المباحات و غيرها(23).

14- استدل بالحديث أيضا- على جواز بيع العينة، و هي المسألة التي نتناولها في - مواقف العلماء من الحديث - الآتي:

 

سادسا: مواقف العلماء من الحديث

و صورة بيع العينة أن يبيع رجل سلعة بثمن (كعشرين دينارا) إلى أجل معلوم (كشهر)، ثمّ يبيع المشتري نفس السلعة إلى بائعها الأول في الحال بأقلّ من الثمن الذي باعها به (خمسة عشر دينارا مثلاً)، و في نهاية الأجل المحدّد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن فيكون الفرق بين الثمنين لصاحب المتاع الذي باع بيعاً صورياً(24).

و للعلماء في تحريم هذه المعاملة و تجويزها قولان، سنتناولهما مع التعرض لأدلة الفريقين مع المناقشة و بيان سبب الخلاف.

أ- أقوال العلماء

اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني على قولين:

- ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة و مالك و أحمد و أتباعُهم إلى تحريم بيع العينة و عدم صحّة العقد بهذه المعاملة، و هذا القول مرويّ عن ابن عبّاس و عـــــــــائشة و أنس و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و النخعي، و هو مذهب الثوري و الأوزاعي(25).

- و ذهب الشافعي و داود الظاهري و ابن حزم إلى جواز بيع العينة و صحّة العقد بهذه المعاملة، و هذا القول مرويّ عن ابن عمر(26).

ب- أدلة المذهبين السابقين

نورد أدلّة الفريقين في هذه المسألة، ثمّ نعقب ذلك بمناقشة الأدلة على و فق ما تقدّم:

1- أدلة الجمهور

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply