سترة المصلي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فهذه بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بأحكام السترة، وقد تحريت فيها أن تكون وفق ما ثبت من سن النبي  صلى الله عليه وسلم. ولعلي أن آتي على هذه الأحكام من خلال النقاط الآتية:

أولاً: السترة هي الشيء الشاخص الذي يضعه المصلي أمامه.

ثانياً: ثبت الأمر باتخاذ السترة في نصوص كثيرة في الصحيحين وغيرهما وكذا من فعله -صلى الله عليه وسلم- ، ومما ورد حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَومَ العِيدِ أَمَرَ بِالحَربَةِ فَتُوضَعُ بَينَ يَدَيهِ فَيُصَلِّي إِلَيهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَمِن ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ"(متفق عليه). وفي رواية أخرى قَالَ كَانَ النَّبِيٌّ صلى الله عليه وسلم يَغدُو إِلَى المُصَلَّى وَالعَنَزَةُ بَينَ يَدَيهِ تُحمَلُ وَتُنصَبُ بِالمُصَلَّى بَينَ يَدَيهِ فَيُصَلِّي إِلَيهَا"(متفق عليه).

وعن أَبِي جُحَيفَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ, فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى بِنَا الظٌّهرَ وَالعَصرَ وَبَينَ يَدَيهِ عَنَزَةٌ وَالمَرأَةُ وَالحِمَارُ يَمُرٌّونَ مِن وَرَائِهَا" (أخرجه البخاري).

فاتخاذ السترة سنة مؤكدة، بل قال بعض العلماء بالوجوب أخذاً بظاهر النصوص وهو قول قوي. وأكثر أهل العلم: أنها سنة مؤكدة و الصارف لهذه النصوص من الوجوب إلى الاستحباب: حديث ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر عليّ أحد) أخرجه البخاري ح 493. والشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم-  صلى إلى غير جدار أي: سترة. وقد أجيب عليه بأن عدم الصلاة إلى الجدار لايعني عدم الصلاة إلى سترة. وفيه نظر والله أعلم. (انظر الفتح 1/681).

ثالثاً: يسن أن يدنو من السترة لحديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" أخرجه أبو داود بسند صحيح. قال النووي في المجموع (3/244): "أخرجه أبوداود، والنسائي بإسناد صحيح".

و عن سهل  -رضي الله عنه-  قال: "كان بين مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الجدار ممر شاه" أخرجه البخاري ومسلم.

رابعاً: أن لايقل طول السترة عن مقدار طول مؤخرة الرحل (وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب على البعير، وطول مؤخرة الرحل: ذراع أو دونه بقليل. فقد أخرج أبو داود بسنده أن عطاء بن أبي رباح قال: آخرة الرحل ذراع فما فوقه).

 

ومن الأدلة على ألا يقل طول السترة عن مثل مؤخرة الرحل:

حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن سُترَةِ المُصَلِّي فَقَالَ مِثلُ مُؤخِرَةِ الرَّحلِ (أخرجه مسلم).

وعن طَلحَةَ بن عبيدالله قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُم بَينَ يَدَيهِ مِثلَ مُؤخِرَةِ الرَّحلِ فَليُصَلِّ وَلَا يُبَالِ مَن مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ" (أخرجه مسلم).

وعن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقطَعُ الصَّلَاةَ المَرأَةُ وَالحِمَارُ وَالكَلبُ وَيَقِي ذَلِكَ مِثلُ مُؤخِرَةِ الرَّحلِ (أخرجه مسلم).

خامساً: يجب -على الراجح من قولي العلماء- أن يمنع الإمام أو المنفرد المارَ فيما بينه وبين السترة، حتى الأطفال والدواب فإنها تمنع لحديث أبي سعيد الخدري  -رضي الله عنه-  قال سمعت رسول الله يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) أخرجه البخاري ومسلم.

وفي رواية أخرى عند البخاري قَالَ النَّبِيٌّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بَينَ يَدَي أَحَدِكُم شَيءٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَليَمنَعهُ فَإِن أَبَى فَليَمنَعهُ فَإِن أَبَى فَليُقَاتِلهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيطَانٌ".

فإن صعب منع المار بين يديه تقدم المصلي حتى يمر مِن خلفه، فعن أبي عمرو رضي الله عنه قال هبطنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثنية أذافر(وهو موضع بين الحرمين) فحضرت الصلاة ـ يعني فصلى إلى جدار ـ فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه) أخرجه أبو داود وأحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا إسناد حسن.

سادساً: يحرم المرور بين يدي المصلي، فعن أبي جهم  -رضي الله عنه-  قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) قال أبو النضر أحد الرواة: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. أخرجه البخاري 510 ومسلم.

سابعاً: تبطل الصلاة إذا مر بين يده المرأة البالغة أو الحمار أو الكلب الأسود سواء أكان المصلي رجلاً أو امرأة لحديث أبي ذر  -رضي الله عنه-  قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) قلت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يابن أخي، سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما سألتني، فقال (الكلب الأسود شيطان). أخرجه مسلم. وعن ابن عباس مرفوعاً: (يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض) أبوداود والنسائي وابن ماجة وأحمد بسند هو في غاية الصحة. والمراد بالحائض هنا: البالغ.

ومرور غير هذه الأشياء محرم لكنه لا يقطع الصلاة. وهذا القول أي أن هذه الأشياء الثلاثة تقطع الصلاة رواية عن الإمام أحمد وقول ابن حزم واختيار ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله.

وقال كثير من أهل العلم بأن هذه الأشياء الثلاثة لا تقطع الصلاة، وبعضهم قال بأن الذي يقطع هو الكلب الأسود فقط. ولكن ليس معهم ما يعارض حديث أبي ذر فإنه نص في المسألة.

أما حديث عائشة رضي الله عنها قَالَت بِئسَمَا عَدَلتُمُونَا بِالكَلبِ وَالحِمَارِ لَقَد رَأَيتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا مُضطَجِعَةٌ بَينَهُ وَبَينَ القِبلَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَن يَسجُدَ غَمَزَ رِجلَيَّ فَقَبَضتُهُمَا" (متفق عليه). وفي رواية عند الشيخين أَنَّهَا قَالَت: "كُنتُ أَنَامُ بَينَ يَدَي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجلَايَ فِي قِبلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضتُ رِجلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطتُهُمَا. قَالَت: وَالبُيُوتُ يَومَئِذٍ, لَيسَ فِيهَا مَصَابِيحُ" (متفق عليه). فالنهي عن المرور وهذا ليس بمرور أمام المصلي، ثم إن هذا اجتهاد وفهم من أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد ثبت بالسند الصحيح أن هذه الأشياء الثلاثة تقطع الصلاة فوجب قبولها والعمل بها.

ثامناً: سترة الإمام سترة المأموم: فلا يمنع المأموم من مر بين يديه ولا يقطع صلاته لو مر بين يديه امرأة فإن مرت المرأة أو الحمار أو الكلب الأسود بين يدي المأموم لم تبطل صلاته. والدليل: حديث ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر عليّ ذلك أحد) أخرجه البخاري.

تاسعاً: لا فرق في أحكام السترة بين الحرم المكي وغيره على القول الراجح من قولي العلماء، فإذا كان المرور بين يدي المصلي في غير الحرم محرماً ففي الحرم من باب أولى، بل قد ثبت اتخاذ السترة في الحرم من فعل الصحابة فعن يحي بن كثير قال: "رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام فركز شيئاً أو هيأ شيئاً يصلي إليه". رواه ابن سعد.

وعن صالح بن كيسان قال: " رأيت ابن عمر  -رضي الله عنه-  يصلي في الكعبة ولا يدع أحداً يمرّ بين يديه". رواه أبو زرعة في تاريخ دمشق وابن عساكر في تاريخ دمشق. (وإسناد الأثرين صحيح كما قال الألباني في كتابه حجة الرسول -صلى الله عليه وسلم-  ص22).

أما حديث المطلب بن أبي وِداعة قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يصلي والناس يمرون بين يديه، ليس بينه وبين الكعبة سترة) فإن إسناده ضعيف أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة قال ابن حجر: "رجاله موثوقون إلا أنه معلول" الفتح (1/687) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ح 928.

عاشراً: قال بعض أهل العلم: (ويستحب انحراف المصلي عن السترة قليلاً) أي لا يصمد إليها وإنما يجعلها عن يمينه أو يساره قليلاً.

والأرجح أن ذلك لا يستحب لضعف حديث المقداد بن الأسود  -رضي الله عنه-  قال: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يصلي إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على صاحبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمداً) أخرجه أبو داود وأحمد من طريق أَبُي عُبَيدَةَ الوَلِيدُ بنُ كَامِلٍ, قال حَدَّثَنِي المُهَلَّبُ بنُ حُجرٍ, البَهرَانِيٌّ عَن ضُبَاعَةَ بِنتِ المِقدَادِ بنِ الأَسوَدِ عَن أَبِيهَا به، وهذا إسناد ضعيف جداً فالوليد لين الحديث، والمهلب مجهول، وضباعة لا تعرف كما قال ذلك كله ابن حجر في التقريب.

وضعفه النووي في المجموع (3/249) والشوكاني في نيل الأوطار(3/6). قال الألباني: "رواه أبو داود بسند ضعيف فيه رجل ضعيف وآخر مجهول ثم هو مضطرب الإسناد والمتن وضعفه جمع". (تحقيق المشكاة ح 783 ).

حادي عشر: قال بعض أهل العلم يكفي وضع العصا بين يديه عرضاً، فإن لم يكن معه عصا فيكفيه أن يخط خطاً).

ويستدلون لذلك بحديث أبي هريرة  -رضي الله عنه-  أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره ما مر أمامه) أخرجه أبو داود وابن ماجة وحسنه ابن حجر في البلوغ ص 58 وقال: (لم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن). والأقرب أنه ضعيف كما جزم بذلك جمع من أهل العلم كالإمام أحمد والبغوي والنووي (انظر المجموع3/246248) قال الألباني: (وإسناده ضعيف فيه اضطراب شديد ومجهولان ولذلك ضعفه جماعة من الأئمة منهم أحمد (تحقيق المشكاة ح 781).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply