سيرة أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة

39
7 دقائق
17 جمادى الثاني 1447 (08-12-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اسمه: يَعْقُوْبُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ حَبِيْبِ بنِ حُبَيْشِ بنِ سَعْدِ بنِ بُجَيْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ الأَنْصَارِيُّ الكوفي صاحب أبي حنيفة.

وَسَعْدُ بنُ بُجَيْرٍ رضي الله عنه: لَهُ صُحْبَةٌ وهو بَجَلِيٌّ مِنْ حُلَفَاءِ الأَنْصَارِ.

وهو كذلك سَعْدُ ابْنُ حَبْتَةَ؛ وحبتة أُمُّهُ.

شَهِدَ الخَنْدَقَ، وَغَيْرَهَا.

يكنى: أبو يوسف.

مَوْلِدُ أَبِي يُوْسُفَ: فِي سَنَةِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَمائَةٍ.

نشأته: كَانَ أَبُوْهُ فَقِيْرًا، لَهُ حَانُوتٌ ضَعِيْفٌ أي دكان صغير.

قَالَ أبو يوسف: كُنْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ وَأَنَا مُقِلٌّ، فَجَاءَ أَبِي، فَقَالَ: يَا بُنِيَّ! لاَ تَمُدَّنَّ رِجْلَكَ مَعَ أَبِي حَنِيْفَةَ، فَأَنْتَ مُحْتَاجٌ.

فَآثَرتُ طَاعَةَ أَبِي، فَأَعْطَانِي أَبُو حَنِيْفَةَ مائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: الْزَمِ الحَلْقَةَ، فَإِذَا نَفَذَتْ هَذِهِ، فَأَعْلِمْنِي.

ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَعْطَانِي مائَةً.

ويروي الحكاية الخطيب البغدادي في *تاريخ بغداد* (16 /361) بسنده إلى أبي يوسف، قَالَ: كنتُ أطلبُ الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يومًا وأنا عِنْدَ أبي حنيفة، فانصرفتُ معه، فقال: يا بني لا تمدن رجلك مَعَ أبي حنيفة، فإن أَبَا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش، فقصرت عَن كثير من الطلب، وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أَبُو حنيفة وسأل عني، فجعلتُ أتعاهد مجلسه، فلما كَانَ أول يوم أتيته بعد تأخري عَنْهُ، قَالَ لي: ما شغلك عنَّا؟ قلت: الشغل بالمعاش، وطاعة والدي، فجلست فلما انصرف الناس دفع إلي صرة، وقال: استمتع بهذه، فنظرتُ فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة، وإذا نفدت هذه فأعلمني، فلزمتُ الحلقة فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى، ثُمَّ كَانَ يتعاهدني وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكان كأنه يُخبر بنفادها حتى استغنيتُ وتموَّلتُ. [ انتهى]

قصة أبي يوسف وحلوى الفالوذج:

مات أبوه وهو غلام صغير، ورُبِّيَ يَتِيْمًا، فَأَسلَمَتْه أُمُّهُ قَصَّارًا (خياطا).

ذكر الخطيب في *تاريخ بغداد* (16/ 361): عن أَبي يوسف القاضي، أنه قَالَ: تُوُفِّيَ أبي - إِبْرَاهِيم بْن حبيب- وخلَّفني صغيرًا فِي حجر أمي، فأسلمتني إلى قصَّار (خياط) أخدمه، فكنتُ أدع القصار وأمرُّ إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة، فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أَبُو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي عَلَى التعلم، فلما كثر ذَلِكَ عَلَى أمي وطال عليها هربي، قَالَتْ لأبي حنيفة: ما لِهذا الصبي فسادٌ غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء لَهُ، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقًا يعود بِهِ عَلَى نفسه، فقال لَهَا أَبُو حنيفة: مُري يا رعناء هذا هُوَ ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عَنْهُ، وقالت لَهُ: أنت شيخٌ قد خرفت وذهب عقلك، ثُمَّ لزمته فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء.

وكنت أجالس الرشيد وآكل معه عَلَى مائدته، فلما كَانَ فِي بعض الأيام قدم إلي هارون فالوذجة، فقال لي هارون: يا يعقوب كل منه فليس فِي كل يوم يُعمل لنا مثلها، فقلتُ: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكتُ، فقال لي: مم ضحكت؟ فقلتُ: خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين، قَالَ: لتخبرني وألحّ علي، فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذَلِكَ، وقال: لعمري إن العلم ليرفعُ، وينفع دينًا ودنيا، وترحم عَلَى أبي حنيفة، وقال: كَانَ ينظرُ بعين عقله ما لا يراهُ بعين رأسه. ا ه

شيوخه: شيخه الأول والذي تخرج عليه هو أبو حنيفة رحمه الله لَزِمَه وَتَفَقَّهَ بِهِ، وَهُوَ أَنبَلُ تَلاَمِذَتِه، وَأَعْلَمُهُم، وسمع أبا إسحاق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سَعِيد الأنصاري، وسليمان الأعمش، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر العمري، وحنظلة بن أبي سفيان، وعطاء بن السائب، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحجاج بن أرطاة، والحسن بن دينار، وليث بن سعد، وأيوب بن عتبة، وَيَزِيْدَ بنِ أَبِي زِيَادٍ، وغيرهم.

تلامذته: يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، ومحمد بن الحسن الشيباني، وَعَلِيُّ بنُ الجَعْدِ، وَأَسَدُ بنُ الفُرَاتِ، وَأَحْمَدُ بنُ مَنِيْعٍ، وَعَلِيُّ بنُ مُسْلِمٍ الطُّوْسِيُّ، وَعَمْرُو بنُ أَبِي عَمْرٍو الحَرَّانِيُّ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وبشر بن الوليد الكندي، وعبدوس بن بشر، والحسن بن شبيب، وَعَدَدٌ كَثِيْرٌ.

طلبه للعلم: بدأ طلب العلم بحفظ القرآن الكريم ودرس العربية والفقه والأصول، وعرف بالنجابة والذكاء، واتجه منذ الصغر إلى دراسة الحديث، ودرس المغازي وأيام العرب على محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، وتتلمذ على عبدالرحمن بن أبي ليلى، الفقيه الكوفي المعروف، وانتسب إلى حلقة الإمام أبي حنيفة، وظل ملازمًا لأبي حنيفة قرابة 17 سنة

وبعد ذلك رحل إلى المدينة، واتصل هناك بالإمام مالك، فأخذ عنه الفقه والحديث، فجمع بين المدرستين، مدرسة الأثر في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق.

توليه القضاء: ظل أبو يوسف في الكوفة فترة من الزمن بعد وفاة أبي حنيفة، يُدَرس ويُفتي، ثم انتقل إلى بغداد حيث عمل في التدريس والإفتاء أيضًا. وسرعان ما ذاع صيته، فعينه الخليفة المهدي في منصب قاضي القضاة في سنة 166، وأقره عليه الهادي سنة 169 ثم هارون الرشيد حين تولى الخلافة سنة 170 فبقي فيه 17 سنة حتى وفاته سنة 183.

مكانته في علماء زمانه:

قال عمار بن أبي مالك: ما كَانَ فيهم مثل أبي يوسف، لولا أَبُو يوسف ما ذكر أَبُو حنيفة، ولا ابن أبي ليلى، ولكنه هُوَ نشرَ قولهما، وبث علمهما.

وقَالَ طلحة بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر: وأبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، لم يتقدمه أحد فِي زمانه، وكان النهاية فِي العلم والحكم، والرياسة والقدر، وأولُ من وضع الكتب فِي أصول الفقه عَلَى مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة فِي أقطار الأرض.

وقال مُحَمَّد بْن الْحَسَن: مرض أَبُو يوسف فِي زمن أبي حنيفة مرضًا خيف عَلَيْهِ منه، قَالَ: فعاده أَبُو حنيفة ونحنُ معه، فلما خرج من عنده وضع يديه عَلَى عتبة بابه، وقال: إن يمت هذا الفتى فإنه أعلمُ من عليها، وأومأ إلى الأرض.

وقال جَعْفَر بْن ياسين: كنت عِنْدَ المزني، فوقف عَلَيْهِ رَجُل فسأله عَن أهل العراق، فقال لَهُ: ما تَقُولُ فِي أبي حنيفة؟ فقال: سيدهم، قَال: فأبو يوسف؟ قَالَ: أتبعهم للحديث، قَالَ: فمحمد بْن الْحَسَن؟ قَالَ: أكثرهم تفريعًا، قَالَ: فزُفر؟ قَالَ: أحدّهم قياسًا.

وعَن عُمر بن حماد بْن أبي حنيفة، عَن أَبِيهِ، قَالَ: رأيتُ أَبَا حنيفة يومًا وعن يمينه أَبُو يوسف، وعن يساره زُفَر (ابن الهذيل)، وهما يتجادلان فِي مسألة، فلا يَقُولُ أَبُو يوسف قولا إلا أفسده زُفَر، ولا يَقُولُ زُفَر قولا إلا أفسده أَبُو يوسف إلى وقت الظهر، فلما أذن المؤذن رفع أَبُو حنيفة يده فضربَ بِهَا عَلَى فخذ زُفَر، وقال: لا تطمعُ فِي رياسة ببلدة فيها أَبُو يوسف، قَالَ: وقضى لأبي يوسف عَلَى زُفَر. اه [تاريخ بغداد (16/ 362 - 365)].

ثناء العلماء عليه:

قال الإمام أحمد: كَانَ أَمْيَلَ إِلَى المُحَدِّثِيْنَ مِنْ أَبِي حَنِيْفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وقَالَ كذلك: كَانَ أَبُو يُوْسُفَ مُنصِفًا فِي الحَدِيْثِ.

وقال ابن مَعِيْنٍ: مَا رَأَيْتُ فِي أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَثبَتَ فِي الحَدِيْثِ، وَلاَ أَحْفَظَ، وَلاَ أَصَحَّ رِوَايَةً مِنْ أَبِي يُوْسُفَ.

وقال كذلك: أَبُو يُوْسُفَ صَاحِبُ حَدِيْثٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ.

وقال أيضا: أَبُو يوسف أنبلُ من أن يكذب.

وقال: كتبتُ عَن أبي يوسف، وأنا أحدث عَنْهُ.

وقال هلال بْن يَحْيَى الرَّأْيِ: كَانَ أَبُو يُوْسُفَ يَحفَظُ التَّفْسِيْرَ، وَيَحفَظُ المَغَازِي، وَأَيَّامَ العَرَبِ، كَانَ أَحَدَ عُلُوْمِهِ الفِقْهُ.

قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لاَ بَأْسَ بِهِ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي (طَبَقَاتِ الحَنَفِيَّةِ): وَأَبُو يُوْسُفَ ثِقَةٌ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكتَبُ حَدِيْثُهُ.

وقال علي بن المديني: كان صدوقًا.

وتكلم فيه بعض الناس من جهة حفظه، حيث نقل الخطيب في *تاريخ بغداد* (16/ 381) شيئا من هذا، فنقل بسنده إلى أَبي حفص عمرو بن علي، أنه قَالَ: أَبُو يوسف صدوق كثير الغلط.

وعن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَاريّ، قَالَ: يعقوب بْن إِبْرَاهِيم أَبُو يوسف القاضي تركوه.

وسُئل أبو الحَسَن الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي يوسف القاضي، فقال: أعور بين عُميان.

عبادته:

قَالَ ابْنِ سَمَاعَةَ: كَانَ وِرْدُ أَبِي يُوْسُفَ فِي اليَوْمِ مائَتَيْ رَكْعَةٍ.

من روائع كلامه:

قال أَبو يوسف القاضي: رءوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الْإسْلَام التي لا تتم نعمة إلا بِهَا، والثانية نعمة العافية التي لا تطيبُ الحياة إلا بِهَا، والثالثة نعمة الغنى التي لا يتمُ العيش إلا بِهَا، فأعجبني ذَلِكَ.

وقال: العلمُ شيء لا يُعطيك بعضه حتى تُعطيه كُلَّك، وأنت إذا أعطيته كُلَّك من إعطائه البعض عَلَى غَرَرٍ.

قضاؤه وإفتاؤه:

قال أَبو يوسف القاضي عِنْدَ وفاته: كل ما أفتيت بِهِ فقد رجعتُ عَنْهُ، إلا ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وعن مُحَمَّد بْن سماعة، قال: سمعتُ أَبَا يوسف فِي اليوم الَّذِي مات فِيهِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنك تعلمُ أني لم أجر فِي حكم حكمت بِهِ بين عبادك متعمدًا، ولقد اجتهدت فِي الحكم بِما وافق كتابك وسنة نبيك، وكل ما أشكل عليّ جعلت أَبَا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله ممن يعرف أمرك ولا يخرج عَن الحق وهو يعلمه.

وعن القاسم بن الحكم العرني، قَالَ: سمعتُ أَبَا يوسف عِنْدَ موته، يَقُولُ: يا ليتني متُّ عَلَى ما كنتُ عَلَيْهِ من الفقر، وأني لَمْ أدخل فِي القضاء عَلَى أني ما تعمدت بِحمد الله ونعمته جورًا، ولا حابيت خَصْمًا عَلَى خَصْم من سُلطان ولا سُوقة. [تاريخ بغداد (16/ 370)].

عقيدته: كان سليم العقيدة يقول بالقرآن والحديث ويذم الكلام ويحذر منه، فمن قوله: لا تطلب الحديث بكثرة الرّواية فترمى بالكذب، ولا تطلب الدُّنْيَا بالكيمياء فتُفلس ولا يحصل بيدك شيء، ولا تطلب العلم بالكلام فإنك تحتاج تعتذر كل ساعة إلى واحد.

وقال: العلم بالكلام جهل.

قال الذهبي في *السير* (8/ 539) معلقا على هذا: مِثَالُهُ شُبَهٌ وَإِشْكَالاَتٌ مِنْ نَتَائِجِ أَفَكَارِ أَهْلِ الكَلاَمِ، تُورَدُ فِي الجِدَالِ عَلَى آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثِهَا، فَيُكَفِّرُ هَذَا هَذَا، وَيَنْشَأُ الاعْتِزَالُ، وَالتَّجَهُّمُ، وَالتَّجسِيْمُ، وَكُلُّ بَلاَءٍ نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

وقال كذلك أبو يوسف رحمه الله: من قَالَ القرآن مخلوق فحرام كلامه، وفرضٌ مباينته.

قال أبو زرعة الرازي: كان أَبُو يوسف سليمًا من التجهم.

وعن أَبي يَعْلَى الْمَوْصِليّ، قَالَ: سمعتُ عَمْرًا الناقد، يَقُولُ: ما أحب أن أروي عَن أحد من أصحاب الرأي إلا عَن أبي يوسف؛ فإنه كَانَ صاحب سنة.

كتبه ومؤلفاته:

(1) اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، مطبوع.

(2) الآثار لأبي يوسف، مطبوع.

(3) الخراج لأبي يوسف، مطبوع.

(4) الرد على سير الأوزاعي، مطبوع.

وفاته: وَتُوُفِّيَ أَبُو يوسف القاضي ببغداد لخمس ليالٍ خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثنتين وثَمانين ومائة.

عن تسع وستين سنة، وقد حزن هارون الرشيد حزنًا شديدًا على وفاته وصلى عليه ومشى بجنازته، وأمر بدفنه في مقابر قريش شمال بغداد، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المصادر:
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (16/ 359 - 381)

سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي (8/ 535)


مقالات ذات صلة


أضف تعليق