الأضحية .. عبادة شرعية وليست عادة اجتماعية


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فالأضحية هي الذبيحة من بهيمة الأنعام ـ البقر والإبل والضأن والماعز، والضأن أفضلها ـ التي تُذبح ضحى يوم العيد، وفي اليومين الأولين من أيام التشريق بعد صلاة العيد وذبح الإمام، إلى الغروب، واختُلف في الذبح ليلاً، وقد شُرعت إحياءً لسنة إبراهيم - عليه السلام -، عندما فدي إسماعيل بذبح عظيم.

وهي سنة مؤكدة على الموسر عند الجمهور، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، مَن فعله أصاب سنتنا، ومن ذبح قبلُ فإنما هو لحم قدّمه لأهله ليس من النسك في شيء) [أخرجه البخاري عن البراء بن مالك رضي الله عنه].

ويُشتَرط في الأضحية السلامة من العيوب سيما الأربعة التي وردت في حديث البراء: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عَوَرُها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تُنقي) [النسائي].

ولا تُجزئ العمياء والكسيرة، وما دون ذلك مختلف فيه، قال عبيد بن فيروز: قلت للبراء: \"فإني أكره النقص في القرن والذنب؟ فقال: اكره لنفسك ما شئت ولا تضيِّق على الناس\".

ولا يجزئ فيها إلا الجَذَع من الضأن، وهو ما أكمل ستة أشهر فأكثر، والثنيٌّ من غير الضأن: من الإبل ما أكمل خمس سنين، ومن البقر ما أكمل سنتين، ومن الماعز ما أكمل سنة ودخل في الثانية. والبدنة والبقرة تُجزيء عن سبعة في أحد قولي العلماء.

وهي سُنة للرجال والنساء، العبيد والأحرار، سواء كانوا مقيمين أم مسافرين، متزوجين أو غير متزوجين، إلا على الحجاج ولو كانوا من غير أهل مكة ومنى، وأضحية الرجل تجزئ عنه وعن أهل بيته ولا يشترط لها نصاب.

والأضحية يأكل منها صاحبها ويهدي، ويتصدق ويدّخر، إلا إذا كانت هناك حاجة فلا يدّخر.

هذه العبادة التي شرعها الإسلام على الموسرين والمستطيعين من المسلمين أصبح يتكلّفها كثير من غير المستطيعين، ويترك من أجلها أموراً قد تكون واجبة. ومن الناس من يستدين لذلك، ومن لم يجد إلى ذبحها سبيلاً تحرَّج من ذلك، وتحولت من عبادة شرعية تقوم على الاستطاعة، إلى ظاهرة اجتماعية يحرص عليها بعض تاركي الصلاة والمتهاونين فيها مثلاً، والمقصرين في كثير من الواجبات الأخرى، سواء كانوا مستطيعين لها أم لا.

 

هذا المسلك مخالف ومغاير لما كان عليه السلف الصالح، بل الأئمة الكبار والعلماء الأخيار، حيث كان بعضهم لا يضحي وهو من القادرين عليها خشية أن يعتقد البعض أنها واجبة، ويعلن ذلك على الملأ من غير خجل ولا وجل، حدث ذلك من عدد من كبار الصحابة، بل من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق وبلال وابن عباس وأبي مسعود البدري - رضي الله عنهم - أجمعين.

روى الإمام البيهقي في السنن الكبرى [1/264ـ266] عدداً من الآثار تدل على ما ذكرنا وهي:

قال الشافعي - رحمه الله -: \"وبلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - كانا لا يضحّيان كراهة أن يُقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة\".

وعن أبي سريحة الغفاري ـ وهو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: \"أدركت أو رأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لا يضحيان، في بعض حديثهما كراهة أن يُقتدى بهما\".

وعن عكرمة مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ابن عباس: كان إذا حضر الأضحى أعطى مولى له درهمين فقال: اشتر بهما لحماً، وأخبِر الناس أنها أضحية ابن عباس.

وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: \"إني لأدع الأضحية وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليَّ\".

وعنه ـ أي أبي مسعود البدري ـ قال: \"لقد هممت أن أدع الأضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن تحسب النفس أنها عليهم حتمٌ واجب\". [المجموع 8/286].

وعلل النووي - رحمه الله - ترك الشيخين للأضحية في بعض السنين بفقرهما، فقد كانا من فقراء المسلمين.

 

قلت: لو صح هذا في بعض السنين فقد ثبت كذلك أنهما يتركانها عن مقدرةº كي لا يعتقد الناس وجوبها وكي لا يحرجوا الفقراء.

ومن العلماء من رأى التصدق على المحتاجين أفضل من الأضحية. منهم:

روي عن بلال - رضي الله عنه - أنه قال: \"ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك، ولأن أضعه في يتيم قد ترب فوه أحب إليَّ من أن أضحي\".

وقالت عائشة - رضي الله عنها -: \"لأن أتصدق بخاتمي هذا أحبَ إليّ من أهدي البيت ألفاً\".

 

وقال مالك: \"الصدقة بثمن الأضحية أحب أليّ، وقال مرة: الأضحية أفضل من الصدقة\".

لا شك أن الأضحية أفضل من الصدقة في يوم عيد الأضحى، فإنّ لكل مقام مقالاً، والأعمال تختلف باختلاف الأوقات، وما قالته عائشة وبلال ربما كان لحاجة أو لشدة عمّت المدينة، وإلا فإن الأضحية سنة. وقال ابن قدامة: \"قول عائشة هذا في الهدي\".

ومن أهل العلم من قال بوجوبها، كأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.

 

والأضحية يمكن أن تسدّ مسد الصدقة، بحيث يتصدق بجميعها، كما له أن يأكل ويهدي ويدخر، خاصة وقد ورد في فضلها عدد من الآثار.

منها ما روته عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم، وإنه يؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنّ الدم ليقع من الله - عز وجل - بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً).

 

قلت: الحسنة بين سيئتين، والأضحية للموسر ممن لا يُقتدى به أفضل من الصدقة، بل هي سنة مؤكدة، وإنما تركها الذين تركوها من أئمة الهدى في بعض السنين لأنهم مقتدىً بهم وأرادوا ألا يحرجوا الناس ويضيقوا عليهمº فالذين يتكلفون ويستدينون ويتركون كثيراً من الواجبات عليهم ليضحٌّوا خوفاً من المجتمع وجزعاً من ضغطه ولومه مفرِّطون، والموسرون ـ من غير المقتدى بهم ـ الذين لا يضحَّون مفرِّطون.

اعلم أخي الحبيب أن الحرج كل الحرج، والضيق غاية الضيق، في ترك الأوامر الشرعية والسنن المرعية، وأن المعروف ما عرفه الشرع، والمنكر ما أنكره، واحذر كل الحذر من أن تنساق وراء التقاليد والأعراف الاجتماعية، خاصة المخالفة للشرع، وأن تكون عبداً لها أسيراً لما تقوله العامة، فقد نهى الشارع الكريم المسلم أن يكون إمعة. لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهمº فإنه لا أسوة في الشر.

وأنه لن يشادَّ هذا الدين أحدٌ إلا غلبه، وعليك أن تبدأ بالأهم ثم المهم، فلا يحل لأحدٍ, أن يتشاغل بسنة أو مندوب ويترك الفروض، فإن فعل ذلك فإنه يكون مأزوراً غير مأجور.

والله أسأل لي ولكم الفقه في الدينº فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والاعتصام بسنة من بعث رحمة للعالمين، والاقتداء بسيرة السلف الصالحين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply