بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة..وجعل أمتنا خير أمة..وبعث فينا رسولاً منا.. أحمده على نعمه الجمة.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة..
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أرسله ربه للعالمين رحمة.. صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا و انتم مسلمون).
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتقوا الله - تعالى -، واحذروا شؤم المعاصي، فإنه ما من شر ولا بلاء ينزل بالناس أفراداً كانوا أو جماعات، إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
فما الذي سبَّب إخراج الأبوين عليهما الصلاة والسلام من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى هذه الدنيا دار الآلام والأحزان، وما الذي سبب إخراج إبليس من ملكوت السماء، وصيره طريداً لعيناً مصدراً لكل بلاء في الإنسانية، إنها المعصية..
لماذا عمَّ الغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال، ولماذا سُلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية، وما السبب في إرسال الصيحة على ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، ولماذا قلبت قرى قوم لوط بهم فجُعل عاليها سافلها وأتبعوا بحجارة من سجيل.
وما الذي أغرق فرعون وقومه، وخسف بقارون الأرض، وما الذي هد عروشاً في ماضي هذه الأمة وحاضرها طالما حُميت، إنها الذنوب والمعاصي.. (فَكُلاًّ أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِباً وَمِنهُم مَّن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَّن خَسَفنَا بِهِ الأرضَ وَمِنهُم مَّن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَـكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله - تعالى -، واحذروا الذنوب والمخالفات، فإن ضررها على الأفراد والمجتمعات لأشد وأنكى من ضرر السموم على الأجسام، إنها لتخلق في نفوس أهلها التباغض والعداء، وتنزل في قلوبهم وحشة وتلفاً، لا يجتمع معهما أنس أو راحة.. قال الله - تعالى -: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم) [الصف: 5].
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها.. إن للمعاصي شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البر والبحر: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ) [الروم: 41].
المعاصي تهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مٌّكرِمٍ, [الحج: 18].. روى الإمام أحمد - رحمه الله - بسنده، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
إنه مخالفة أمر الله، إنها مخالفة شريعة الله، إنها الذنوب والمعاصي، التي أذلت أعناقاً طالما ارتفعت، وأخرست ألسناً طالما نطقت وأصمت آذاناً طالما استمعت، وفرقت أسراً وفرقت جموعاً طالما اجتمعت.
بسبب الذنوب والآثام، والمنكرات والإجرام يكون الهم والحزن، إنها مصدر العجز والكسل وفشو البطالة، ومن ثم يكون الجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال.. بها تزول النعم وتحلُ النقم وتتحول العافية ويُستجلب سخط الله.
إذا ابتلى العبد بالمعاصي، استوحش قلبه، وضعفت همته وعزمه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، وقسا قلبه، ووهن بدنه، وضعف حفظه واستيعابه، وذهب حياؤه وغيرته، وضعف في قلبه تعظيم ووقار الرب.
وربما تنكس القلب، وزاغ عن الحق، وأدى إلى حرمان العلم النافع، وأورث ضيق الصدر، هل تعلم يا عبد الله بأن المعاصي، تعد خيانة للجوارح التي خلقها الله، لتستعمل في طاعته.. وأخص بهذا الكلام، الدعاة إلى الله - عز وجل -، أولئك الذين حملوا على أنفسهم هداية الناس، والتأثير في الخلق.. كيف يريد الداعية أن يؤثر في الناس، وقلوب الناس تبغضه.. وكيف يريد أن يتقبل الناس كلامه وقلوبهم تنكره، بسبب المعاصي.
رأيت الذنـوب تميت القلوب * * * وقد يورث الذل إدمانها
فتـرك الذنوب حياة القلوب * * * وخير لنفسك عصيانها
فياليت الدعاة، وذو الصدارة، والوجاهة والولاية يدركون بأن للمعاصي خطراً كبيراً على قلوبهم وعلى علمهم، وعلى طلاقة لسانهم، وأنها من أقوى الأسباب في نفرة الناس من صاحبها، بل وانتزاع حبه من نفوسهم، وصدق الله العظيم: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مٌّكرِمٍ, [الحج: 18]، وقال -جل وعز-: (وَمَن لَّم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ,) [النور: 40].
يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الناس.. وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الناس).
أيها المسلمون، من قارف المعاصي ولازمها تولد في قلبه الاستئناس بها وقبولها، ولا يزال كذلك حتى يذهب عنه استقباحها، ثم يبدأ بالمجاهرة بها وإعلانها وغالب هؤلاء لا يعافون، كما جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عليه). رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وهذه المجاهرة موجودة بيننا ولها صور وأشكال.. فمن المجاهرة أن يتحدث التاجر إلى رفاقه بغشه في السلع ويعد ذلك مهارة وكياسة.. ومن المجاهرة، أن يتحدث المقاول عن أساليبه في حيله بالنسبة للمواد وغيرها، ومن المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه وينشر الفاسق فسوقه.
ومن المجاهرة، تلك الصور الفاضحة وتلك الكلمات الخادشة للشرف والفضيلة، وهذا باب من البلاء عريض ولكثير من وسائل الإعلام فيه نصيب كبير.. فإن غالب وسائل الإعلام تمارس المجاهرة، بمفهومها الواسع العريض.
أيها المسلمون، لقد فشا الربا، وكثر الزنا، وشربت الخمور والمسكرات وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة..
ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن صحون استقبال القنوات الفضائية، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض حتى في شأن الصلوات حتى في الجمع، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات، التي لا عد لها ولا حصر.
فإلى متى الغفلة عن سنن الله، ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله، (ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيّراً نّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ, حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [الأنفال: 53].
إن المجتمع حين يغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله، حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام.
إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة، وسلوك مسالك اللهو والترف، طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات.. فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محادة أمر الله وشرعه، والاستمرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع، ليهدم الأركان، ويقوض الأساس ويزيل النعم، وينقص المال، ويرتفع الأسعار وتحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية.
ولقد أصابنا - أيها الأحبة - من ذلك الشيء الكثير فاتقوا الله - تعالى -، اتقوا الله، أفراداً وجماعات بيوتاً ومؤسسات، صغاراً وكباراً، حكاماً ومحكومين، فإن الحق أبلج، والديـن واضـح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل.
قال الله - تعالى -: (وَمَا أَرسَلنَا فِى قَريَةٍ, مّن نَّبِىٍّ, إِلا أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالُوا قَد مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذنَـاهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَـاتٍ, مّنَ السَّمَاء وَالأرضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَـاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَـاتاً وَهُم نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللَّهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الخَـاسِرُونَ) [الأعراف: 94-99].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله - تعالى -، واحذروا السيئات واستكثروا من الحسنات، فإن عاقبة المعاصي كما سمعتم وخيمة، في الدنيا وفي الآخرة.. ثم إن الأعمال الصالحة، وهذا من غرائب الأمور، وقد يستغربه بعضكم، أقول: أن الأعمال الصالحة، يسري قوتها فيظهر ذلك في الوجه..
وكذلك المعاصي، يسري قوتها ويظهر ذلك في الوجه أيضاً، حسناً وقبحاً.. وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة عن هذه القضية فقال - رحمه الله -: \" فكلما كثر البر والتقوى، قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان، قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح \".
ثم قال - رحمه الله -: \" فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك في صورته \".. ثم قال: \" ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيناً عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت..
فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية، كلما كبروا عظم قبحها وشينها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر لجمال صورتها.. وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره \".
ثم ضرب - رحمه الله - مثالاً واقعياً على قاعدته هذه التي ذكرها، ووالله لقد صدق شيخ الإسلام، فإن مثاله نراه بأعيننا في وقتنا هذا.. قال - رحمه الله -: \" وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره، مثل: الرافضة وأهل المظالم والفواحش فإن هؤلاء كلما كبر قبح وجهه وعظم شينه حتى يقوى شبهه بالخنزير\".
ثم قال شيخ الإسلام: \" بأنه قد تواتر عن هؤلاء أنهم ربما مسخوا قردة وخنازير فسبحان الله، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً \".. أيها الأحبة، نخلص من هذا الكلام بأن التقوى والإيمان والورع والصدق، يؤثر ذلك في الظاهر، فيحسن الوجه، ويزداد البهاء والجمال.
وأن أولئك الذين يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالاستقامة، وبالتقوى، وربما أطلقوا لحاهم، ثم يندسون في صفوف المسلمين، فيحضرون جمعة أو جماعة.. نقول لهؤلاء وننصحهم، ونحن مشفقون عليهم، بأن أمركم واضح لغيركم، فإن الناس يميزون، وإن المعصية لها آثارها، كما أن للصدق القلبي أثره.
فالوجه وإن كان به لحية، لكن ذلك النور لا تجده، وذلك البهاء تفقده، ثم نحن مشفقون عليهم من جهة أخرى، وهو أنه قد يقع أحدهم في الشرك، وذلك بأن يدخل المسجد، ويصفٌّ مع المسلمين، ويكبر ويركع ويسجد معهم، وما أدخلته الصلاة.. لكن.. لأمرٍ, كان يطلبه.. فلما قضي الأمر لا صلى ولا صاما.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا.. اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها.. دقها.. باطنها.. اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد