بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص الخطبة
1- منزلة العلم وفضل العلماء. 2- ذهاب العلم بذهاب العلماء. 3- ترجمة وجيزة للشيخ حمد الزيدان.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فإنَّ خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشرٌّ الأمور محدثاتها، وكلٌّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد بعث الله محمدًا إلى الخلق على حين فترة من الرسل، وقد مقت أهل الأرض عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ماتوا أو أكثرُهم قبل مبعثه، والناس إذ ذاك في جاهلية جهلاء، يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة ويأتون الفواحش ويقطعون الأرحام ويأكل القويُ منهم الضعيفº فبعث الله لهم محمدًا يعرفون نسبه ويعرفون صدقه ويعرفون أمانته وعفته، فهدى اللهُ الناسَ ببركة نبوة محمد هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَلٍ, مٌّبِينٍ, [الجمعة: 2].
إن البريـة يـوم مبعـث أحمـدٍ, ***نظـر الإله لهـا فبدّل حالهـا
بل كرّم الإنسان حين اختـار من *** خير البريـة نجمهـا وهلالهـا
لبس المرقّـع وهـو قـائد أمـةٍ, ***جبت الكنوز فكسّرت أغلالَها
لَمـا رآهـا الله تَمشـي نحـوه *** لا تنظر إلا رضاه سعـى لهـا
أيّها المسلمون، لقد أخبر الرسول أنَّ له تركة وميراثًا لا يمكن أن يُختص بها إلا من أراد الله له الخير، وأخبر أن هذا الميراث ليس من فئة الدينار والدرهم، وإنما هو العلم الذي من تحصل عليه فإنما وفق لخير عظيم، قال: ((إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ، فَمَن أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ, وافر)) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم.
إن العلماء يقومون في الأمة مقام الأنبياءº يبصرونها الهدى ويجنبونها الردى، ويمسكون بِحُجَزها أن تسلك درب ضلالة، أو تقع في هاوية غواية.
إن العلماء في الأمة بمنزلة العينين من الرأس، وهم الذين يبصرون الأمة بدينها، ويوقعون عن الله في وقائع حياتها، فتصدر الأمة عن أحكامهم، وتقتفي فُتياهم واجتهاداتهم. قال الله - تعالى -: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [آل عمران: 18]، قال القرطبي: \"هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته\". ويقول الله - جل وعلا -: يَرفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ, [المجادلة: 11]، وهذه الرفعة تكون في الدنيا والآخرة، وللعلماء نصيب من قوله - تعالى -: وَرَفَعنَا لَكَ ذِكرَكَ [الشرح: 4].
والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطيرº لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق - سبحانه - سؤالهم عند الجهل، فقال - تعالى -: فاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ [النحل: 43]. وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء والعلم شفاء هذه الأدواء، وكما قال رسول الله: ((فإنما شفاء العي السؤال)) أخرجه أبو داود (336).
وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد، قال الله - تعالى -: بَل هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 49].
العالم لا ينقطع عمله بموته بخلاف غيره ممن يعيش ويموت وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر. عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) أخرجه مسلم.
ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخّر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له، فعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله قال: ((صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر)).
مـا الفخر إلا لأهـل العلم إنهـم ***على الهدى لِمن استهدى أدلاء
وقدر كـل امرئ ما كـان يحسنه *** والجاهلون لأهـل العلم أعداء
ففز بعلم تعـش حيـا بـه أبـدا *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
عباد الله، العلماء ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وبهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فللّه درهم وعليه أجرهم، ما أحسن أثرهم وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة، يُذكّرون الغافل ويُعَلّمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد ومنار البلاد وقوام الأمة وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحقّ وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
أيها المسلمون، وحيث كان العلماء من الأمة بهذه المثابة وتبوؤوا منها هذه المرتبة فإن رزيتها بفقدهم من أعظم الرزايا وأقساها.
لعمرك ما الرزية فقد مال***ولا شاة تموت ولا بعير
ولكـن الرزيـة فقد حر***يَموت بموته خلق كثير
وإن فقد العالم ـ أيها المسلمون ـ ليس فقدًا لشخصه، وليس فقدًا لصورته ولا لحمه ودمه، ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة، إنه فقد لجزء كبير بحسب ما قام به العالم من الجهد والتحقيق، وهكذا يختلس العلم ويقبض بقبض حملته الذين هم العلماء، عن أبي أُمَامَةَ عن رسول اللَّه أنه قال: ((خُذُوا العِلمَ قَبلَ أَن يَذهَبَ))، قَالُوا: وَكَيفَ يَذهَبُ العِلمُ ـ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ـ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟! قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: ((ثَكِلَتكُم أُمَّهَاتُكُم، أَوَلَم تَكُنِ التَّورَاةُ وَالإِنجِيلُ فِي بَنِي إِسرَائِيلَ فَلَم يُغنِيَا عَنهُم شَيئًا، إِنَّ ذَهَابَ العِلمِ أَن يَذهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ العِلمِ أَن يَذهَبَ حَمَلَتُهُ))، وعَن أَبِي الدَّردَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُختَلَسُ العِلمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لا يَقدِرُوا مِنهُ عَلَى شَيءٍ,))، فَقَالَ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ, الأَنصَارِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيفَ يُختَلَسُ مِنَّا وَقَد قَرَأنَا القُرآنَ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقرَأَنَّهُ وَلَنُقرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبنَاءَنَا، فَقَالَ: ((ثَكِلَتكَ أُمٌّكَ يَا زِيَادُ، إِن كُنتُ لأَعُدٌّكَ مِن فُقَهَاءِ أَهلِ المَدِينَةِ، هَذِهِ التَّورَاةُ وَالإِنجِيلُ عِندَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا يُغنِي عَنهُم؟!)) رواه الترمذي والدارمي، وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول اللَّه يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِن يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَم يُبقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ, فَضَلٌّوا وَأَضَلٌّوا)) رواه البخاري ومسلم. قال النووي: \"هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم ليس هو محوه في صدور حفاظه، ولكن معناه أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالتهم فيضلون ويضلون\".
إذا أُدرك ذلك ـ أيها المسلمون ـ تبين أن فقد العالم لا يعوِّض عنه مال ولا عقار ولا متاع ولا دينار، بل إن فقده مصيبةٌ على الإسلام والمسلمين لا يعوّض عنه شيء، قال ابن مسعود: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يعوض عنه شيء ما اختلف الليل والنهار) رواه ابن عبد البر، وقال عمر: (موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه)، وقال ابن القيم: \"ووجه قول عمر أن هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده، وأما العابد فنفعه مقصور على نفسه\"، وعن الحسن قال: \"كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار\".
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله - تعالى -لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالّ تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، اعلموا أن حاجتكم إلى العلماء فوق كل حاجة، فهم ـ والله ـ مصابيح الدجى وعلامات الهدى، فالعلماء في الناس كالشمس للدنيا والعافية للناس. فالناس لا يعرفون كيف يُعبد الله إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس واندرس العلم بموتهم، في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ـ أي: بوفاتهم ـ حتى إذا لم يبق عالمًا اتَّخَذ النّاس رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بغير علم فَضَلٌّوا وَأَضَلٌّوا))، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله - جل وعلا -: أَوَلَم يَرَوا أَنَّا نَأتِي الأَرضَ نَنقُصُهَا مِن أَطرَافِهَا [الرعد: 41]، قال: (خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها)، وقال مجاهد: \"هو موت العلماء\".
الأرض تحيا إذا مـا عاش عالمهـا ***متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها ***وإن أبى عاد في أكنافها التلف
لقد فقدت المنطقة الشرقيّة ليلة البارحة علم من أعلامها وشيخ جليل، إنه فضيلة الشيخ حمد الزيدان، كان مديرًا للمعهد العلميّ، ثم مديرًا لمركز الدعوة، ثم عضوا فيه إلى أن وافته المنية - رحمه الله -. كان يتمتع - رحمه الله - بحسن الخلق والتواضع ولين الجانب والابتسامة الدائمة ومساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين، ويشهد له بذلك كل من عرفه.
نعم، لقد توفي الشيخ - رحمه الله - عن عمر يناهز الخمسة والخمسين عاما، توفي بعد أن ترك مئات الأنفس في صحائفه بإذن الله - تعالى -، توفي بعد أن ترك مئات الألسن تلهج له بالدعاء، توفي ولم يحقد على أحد ولم يؤذِ أحدا بقول أو فعل.
وإنه لمن المبشرات أن لحق بجوار ربّه ليلة الجمعة المباركة، متأثرا بداء في بطنه، وقد صح عن النبي أن المبطون شهيد.
فنسأل الله أن يبلّغه منازل الشهداء، وأن يلهم أهله الصبر والسلوان على فقده. اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم أبدله دارا خيرًا من داره وأهلاً خيرًا من أهله. اللهم اجعله ممن يدخل الجنة بغير حساب. اللهم أظله في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا [الأحزاب: 65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللّهمّ عن صحابة نبيك أجمعين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد