هل خسرت في الأسهم ؟


 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده - عز وجل - وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً....أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واعلموا أنه لا تخفى عليه خافية من أمر عباده ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلٌّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)) (الشعراء 219).

يبتلي عباده بالسراء والضراء والنعمة والبأساء والصحة والمرض والغنى والفقر ((وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ)) (الأنبياء: 35).

أيها المسلمون: لقد جاءت هذه الشريعة الغراء بكل الخيرات والكمالات، وحرمت جميع الأضرار والمفسداتº فأباحت للناس الطيبات وحرمت عليهم الخبائث وشرعت لهم طرائق يطلبون بها المال الحلال والرزق المبارك فأباحت معاملات البيوع والشراء والإجارة والشركة وأنواع الحوالات والضمانات وغيرها من المعاملات وفق ضوابطٍ, شرعية وآدابٍ, مرعية.

وإذا كان لكل أمة فتنة فما هي فتنة هذه الأمة؟، يجيبنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال))[1].

وقد جدّت في عالم اليوم طرائق كثيرة لكسب المال وتحقيق الثراء السريع. من أشهرها كما يعلم الجميع هي: وسيلة الإتجار في سوق الأسهم المالية العالمية منها والمحلية.

وأصلها كما هو معروف أسلوب غربي رأسمالي أخذه المسلمون عن الدول الغربية التي يحكم أسواقها القانون المدني، وقد قامت هيئات شرعية في عدد من البنوك في البلاد الإسلامية بضبطه وتعديله ليتوافق مع الأحكام الشرعية وحصل بذلك خير كثير ولكن بقي فيه فجوات كبرى طالما حذر منها الناصحون والغيورون.

مثل آليات البيع والشراء وحركات المضاربة العشوائية والتضخم اللامنطقي، والكذب والتغرير، والنجش في بعض أوامر الشراء، والنجش المضاد ونحو ذلك مما شاب أسواق الأسهم وأفسدها....

وكانت تلك الشركات منها ما هي محرمة بلاخلاف كالشركات الربوية أو التي أصل نشاطها محرم، ومنها شركات مختلطة أصل نشاطها مباح ولكنها تُقرض أو تقترض بالربا وقد أباحها بعض أهل العلم بضوابط معينة، والصحيح أنها محرمة لا يجوز الدخول فيها على الراجح من أقوال جماهير العلماء المعاصرين والمجامع واللجان الفقهية والشرعية والقسم الثالث شركات مباحة يجوز المساهمة فيها وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، وهي التي أصل نشاطها مباح وسلمت من القروض الربوية.

أيها المسلمون: وفي هذه الأيام بدأت أسواق الأسهم بالنزول والانحدار حيث المؤشرات تنزف نسباً يومية في أكثر دول الخليج وبعض الدول العربية... وذهل الناس واندهشوا وأصيبوا بحالة من الوجوم والاستغراب في بداية الأمر ثم بدأ مسلسل الخسائر والمصائب وحلَّت بالمساهمين خسائر فادحة، وجوائح فاجعة، فترى بعض القوم لأجلها صرعى يتجرعون منها غصص البلوى ويرفعون بسببها الشكوى فكم ترى من مهموم مغموم مثقل بالديون وتسمع عن آخرين ارتفع عندهم ضغط الدم أو السكري أو كليهما فأدخلوا المستشفيات والمصحات وسمع الناس عن حالة وفيات، ومنهم من أصيب بانهيار عصبيº لأجل فقده جميع ما يملك، وتصفية جميع محفظته التي كان قد اقترض نصف رأس المال فيها من أحد البنوك فاستوفى البنك مستحقاته وبقيت الخسارة يتجرعها هذا المسكين لوحده إلى غير ذلك من مسلسل المصائب والنكبات التي أفرزتها هذه الأزمة وهذا الانهيار السريع.

ولا ينكر أحد أن المال محبب إلى النفوس فطرة فهو عصب الحياة وشقيق الروح وبقدر ما يتمنى المرء الحياة والبقاء فهو يتمنى المال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يهرم ابن آدم وتشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر)) [2].

من حديث أنس بن , وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل)).

وفي هذه المصيبة المالية والنقيصة الدنيوية نذكر أنفسنا والمسلمين بعدة قضايا علها أن تساهم في التعزية والتسلية للخاسرين من جهة، ومن جهة أخرى علها أن تساهم في تصحيح المسار وضبط الاستثمار لعموم المستثمرين والمساهمين.

 

القضية الأولى: يا كل مصاب بخسارة في هذه الأسهم، اعلم أن الله ابتلاك في المنع كما ابتلاك في العطاء قال - تعالى -: ((لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم)) (آل عمران: 186).

وقال - سبحانه -: ((وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ, مِّنَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ, مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)) (البقرة: 155).

القضية الثانية: إن هذه الحادثة مورد من موارد الصبر وهو فريضة الوقت في هذه المصيبة، فتذكر- أخي المسلم - أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان قال - صلى الله عليه وسلم - \"واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك\" أخرجه أبو داود بسند صحيح.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا)) [3].

والصبر عباد الله من جميل الخلال، و محمود الخصال، فلا تتسخط على أقدار الله ولا تقع في سب الدهور والأزمان ولاتلطم وجها أو تشق جيبا، واحذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير وهو كلمة \"لو\"º فتقول لو أني ما فعلت، لو أني ما ساهمت... إنه أمر قضي وانتهى قال - صلى الله عليه وسلم -: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [4].

والمؤمن يصبر اختياراً، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.

يقول عمر - رضي الله عنه -: وجدنا خير عيشنا بالصبر.

ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الصبر مطية لا تكبو [5]

 

يجرى القضاء وفيه الخير نافلة *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي

إن جاءه فرح أو نابه ترح *** في الحالتين يقول الحمد لله

 

وقال الحسن - رحمه الله - \"والعبد كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ, كريم عنده \" وصدق من قال:

 

والصبر مثل اسمه مرُّ مذاقه *** لكن عواقبه أحلى من العسلِ

 

وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه، وتطلع بعده إلى الرضا، وهو أعلى درجة من الصبر التي يحفظه الله بها عن ما هو أشد منها.

يقول ابن القيم - رحمه الله - الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمناً وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا إمتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه [6]

إذا اشتدت البلوى تخفّف بالرضا **** عن الله قد فاز الرضيٌّ المراقب

وكم نعمة مقرونة ببلية *** على الناس تخفى والبلايا مواهب

 

القضية الثالثة: إن في هذا الحدث عبرةً وعظةً تستوجب الخروج من المظالم، والتوبة من المآثم.. فكم ماطل أقوام بحقوق غيرهم؟... بل وتحايلوا على أموال الناس أو أسمائهم رغبة في الثراء السريع والتجارة العاجلة، فمنعوا حقوقاً لأصحابها طمعاً في المال وربما كتموا عنهم مقدار الأرباح واستأثروا بها عنهم مستغلين جهلم بحقيقة الاكتتاب وحركة الأسهم... وكم ولغ الناس في الأسهم المحرمة الربوية منها أو المختلطة، وتساهلوا في ذلك ولم يبالوا بأي تحذير أو توجيه... أليس الربا شؤم وبلاء مؤذن بالحرب من رب الأرض والسماء قال - تعالى -: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ * فَإِن لَّم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ, مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ)) (البقرة: 279).

أليس الربا يمحق الخيرات والبركات: قال - تعالى -: ((يَمحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُربِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبٌّ كُلَّ كَفَّارٍ, أَثِيمٍ,)) (البقرة: 276).

ولذلك اشتد خوف السلف من الحرام وحذروا منه أشد التحذير، امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) [7].

وقال ابن مسعود لا يكتسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث\".

وكانت المرأة توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له \"يا هذا اتق الله فينا: إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار\".

وللذنوب -عباد الله-: عقوبات وبليات وأزمات ونكبات وقد تساهل الناس بالربا والمشتبهات إلى حد كبير نسأل الله السلامة والعافية حيث تطلّب بعض الناس المال والتجارة من أي طريق قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)) [8].

وكم من قضايا ومخالفات شرعية حصلت في زحمة انشغال الناس في أسواق الأسهم،

فمنها: ترك الصلاة بالكلية، أو تأخيرها عن وقتها في صالات الأسهم وأمام الشاشات.

وكم من قضايا الكذب والتزوير والإشاعات والتوصيات الكاذبة... أليست كلها ذنوب ومعاصي وبعضها موبقات وكبائر؟!.

عباد الله: والمخيف في الأمر أن العقوبة إذا حلّت ونزلت شملت الجميع إلا من رحم ربك قال - تعالى -: ((وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَآصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)) (الأنفال: 25).

وفي البخاري باب إذا أنزل الله بقوم عذابا بعثوا على أعمالهم قال ابن حجر - رحمه الله - وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن؟! فكيف بمن رضي؟! فكيف بمن عاون؟! نسأل الله السلامة [9]

ويقول ابن القيم - رحمه الله - عن الذنوب وآثارها ومن عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتحل النقم، ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد أن سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال عنهم من نعم وجد ذلك من سوء عواقب الذنوب كما قيل

 

إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم

وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم [10]

 

وقال أيضاً وكأنه يشاهد حال الناس اليوم: \"ومن عقوباتها أنها تزيل النعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة فتزيل

الحاصل وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته ولا أُستجلب مفقودها بمثل طاعته، فإن ماعند الله لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله - سبحانه - لكل شيء سبباً وآفةً تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفاتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.

ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره وسماعا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله [11]

القضية الرابعة: إن جمع الأموال في مجال واحد وموضع واحد إضافة إلى كونه عرضة للزوال والخسارة في أي لحظة، ففيه أيضاً تعطيل لمصالح وتجارات وصناعات أخرى

كم تركها الناس وصفّوا أموالهم وباعوا منازلهم وحاجياتهم بل واقترضوا لمدد طويلة وهكذا جمعوا مدخراتهم ليركموها جميعا في سوق الأسهم؟ فكان ماكان والله المستعان.

ولعل في هذه الحادثة دعوة إلى التعقل والتوازن وتنويع التجارة والاستثمار لئلا تتعطل مصالح المسلمين أو تذهب أموالهم هدراً وهباءً في يوم وليلة

القضية الخامسة: وليس وقود هذه الأسهم هم الأثرياء وحدهم والراغبون في أكل أموال الناس من أي طريق بل اصطلى بنارها ضعفاء ونساء ودخلت فيها أموال مساكين ويتامى وأرامل وأيامى طلباً للرزق الحلال وتغطية للتكاليف الأسرية، وسدادا لديون سابقة... ومن هنا وجب على المسئولين وفقهم الله وصنَّاع القرار وأهل الحل والعقد أن ينظروا في هذه القضية ويحفظوا أموال المسلمين ولا يدعوها تنزف يومياً وتذوب كما يذوب الجليد، على مرأى ومسمع من الجميع وعهدُنا بالمسئولين وولاة الأمر اهتمامهم بأمور الرعية وأحوالها في قضايا كثيرة ليست هذه بأقل منها بل حقيقة هي أشد ووقعها أنكى حيث إن الإحصائيات تقول: إن ما يزيد على أربعة ملايين فرد قد دخلوا في سوق الأسهم.

وقلما تجد بيتاً إلا وله نصيب منها بقليل أو كثير.

وإذا كان يقال \"إن النظام لا يحمى المغفلين\" فكيف يترك للمتلاعبين خلال فترات ماضية مزيداً من النجش وبثّ الاطمئنان وتصدير التوصيات الكاذبة وإغراء المجتمع بقوة السوق ومتانته من خلال وسائل الإعلام وتسابق المحللين الفنيين في الإذاعات والقنوات لبث الثقة والطمأنينة، ودراسة المؤشرات وتبادل التوصيات ورفع معدلات المضاربة في شركات لا تستحق عشر قيمتها الحالية.

ثم بين غمضة عين وانتباهتها يحصل هذا الانهيار ويخرج كبار المضاربين من السوق وتختفي السيولة مباشرة ويتضاعف العرض ولا يقابله طلبات شراء بلا مسوغات اقتصادية أو أسباب أمنية أو اجتماعية بل على العكس، الأوضاع الاقتصادية والأمنية بحمد الله على أحسن حال... ثم لم نرى أولئك بعد... بل تواروا عن الأنظار وتلاشت تلك التوصيات والتحليلات و في بعضهم شبه بمن قال الله عنه: ((وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتٌّكُم فَأَخلَفتُكُم وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُم مِّن سُلطَانٍ, إِلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصرِخِكُم وَمَا أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنِّي كَفَرتُ بِمَا أَشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (إبراهيم: 22).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه إلى يوم الدين:

القضية السادسة: إن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارة الدين والأخلاق وخسارة الأنفس والأرواح.

فالمال كالريش ينبت ثم يزول ثم ينبت وهكذا..

وقد قيل:

أحتال للمال إن ضاع فاجمعه * * * ولست للدين إن ضاع بمحتال

فهل تساوي أموالك كلها أن تسهر ليلة على السرر البيضاء، ثم ماذا لو أصيبت إحدى رجليك أو يديك بألم شديد وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد؟.

أرأيت لو قيل إن هناك علاجاً في أقاصي الدنيا وقيمته جميع ما تملك أتراك تدفع هذا المال لصحتك؟!..

قطعاً لا أظن عاقلاً يتردد في ذلك... إذاً ألا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك فلقد أعطى كثيرا وأخذ قليلا ورزق وأنعم ووسَّع في الرزق فله الحمد على ما أعطى وله الحمد على ما منع.

ولا تنظر أخي المسلم - إلى النعم المفقودة وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها واشكر الله على أن أبقاك صحيحاً مسلماً، والخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بالكفر والمعاصي: ((إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ)) (الزمر: 15).

القضية السابعة: ومن دروس هذه الحادثة أن لا ينظر المسلم إلى الأسباب المادية وحدها ويعتمد عليها وينسى سؤال الله - تعالى -وطلب الرزق منه وتعليق الأمور بمشيئته - تبارك وتعالى-.

وكم نرى من يجزم بأخبار مستقبلية دون تعليق ذلك بالمشيئة وتذكر جميع الأمور والمحفزات والتوصيات وكون مستوى السوق بفضل كذا وكذا وبسبب كذا وكذا وليس لمشيئة الله وذكر الله وفضل الله وعطائه أي ذكر على لسان الكثيرين من رجال الأعمال وأهل الاقتصاد والمال وقد عد العلماء ذلك نوعاً من كفر النعم قال - تعالى -: ((يَعرِفُونَ نِعمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)) (النحل: 83).

يقول مجاهد: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.

وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.

وقال ابن عباس: عند قوله - تعالى -: ((فَلاَ تَجعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُم تَعلَمُونَ)) (البقرة: 22).

قال: الأنداد هو: الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل،

وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي.

وتقول: لولا كليبة هذه لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص... وقول الرجل لولا الله وفلان... \".

ومن دروس هذه الحادثة: أن لا يتعلق الإنسان بأخبار شائعة ويبني تجارته على توصيات خادعة لم تبنى على أسس مالية واقتصادية صحيحة.

القضية الثامنة: الواجب أن يقتصد الإنسان في طلب الدنيا ولا يصاب بالسعار والهيام ورائها فكم رأينا ورأى الجميع الأسراب المتكاثرة في الاكتتابات، وازدحام الطرقات والمصارف، بل والقيام بالأسفار إلى دول مجاورة مع العنت والمشقة وترك الأهل والأولاد والوظيفة لأجل لمعان المكاسب وبريقها

وكم تساهل الناس في الطاعات والعبادات ورأينا أقواما تركوا صلة الرحم والاجتماع بالقرابة وقضاء حقوق الوالدين لأجل العكوف في صالات الأسهم أو أمام جهاز الحاسب يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه))[12].

والقناعة أعظم كنز وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة.

ومن جميل ما يروى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

 

أفادتني القناعة كل عز *** وهل عز أعز من القناعة

فصيّرها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعة

تحز ربحا وتغنى عن بخيل *** وتنعم في الجنان بصبر ساعة

 

وقال الشافعي - رحمه الله -:

 

رأيت القناعة كنز الغنى *** فصرت بأذيالها ممسك

فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك

وصرت غنياً بلا درهم *** أمرّ على الناس شبه الملك

 

وقال آخر:

اقنع بما ترزق يا ذا الفتى *** فليس ينسى ربنا نمله

إن أقبل الرزق فقم قائماً *** وإن تولى مدبراً نَم له

 

القضية التاسعة: ولا يجوز أن تنعكس آثار هذه الحادثة على الأسرة والأولاد أو الزوجة أو الإخوان بسبب الديون وتداخل الأموال وحصول الخسارةº لأن هذا أمر خارج عن قدرة الإنسان فلا تضاعف خسارتك فتغضب من أي موقف ويتغير مزاجك، وتتبدل أخلاقك على والديك وزوجتك وأولادك.

وبهذه المناسبة نذكر إخواننا الدائنين والمقرضين: أن يتقوا الله ويرحموا المعسرين وينظرونهم أو يتجاوزوا عنهم قال- صلى الله عليه وسلم - \"من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله\". أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

القضية العاشرة والأخيرة: فلنعلم أن ما يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان له فيه خير كما ثبت بذلك الخبر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فكم في هذه المحنة من منحة وفي هذه النقمة من نعمة ففيها عبر وعظات ودروس للجميع, وفيها تقوية للمؤمن وتدريب له على الصبر, وفيها النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية.

وفيها خضوع الإنسان لربه وانطراحه بين يديه ولولا هذه النوازل لم يُرى الإنسان على باب الالتجاء والمسكنة، والله- تعالى- يبتلي خلقه بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به فهذه من النعم في طي البلاء:

كم نعمة لاتستقل بشكرها * * *  لله في طي المكاره كامنة.

قال سفيان بن عيينة: (وما يكره العبد خير له مما يحب لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء وما يحبه يلهيه) [13].

ويقول المنبجي - رحمه الله -: وليعلم أهل الصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب وما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته وإستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل:

 

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

 

فلولا أنه - سبحانه وتعالى - يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا و بغوا وعتوا وتجبروا في الأرض وعاثوا بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي وصحة وفراغ وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فعل بمن قبلهم فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟. اهـ

وفيها العلم بحقارة الدنيا وهو أنها أدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه وتنغص حياته وتنسيه ملاذه السابقة والكيس الفطن لا يغتر بالدنيا بل يجعلها مزرعة للآخرة.

وفقني الله وإياكم لاغتنام هذه الحياة بالباقيات الصالحات، والتزود من أعمال الخير والبر.

قال - تعالى -: ((وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ, يَعلَمهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلبَابِ)) (البقرة: 197).

اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونقِ سرائرنا من الشرور والبليات.

اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد.

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، الذين يريدون أن تكون كلمتك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفرج همهم ونفس كربهم وارفع درجاتهم. اللهم واخز عدوهم من اليهود والنصارى، ومن شايعهم من الباطنيين والمنافقين، وسعى في التمكين لهم وتسليطهم على المسلمين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين وعبرة للمعتبرين.

اللهم عليك بهم، اللهم زلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيع والبدع والعناد والفساد، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ووفق أئمتنا وولاة أمورنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

----------------------------------------------------------------

[1] رواه أحمد والترمذي بسندٍ, صحيح.

[2] متفق عليه.

[3] أخرجه أحمد والبيهقي وصححه الألباني.

[4] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

[5] ذكرها ابن القيم في عدة الصابرين، ص124.

[6] مدارج السالكين 2/172، 202.

[7] أخرجه مسلم.

[8] رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[9] فتح الباري - ابن حجر [جزء 13 - صفحة 61].

[10] بدائع الفوائد 2/432.

[11] الجواب الكافي، ص 73.

[12] رواه مسلم

[13] الفرج بعد الشدة، ص 22.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply