بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي حببَ إلينا الإيمانَ وزينهُ في قلوبنا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريكَ لهُ، المؤملُ لكشفِ كروبنا، ومغفرةِ ذنوبنا، وأشهدُ أ نَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ من وقرَ الإيمانُ في قلبهِ وغفرَ لهُ ما تقدمَ وما تأخرَ من ذنبهِ أما بعد:
فيا أيٌّها الناسُ اعبدوا ربَّكم الذي خلقكم والذين من قبلِكم لعلكم تتقون .
يُؤذِّنُ المؤذنُ للصلاةِ فنجدُ في أنفسنا تثاقلاً وبَعدَ جهادٍ, ومُجاهدةٍ, نقومُ إلى الصلاةِ، وندخلُ المسجدَ وكأننَّا طيرٌ في قفص، ونُؤدي الصلاةَ بأجسادٍ, بلا روحٍ,، وحركاتٍ, مجردةٍ, من الخشوعِ وأحدُنا لا يُبالي أن يتحدثَ مع زميلهِ واقفاً رُبَّما لساعةٍ, أو أكثر، ويا ويلَ الإمامُ والخطيبُ إن أطالَ ولو قليلاً، فإنَّهُ حينئذٍ, في نظرهم من المنُفرين، تلكَ صورة .
نقرأُ القرآن الذي لو أُنزل على جبلٍ, لرأيتهُ خاشعاً مُتصدعاً من خشيةِ الله، فلا تُحدث قراءتهُ في القلبِ لنا خشوعاً، ولا تجري من أعيُننا دموعاً، لأنَّها تلاوةً مُجردةً من التدبرِ والتفكر، وتلك أيضاً صورة .
نصومُ رمضانَ شهراً كاملاً، شهرٌ حافلٌ بأنواعٍ, من العباداتِ، كفيلةً بتغييرِ مجرى القلوبِ لو كانت حيَّةً، ومع ذلكَ ينتهي الشهرُ كما بدأَ بدونِ أن يُحدثَ في إيماننا أثراً أو يُورثَ عندنا تقوى .
نحجٌّ بيتَ اللهِ الحرام، ونقفُ هناكَ مواقفَ إيمانيةٍ, تهتزٌّ لها القلوبُ، وتتحركُ عندها المشاعر، ومع ذلك نرجعُ من حجِّنا وليسَ فينا من آثارهِ إلاَّ حلقُ الشعورِ، أما الشعورَ بتجددِ الإيمان فلا شُعور، نرجعُ من حجِّنا وكلٌّ حديثِنا عن مُغامراتنا في رميِّ الجمرات، وفي سُرعةِ النفرةِ من عرفاتٍ, وتلك صورة.
إلى صورةٍ, أخرى: ذكرُ الله الذي قال فيه: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعنا قهم ويضربوا أعناقكم ذكر الله)) هذا الذكرُ أصبحَ كلماتٌ تُرددُ على الألسنةِ دُونَ استشعارٍ, لمعناها، وإدراكٍ, لآثارها، إذا كانت المجالسُ عامرةً بالغيبةِ واللغوِ والرفثِ، طابَ بها المقامُ وصعبَ منها القيام، ولو كان مجلسُ ذكرٍ, وتعظيمٍ, للملكِ العلاَّم، لرأيتَ التثاؤبَ وقلةَ الراغبِ، ولرأيتَ من يرددُ: ساعةً وساعة، وإنَّ الله لا يملَّ حتى تملوا .
لا بأسَ عندنا في الجلوسِ أمامَ الشاشاتِ ومتابعةِ المباريات، ولو كان الوقتُ ساعاتٍ,، فإذا نادى مُنادي الرحمن إلى الصلاةِ، اشمأزت القلوبُ، وثقلتِ النفُوسُ، واشتدت الكروب .
تلكُمُ أيٌّها المسلمونَ بعضُ صُورٍ, لداءٍ, خطيرٍ,، ووباءٍ, وبيل، هو فقدُ لذةِ العبادةِ، وحلاوةُ الطاعةِ، وطعمُ الإيمانِ، وتلكَ واللهِ مصيبةٌ، وأيٌّ مصيبةٍ, أعظمُ من أن نأنسَ بالشهواتِ، وتثقلَ علينا العبادات، وأيٌّ مصيبةٍ, أجل من أن تُؤدى العباداتِ بأيِّ صورةٍ, كانت، ولو كان أداءً آلياً بغيرِ روح، أو أداءً تقليدياً يُحركهُ الحرصُ على التقاليدِ أكثرَ ممَّا يُحركهُ الدافعُ إلى عبادةِ الله .
نحنُ أيٌّها المسلمونَ واللهِ محرومونَ يومَ أن نفقدَ روحُ العبادةِ، وسببُ السعادةِ، لماذا لا نشعرُ بالراحةِ التي وجدها في الصلاةِ حينما جعلَها قُرةَ عينٍ, وراحةَ بالٍ,، فيقولُ لبلال: ((أرحنا بالصلاة)) ويقولُ: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)) لماذا لا نشتاقُ إلى الصلاةِ وتصبحَ القلوبُ معلقةً بالمساجدِ كما كانَ قائلُ السلفِ يقولُ: (ما صليتُ صلاةً إلاَّ واشتقتُ إلى ما بعدها) وحتى كانَ أحدُهم يأتي إليَّها يُهادى بين رجُلين، لماذا لا نشعرُ بالجنةِ وندخلُ البستانَ الذي دخلهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ حين قالَ: (أنا جنتي وبستاني في صدري) وقال: (إنَّ في الدنيا جنةً من لم يدخُلها لم يدخل جنةَ الآخرة) .
أينَ الشعورُ بلذةِ العبادةِ التي وجدَها السلفُ يومَ أن قالَ قائلهم: (إنَّهُ لتمرُ بالقلبِ أوقاتٍ, أقولُ فيها إن كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا إنَّهم لفي عيشٍ, طيب).
ويقولُ الآخرُ: (مساكين أهلِ الدنيا، خرجُوا من الدنيا وما ذَاقوا أطيبَ ما فيها، قالوا: وما أطيبَ ما فيها؟ قال: محبةُ اللهِ والأنسُ به، والشوقُ إلى لقائهِ والإقبالُ عليه، والإعراضُ عمن سواه).
لماذا لا نشعرُ بنعيمِ الطاعةِ الذي شعرَ بهِ أسلافُنا يومَ أن قالَ أحدُهم: (لو يعلم الملوك وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه من النعيمِ لجا لدُونا عليهِ بالسيوفِ).
لماذا عدِمنا صورَ التنافسِ في الخيراتِ، والتسابقِ إلى الطاعاتِ، حتى عندَ شبابِ الصحوةِ، فأصبحت لا تستغربُ شاباً ملتزماً يأتي إلى الصلاةِ عند الإقامة، ورُبَّما فاتهُ شيءٌ منها، وحتى في يومِ الجمعةِ قلَّ من يُقربُ دجاجةً، بل بيضةً فضلاً عن أن يقربَ كبشاً أو بقرةً أو بدنةً .
نعم لم يعد للعباداتِ عندنا طعمٌ ولا لذة، وإنَّما أصبحت مُجردَ حركاتٍ, تُؤدى دُونَ أن يُصاحِبها استشعارٌ لعظمةِ الله، والتذللِ لهُ، والاستسلامِ له، والاستشعارِ للثوابِ والعقاب.
لم تعُد صلاتُنا تَنهَانا عن الفحشاءِ والمنكر، لأنَّها ليست الصلاةُ التي يُريدُها الله، فالصلاةُ التي أمرَ اللهُ بها، والتي يُريدُها ليست مُجرد أقوالٍ, يلُوكُها اللسان، وحركاتٍ, تُؤدِّيها الجوارحُ بلا تدبرٍ, من عقلٍ, ولا خشوعٍ, من قلب، ليست تلك التي ينقُرُها صاحِبها نقرَ الديكةِ، ويخطفُها خطفَ الغُرابِ، ويلتفتُ فيها التفاتَ الثعلبِ، كلاَّ، فالصلاةُ المقبولةُ هي التي تأخذُ حقَّها من التأملِ والخشيةِ، واستحضارِ عظمةِ المعبودِ جلَّ جلالهُ، ذلك أنَّ القصدَ الأولُ من الصلاة بل من العباداتِ كافةً هو تذُكير الإنسانِ بربهِ الأعلى، الذي خلقَ فسوى، والذي قدَّرَ فهدى، ((إ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكرِي)) (سورة طـه: 14).
وعند أبي داودَ قال: ((إنما فرضت الصلاة وأمرَ بالحجِ وأشعرت المناسكُ لإقامةِ ذكرِ الله - تعالى -)).
وكما أنَّهُ لابدَّ في الصلاةِ من حضورِ القلبِ فلا بدَّ من حضورِ العقل، ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُم سُكَارَى حَتَّىَ تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ)) (سورة النساء: 34).
وكم من مُصلٍ, لا يعلمُ ما يقولُ في صلاتهِ وهو لم يشرب خمراً، وإنَّما أسكرهُ الجهلُ والغفلةُ، وحبٌّ الدنيا، واتباعُ الهوى، ويقولُ ابن عباسٍ,- رضي الله عنهما-: (ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ, خيرٌ من قيامِ ليلةٍ, والقلبُ ساهٍ,).
وهذه هي الصلاةُ التي كانت قُرةَ عينهِ، والتي كانَ يحنٌّ إليها، ويتلهفُ عليها، ويقولُ لبلال: ((أرحنا بها)) .
لقد فقدنا لذةَ العبادةِ لأننَا تساهَلنَا بالذنوبِ، وخاصةً الصغائرِ، والاستهانةَ بالذنوبِ والتساهلَ مع النفسِ في مواقعتها يُؤدِّي إلى إدمانِها، وهذا بدورِهِ يُؤدِّي إلى قُسوةِ القلبِ، وانتكاستهِ، وتقاعُسِهِ عن الطاعاتِ، وميلهِ إلى الشهواتِ، وبالتالي يفقدُ لذةَ الطاعةِ وحلاوتها، والشوقِ إليها، قال - تعالى -: ((وَمَا أَصَابَكُم مِّن مٌّصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ,)) (سورة الشورى. 3.) وأيّ ُمصيبةٍ, أعظمُ من فقدِ حلاوةِ الطاعةِ، ولذةِ الإيمان؟
سُئلَ وهيبُ بن الورد: (متى يفقدُ العبدُ لذةَ العبادةِ إذا وقعَ في المعصيةِ أو إذا فرغَ منها، فقالَ: يفقدُ لذةَ العبادةِ إذا همَّ بالمعصيةِ) وفقدنا لذةَ العبادةِ يومَ أن تنافسنا على الدنيا، وقد قال: ((فوا الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) .
إنَّ الغرقَ في وحلِ المادِيَّة ومستنقعها، والتكالبَ على زينةِ الدنيا والانشغالَ بها، ذلك كلهُ يُؤدِّي إلى الغفلةِ عن العبادةِ، والبعدِ عن حقيقتها، والانحرافِ في مفهومها، ولأنَّ سلفنا أدركُوا ذلك، فقد ذَاقوا حلاوةَ الإيمانِ وتقلبُوا في جنةِ الطاعةِ، وبستانِ العبادة.
قال الحسن: (واللهِ لقد أدركتُ أقواماً كانتِ الدنيا أهونُ عليهم من الترابِ الذي تمشونَ عليه، ما يُبالُونَ أشرقتِ الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا) .
وفقدنا لذةَ العبادةِ يومَ أن غفلنا عن ذكرِ الله، والذكرُ فيه حياةٌ للقلوبِ كما تحيي البلادُ إذا ما مسَّها المطرُ، ويومَ أن غفلنا عن الذكرِ قست قُلوبُنا، وفقدنا لذةَ العبادةِ، ودبَّ إلى بعضنا التقاعسُ والقعودُ وحبٌّ الدعةِ والركود .
ومن صـورِ الغفلةِ عن الذكرِ، هجرُ قيامَ الليلِ، والتأخرُ عن الصلواتِ، وإهمالُ السننِ المُستحباتِ، وهجرُ كتابَ اللهِ - عز وجل - .
وفقدنا لذةَ العبادةِ، حينما أُغرقنا في المباحات، والإكثارُ منها قسوةً للقلبِ، وإضاعةً للوقتِ.
وصدقَ من قالَ: (لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا عند الموت كثيراً)، فبقدرِ الإفراطِ في المباحاتِ يكونُ التفريطُ في الواجباتِ والمسؤوليات، قالت عائشة - رضي الله عنها-: (أولَ بلاءٍ, حدثَ في هذه الأمةِ بعد نبيها الشبعُ، فإنَّ القومَ لما شبعت بطونهم، سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم) .
إن انشغالَ بعضُ شبابنا اليومَ بالمباحاتِ، من رحلاتٍ, ترويحيةٍ,، وإدمانٍ, للرياضة، ومشاهدةٍ, لبرامجِ الفيديو ومسرحياتهِ، واستماعٍ, مستمر ٍ,للأناشيدِ وغير ذلك من صورِ الانشغالِ بالمباحاتِ، كلٌّ ذلك أنشأ جيلاً ضعيفَ الصلةِ بالعبادةِ، لا يملكُ من مقوماتِ الالتزامِ إلاَّ العباداتِ المظهرية.
وفقدنا لذةَ العبادةِ يومَ أن فسدَ محلٌّ الإيمانِ وهو القلبُ بدسيسةٍ, باطنةٍ,، وآفةٍ, كامنةٍ, فيه، تتربصُ ساعةََ غفلةٍ,، فتتحركُ لتهوي بصاحبها، ولهذا قال: ((إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار)) .
قال ابنَ رجب- رحمه الله -: (وإنَّ خاتمةَ السُوءِ تكونُ بسببِ دسيسةٍ, باطنةٍ, للعبدِ، لا يطلعُ عليها الناسُ إمَّا من جهةِ عملٍ, سيئٍ, ونحو ذلك، فتلك الخصلةُ الخفيةُ تُوجبُ سوءَ الخاتمةِ عند الموت).
إنَّ التثاقلَ إلى الأرضِ، وخُلطةِ أهلِ الزيغِ، من أكبرِ أسبابِ مرضِ القلبِ واعتلاله، وهبوطِ الإيمانِ ونقصانه، قال الإمامُ ابن القيم- رحمه الله -: (مثلُ القلبِ مثلُ الطائرِ كلَُّما علا بعُدَ عن الآفاتِ وكُلَّما نزل احتوشتهُ الآفات).
لقد فقدنا لذةَ العبادةِ يومَ أن مرضت القلوبُ بأدواءِ الرياءِ والعُجبِ، والغرورِ والحسدِ، والإعجابِ بالرأي.
والقلبُ مضغةٌ في الجسدِ إذا صلُحت صلُحَ الجسدُ كُله، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كُلٌّه.
وأستغفرُ الله لي ولكم من كل ذنبٍ, فاستغفرهُ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيُنا محمد، أمَّا بعد:
أيٌّها الأخوةُ في الله: وكذلك لم نعُد نشعرُ بلذةِ العبادةِ لأننَا صاحبنَا أهلَ الأهواءِ، وأصحابَ اللغوِ، وأربابَ البطالةِ، دُون أن نُنكِرَ عليهم، بل أنِسنا بمجالسهم، وألِفنا أحاديثهم، وكثرةِ المساسِ تُقللُ الإحساس .
وفقدنا لذةَ العبادةِ يومَ أن أكثرنا من الضحكِ والمزاحِ، وكثرةَ الضحكِ تُميتُ القلبَ، والمزاحُ إذا تجاوزَ الحدٌّ، أورثَ الضغينةَ، وسببَ الأحقادَ، وأضعفَ قوةَ القلبِ وصلتهِ بالله.
وقد قالَ بعضُ السلف: (ما ضربَ اللهُ عبداً بعقوبةٍ, أعظمُ من قسوةِ القلب)) .
وفقدنا لذةَ العبادةِ حينما انشغلنا بمجالسِ اللغوِ واللهوِ، واستبدلنا الذي أدنى بالذي هو خير، فأصبحت مجالسُنا الاستراحاتِ وكثبانَ الرمالِ، بدلاً من حلقِ الوعظِ ومجالسِ الذكرِ، التي هي من عواملِ قوةَ الإيمانِ، وتذوقَ حلاوتهِ، كما قال لحنظلة: ((والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعةً و ساعة)) وكان عبدُ اللهِ بن رواحةَ إذا لقي الرجلُ من أصحابِ الرسول قال: (تعال نؤمن بربنا ساعة).
لقد فقدنا لذةَ العبادةِ حينما فقدنا الإخلاص، والإخلاصُ هو لبٌّ الأعمالِ وروحها .
لم نعد نستشعرُ عواقبَ الطاعاتِ وآثارها الحميدةِ في الدنيا والآخرة، ومن لم يكتمل عندهُ التصورُ لحقيقةِ هذهِ الآثارِ، فإنَّهُ يستلذٌّ النومَ والراحة، ويضنٌّ بالتعبِ والمجاهدةِ في سبيلِ الله، وبالتالي يفتقدُ لذةَ العبادةِ وحلاوتها.
وصدقَ ابن الجوزي حين قال: (من لمح فجرُ الأجرِ هان عليه ظلامُ التكليف)، فقدنا لذةَ العبادةِ حينما نسينا الموتَ وسكراتهِ، والقبرَ و ظُلماته، ويومَ القيامةِ وروعاته، وأعظمُ من ذلك كلِّهِ أننا فقدنا طعمَ الإيمانِ، وحلاوةَ الطاعةِ، حينما ضعُفَ حبٌّ اللهِ و رسولهِ ودينهِ في قلوبنا، وأصبحت محبتُنا مجردَ ادعاءَاتٍ, كاذبة، ومظاهرَ خادعةٍ,، أما حقيقةُ المحبةِ التي تُورثُ استسلاماً للهِ، وخضوعاً لأوامرهِ، فتلك غائبةٌ عن الأذهان.
أيٌّها المسلمون:
إنَّهُ عندما تسمُو النفسُ بطاعةِ اللهِ ومحبتهِ، وتطهيرُ القلبِ من التعلقِ بالدنيا، ويتذوقُ حلاوةَ الإيمانِ، وتصبحُ المحبةُ الصادقةِ لله ورسولهِ هي الشغلُ الشاغلِ للعبدِ، فإنَّ ذلكَ يبعثُ في القلبِ حبَّ البذلِ والفداءِ والاستهانةِ بالحياةِ الدنيا وزينتها، رجاءَ ما عندَ اللهِ - سبحانه -، والأجرَ العظيمِ، والفضلَ الكبيرِ، وتشوقاً لما أعدَّهُ لعبادهِ الصادقينَ في دارِ النعيم، فالمؤمنُ يبذِلُ النفيسَ والنفس، وهي عزيزةٌ عندهُ لينالَ ما هو أعزٌّ منها، وهو رضاءُ اللهِ - سبحانه - وجنته، إنَّ الذين حصَّلوا حلاوةَ النعيم الإيماني، شغلهم هذا النعيمُ عن الأهلِ والأوطانِ والأموالِ، بل تراهم يبذِلونَ أنفسهم وأموالهم وأولادَهم في سبيلِ من أحبتهُ قُلوبهم، وترى الواحدُ منهم يُغرسُ الرمحُ في صدرهِ وهو يقول: ((فزتُ وربِّ الكعبة)) ويستطيلُ الآخرُ حياتهُ، فيلقي قوتهُ من يدهِ، ويُهرولُ إلى العدوِّ منشداً مستعجلاً الوصولَ إلى الجنة:
ركضاً إلى اللهِ بغيرِ زادِ ** إلاَّ التُقى وعملَ المعاد ** والصبرُ في اللهِ على الجهادِ
وترى الآخر يرى في موتِ أبنائِه في سبيلِ اللهِ شرفاً وعزاً، كما قالت الخنساءُ لما قُتل أبناؤها الأربعة: ((الحمدُ لله الذي شرفني بقتلهم))، وللخنساءِ في هذا الزمانِ وفي كلِّ زمانٍ, أمثالٌ وأشباه.
أيٌّها المسلمون:
والآنَ هل أدركنَا السرٌّ في أننا ندعُو فلا نجُاب، ونستغيثُ فلا نُغاث، ونستنصرُ فلا ننصر، وهل عرفنا سببَ قسوةِ قُلوبنا، وضعفِ إقبالنا على الله.
إذا أدركنا حَالنا مع العباداتِ، وأيقنَّا بفقدنا لذةِ الطاعاتِ، وعلمنَا أسبابَ هذا الداء، فنبحثُ عن الدواءِ الذي نصلُ بهِ إلى حلاوةِ الإيمانِ، وننالُ بهُ لذةَ العبادةِ، ونشعرُ معهُ بالشوقِ إلى العباداتِ، والحنينِ إلى الطاعات. وما من داءٍ, إلاَّ لهُ دواء، ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ)) (سورة العنكبوت: 69)
اللهمَّ حبَّب إلينا الإيمانَ وزينهُ في قلوبنا، وكره إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان.
اللهمَّ أذقنا حلاوةَ طاعتكَ، ولذَّةَ عبادتكَ، وبر عفوكَ ومغفرتك.
صلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد