بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، واشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله وخيرته من خلقه اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى إخوانهِ وآله، وارض اللهمَّ عن أصحابه وأتباعه إلى الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثُمَّ توفى كلٌّ نفسٍ, ما كسبت وهم لا يظلمون.
إخوة الإسلام:
لاشكَّ أنَّ الهدايةَ إلى الصراطِ المستقيم، هدفٌ ينشدهُ كلٌّ مسلمٍ,، مع تفاوت الناسِ في جديةِ الطلب، وصدقَ العزيمةِ، وبلوغَ الهدف، وإلى كلِّ راغبٍ, في الهداية، ومتجرٍ, لأسبابها ومتطلعٍ, للجنان العالية. عاشقٌ لحورها، ومؤملٌ في نعيمها، ومستجيرٌ من النار، وفارٌ من حر ها وزمهرير ها، ومن زقومها، وسائرَ عذابها، أسوقُ الأسباب التاليةِ للهداية إلى الله بإذن الله:
أولاً: سعةُ الصدر وانشراحهِ للإسلام وتعاليمه، قال الله - تعالى -: ((فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ)) (الأنعام: 125).
ومفتاحُ شرح الصدر للإسلام التوحيد، الذي لا يخالطهُ أدنى شكُّ أو شرك مع الله، وإذا كان الهدى والتوحيد من أعظمِ أسباب شرح الصدر، فإنَّ الشركُ والضلال من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر وانحراجه، فحققوا التوحيد، وعمقوا الإيمان. معاشر المسلمين: وإياكم والشرك، أو الشكِّ والخرافات، أو البدعِ التي لم ينزل الله بهما من سلطان.
قال ابن عباسٍ,- رضي الله عنهما- ((فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ)) يقول: يوسعُ قلبه للتوحيد والإيمان به [1].
سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أيٌّ المؤمنين أكيس؟ قال: ((أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادا)).
وسُئل عن هذه الآية: ((فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ)) قالوا: كيف يشرح صدرهُ يا رسول الله؟ قال: ((نورٌ يُقذفُ فيه فينشرحُ لهُ وينفسح))، قالوا: فهل لذلك من أمارةٍ, يعرف بها؟ قال: ((الإنابةُ إلى دارِ الخلود، والتجافي عن دارِ الغرور، والاستعدادُ للموت قبل لقاءِ الموت)) [2].
يا أخا الإسلام: وإذا كان التوحيدُ مفتاحُ الهداية، فإذا عملَ الصالحات، والتقربُ إلى الله بسائرِ الطاعات، هي الأسنان لهذا المفتاح، ومن هُنا فاحرص على أن يكونَ لك حظٌ من كلِّ طاعة، ولك نصيبٌ من كلِّ قُربة، فيدفعُ اللهُ عنكَ بهذه الطاعةِ مصيبةً أو نازلة، ويرفعكُ بالأخرى منزلة، ويكتبُ لك أجراً وعافية، وتصيرُ من هذهِ وتلك إلى انشراحٍ, في الصدر وسعةٍ, في القلب، تحسٌّ من خلالهما بطعمِ الحياةِ الدنيا، قبلَ أن تصيرَ إلى لذةِ الحياة الأخرى.
وإياك أن تغمسَ نفسك في الشهوات، وتُغرقَ قلبكَ بالمحرمات، فتظلمَ الدنيا في عينيك، وتضيقُ بك الحياةَ مع سعتها على غيرك، وقد قيل في معنى قوله - تعالى -: ((وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)) وهو الذي لا يتسعُ لشيءٍ, من الهدى، ولا يخلصُ إليه شيءٌ من الإيمانِ ينفعهُ وينقذهُ.
وقد سألَ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- رجلاً من الأعرابِ من أهلِ البادية: ما الحرجة؟ قال: هي الشجرةُ تكونُ بين الأشجارِ، لا تصلُ إليها راعيةً ولا وحشيةَ ولاشيء، فقال: - رضي الله عنه- كذلك قلبُ المنافقِ لا يصلُ إليه شيءٌ من الخير[3]
فحذارِ أخي المسلمُ أن تسيطرَ عليكَ الغفلة، أو أن تُغريك اللذةُ العاجلة، فتُنسيك ما أمركَ الله به، أو تدعوكَ لفعلِ ما نهاكَ عنه، وتذكرَ وأنت في الدنيا محادثة أهلِ النار واعترافهم ((مَا سَلَكَكُم فِي سَقَرَ * قَالُوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُم عَنِ التَّذكِرَةِ مُعرِضِينَ)) (المدثر: من الآية 42 إلى الآية 49) وعليك بالجمعةِ والجماعة.
وإطعامُ الطعام، وصلةُ الأرحام، وفعلُ الخيرات، وتركُ المنكراتِ جهدك، فإنَّها أسبابٌ جالبةٌ لشرحِ الصدر والهديةِ بإذن الله، وعكسها جالبةٌ للضيقِ والشقاوة، والضلالِ عن صراط الله.
وتأمل على سبيلِ المثالِ أثر عدم إقامةِ الصلاةِ، والتهاونُ في اجتماع المسلمين للصلاة، وكونهُ طريقاً لاستحواذِ الشيطان، يقولُ الرسول- صلى الله عليه وسلم -: ((ما من ثلاثة في قرية، لا تقامُ فيهم الصلاة إلاَّ استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ القاصية)) [4].
ويقولُ- عليه الصلاة والسلام - في حديثٍ, آخر: ((ما عملَ ابن آدم شيئاً أفضلُ
من الصلاة، وإصلاح ذات البين، وخلقٌ حسن)) [5]
ثانيا: من أسبابِ الهدايةِ والتوفيقِ للصراط المستقيم، استدامةُ ذكر الله، فذكرُ الله على كلِّ حالٍ, سببٌ جالبٌ لارتباطِ القلبِ بالله، وعاملٌ مهمُّ لطمأنينةِ القلبِ وانشراح الصدر، يقولُ خالقُ هذا القلبِ، والعالمُ بمكوناتهِ وأسراره ((أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنٌّ القُلُوبُ)) (الرعد: من الآية28).
وهل علمت أخا الإسلام أنَّكَ على قدرِ ذكركَ للهِ يذكركَ الله ((فَاذكُرُونِي أَذكُركُم)) بل يزيدُ اللهُ تفضلاً منهُ ورحمة، فيذكركَ أكثر: ((من ذكرني في ملاءٍ, ذكرته في ملاءٍ, خيرٌ منه)).
وهل علمت أنك حينما تتغاضى وتتكاسلُ عن ذكر الله، يسلطُ اللهُ عليكَ الشياطين، فيكونوا هُم صُحبتك وقرناءَك: ((وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَنِ نُقَيِّض لَهُ شَيطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) (الزخرف: 36).
والفرقُ كبيرٌ بين صحبةِ الملائكةِ وصحبةِ الشياطين، وإذا أردت أن تعلم ذلك جيداً فتأمل هذا الحديث، وتأمل أثرَ الذكرِ فيه، يقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ((ما من راكبٍ, يخلو في مسيرهِ بالله وذكره إلاَّ كان ردفهُ ملك، ولا يخلو بشعرٍ, ونحوه إلاَّ كان ردفهُ شيطان)) [6].
أيٌّها المسلم والمسلمة: يا من تبحثُ عن الهداية في مظانها، وترغبُ الجنة
مهما كان ثمنها، إليك هذه الوصيةُ من أبي الأنبياءِ إبراهيمُ الخليل- عليه السلام - يحدثنا عنهُ خاتم الأنبياءِ محمد- صلى الله عليه وسلم - فيقول: ((لقيتُ إبراهيم ليلةَ أُسري. فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أنَّ الجنةَ طيبةُ التربة، عذبةُ الماء وأنَّها قيعان، وأنَّ غراسها: سُبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) [7].
وليس بخافٍ, عليك أنَّ مفتاح الجنةِ لا إله إلا الله، وأنَّ لا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله كنزٌ من كنوز الجنة.
أمَّا الصلاة على الرسول- صلى الله عليه وسلم - وهي من الذكر- فيكفي أن تعلم قدرها من خلال قول النبي- صلى الله عليه وسلم - ((من ذُكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة)) [8].
السببُ الثالث، والباعثُ على الهداية، تلاوةُ كتابِ الله، بتدبرٍ, وتمعن وخشوعٍ,، وهو وإن كان من أنواعِ الذكر، إلاَّ أنَّ إفرادهُ بالذكر لعظيمِ أهميته، ومزيد العناية به. قال الله - تعالى -: ((إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ)) (الاسراء: من الآية9).
هكذا تأتي الآية على وجه الإطلاقِ والعموم، فيشمل الهدي أقواماً وأجيالاً بلا حدود، من زمانٍ, أو مكان، وتستمرُ هدايةُ القرآن إلى نهايةِ الوجود.
والقرآنُ يهدي للتي هي أقوم، في عالمِ الضميرِ والشعورِ بالعقيدةِ الواضحة، التي لا تعقيدَ فيها ولا غموض، تنطلقُ الروحُ من أثقالِ الوهمِ والخرافة، وتنطلقُ الطاقاتُ البشرية الصالحةِ للعمل والبناء.
ويهدي للتي هي أقومُ، في التنسيقِ بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعرهِ وسلوكه، وبين عقيدتهِ وعمله، فإذا هي كلها مشدودةً إلى العروةِ الوثقى التي لا تنفصم، متطلعةً إلى أعلى، وهي مستقرةٌ على الأرض، وإذا العملُ عبادة مت توجهُ الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة [9].
أيٌّها المسلمون:
وفي القرآنِ الشفاءُ والرحمة، ((وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ)) (الاسراء: من الآية82).
وكذلك يعلمُ الذين أوتوا العلمَ هذا الأمرُ العظيمِ للقرآن، ((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ)) (سـبأ: 6).
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسمَعُوا لِهَذَا القُرآنِ وَالغَوا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغلِبُونَ)) (فصلت: 26).
وأثرُ القرآنِ وتأثيرهُ على النفوسِ واضحٌ مشهود، مهما بلغت القلوبُ من قُسوتها، ومهما كانت حالُ المرءِ من الشقاوةِ والضلال، وهل بعد الكفرِ من ذنب، ومع ذلك فقد روى البخاري في صحيحهِ قصةَ أثرِ القرآن في قلبِ كافرٍ, من أكابرِ قريش، أنَّهُ جُبير بن مطعم بن عدي، الذي قدمَ المدينةِ في وفدِ أسارا بدر، فسمعَ النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في المغربِ بسورةِ الطور، يقول: فلمَّا بلغَ هذه الآية: ((أَم خُلِقُوا مِن غَيرِ شَيءٍ, أَم هُمُ الخَالِقُونَ * أَم خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَم عِندَهُم خَزَائِنُ رَبِّكَ أَم هُمُ المُصَيطِرُونَ)) (الطور: 37، 36، 35) كاد قلبهُ أن يطير [10].
ومثل ذلك أو قريبَ منه، يُقالُ في قصةِ عودةَ الفضلُ إلى الله، وهو اللصُ الذي كان يُخوفُ المارين، ويروعُ الآمنين، وينهبُ المُسافرين، فلمَّا أرادَ اللهُ له الهداية، كان، ذاتَ يومٍ, يتسلقُ بيتاً، فسمعَ قارئاً يقرأُ ((أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ)) (الحديد: 16).
جعلني الله وإياكم من أهلِ القرآن، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الهدى والفرقان.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله رب العالمين، يُضلُ من يشاء، ويهدي اللهُ من يُنيب، وأشهدُ ألاَّ إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك لهُ، يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدور، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله، دعا الأمة إلى طريق الهدايةِ حتى وافاهُ اليقين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى إخوانهِ وآلهِ، وأرضِ اللهمَّ عن أصحابهِ وأتباعهم إلى يوم الدين.
إخوةَ الإسلام:
ومن أسبابِ الهدايةِ التفكرُ في مخلوقات الله، والنظرُ في ملكوتِ السموات والأرض، ولاشك أنَّ العاقلَ المتأملُ في هذا الكونِ، سيعودُ بعد رحلةٍ, التأملِ مؤمناً خاشعاً لله، مهتدياً بهداه، فليست الطبيعةُ بقادرةٍ, على هذا الخلقِ والإحياء، ويستحيلُ أن تكونَ الصدفةُ وراءَ هذا الكونِ والوجود، إلاَّ أنَّ الخلاقَ العليم تعترفُ به العقولُ، ويهتدي إليهِ أُولو الألباب، ((إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ, لِأُولِي الأَلبَابِ * الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) (آل عمران: 191، 190) ويتحدى الخالقُ العظيمُ أن يجدَ الناسُ في خلقهِ
عيباً، بل تعودُ الأبصارُ بعد رحلتها في عالمِ ا لوجود خاسئةً مطرقةً مستسلمةً لرب العالمين، ((الَّذِي خَلَقَ سَبعَ سَمَاوَاتٍ, طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلقِ الرَّحمَنِ مِن تَفَاوُتٍ, فَارجِعِ البَصَرَ هَل تَرَى مِن فُطُورٍ,* ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِب إِلَيكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)) (الملك: 4).
ويلفتُ الخالقُ نظرَ الإنسانِ للتأملِ في نفسه، ((وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبصِرُونَ)) (الذريات: 21).
ويزدادُ العاقلُ إيماناً بخالقهِ، وهو يرى عجائبَ قدرتهِ في نفسه، فلا يملكُ من أمرِ نفسهِ شيئاً، وتتحركُ أعضاؤهُ التي بين جنبيه بلا إدارةٍ, منه، وتقومُ بأدوارها المرداة لها، دون رقابةٍ, منه أو توجيه، أوَليس ذلك منتهى الإعجاز، وليس ذلك ببرهانٍ, وطريق إلى الهداية والإيمان، لمن تأملَ وأرادَ اللهُ لهُ الخيرُ والتوفيقُ إلى الصراط المستقيم؟
ومن أسبابِ الهدايةِ رفقةُ الصالحين الأخيار، واختيارُ الأقران، فكم من ضالٍ, هداهُ اللهُ على أيدي الصالحينَ الأخيار، وكم من فاجرٍ, شاءَ اللهُ له الهدايةَ على أيدي أقرانٍ, ما زالوا به، حتى سلكوا به طريقَ النجاة، وإذا كان المرءُ في هذه الحياةِ لابدٌَّ لهُ من خليل، فلينظر أحدُكم من يُخالل، فإنَّ المرءَ على دينِ خليله.
ومجردَ محبةُ الصالحين، وحبٌّ أفعالهم، توردُ المرءُ مواردَ الخيرِ إذا صدقت نيته. وتوجه قلبه: سُئل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - عن الرجلِ يُحبُ القومَ ولما يلحقُ بهم، فقال- عليه الصلاة والسلام -: ((الرجل مع من أحب)).
وليس بخافٍ, عليك أخي المسلم أثرَ الجليسِ الصالح وجليسِ السُوءِ من خلالِ حديثِ حاملِ المسكِ ونافخِ الكير، وليس بخافٍ, عليك كذلك أنَّ قرناءَ السُوء في هذه الحياةِ يكونونَ يومَ القيامة بعضهم لبعضٍ, عدو: ((الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ, بَعضُهُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ إِلَّا المُتَّقِينَ)) (الزخرف: 67).
فاستعن بالله، واقترب من الأخيارِ جهدكَ وجاهد نفسك، وروضها على مصاحبةِ الأخيار، وانجُ بنفسك عن الأشرارِ، وأنقذها قبلَ العطب، فإنَّ ذلك عاملٌ مهمٌ في الهدايةِ إلى صراط الله.
وثمة سببٌ مهمٌ للهداية، ألا وهو الدعاء: سلاحُ المؤمنِ في الشدائد والقمةِ الكُبرى، بلا جهدٍ, ولا ثمن، ومهما بذلتَ من أسبابِ الهدايةِ، فليكنِ الدعاءُ بالتوفيق والهدايةِ للصراطِ المستقيم ديدنك، ولا تسأم أو تستكثرِ الدعاء، فتقولُ: دعوتُ ودعوت، فلم يستجب لي، فتلك آفةٌ فاحذرها، فدعاؤك محفوظٌ فإمَّا أن يعطيكَ اللهُ ما دعوت، أو يصرفُ عنك من السُوءِ مثله، أو يدخرُ لك دعوتك حين تلقاهُ وأنت أشدٌّ حاجةً إليها.
يقول الله - تعالى -: ((وَقَالَ رَبٌّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) (غافر: 60).
ويقولُ الله تعالى- كما في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)).
والنبي- صلى الله عليه وسلم - كان لا يفترُ من الدعاءِ وهو المغفورُ لهُ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد علمنا من الدعاءِ كثيراً، ومنهُ حين القيامِ لصلاةِ الليل، فقد كان يقولُ: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات و الأرض، عالمُ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهمَّ اهدني لما اختلفَ من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراط مستقيم)).
فألحٌّوا على الله بالدعاءِ معاشر المسلمين، واحرصوا على أوقاتِ الإجابة، أسألُ اللهَ أن يهدينا وإيَّاكم صراطهُ المستقيم، وأن يثبتنا عليه ما بقينا إنَّهُ جوادٌ كريم.
أيٌّها الإخوةُ: وحيثُ علمتم أسبابَ الهداية، فبقى أن تعلموا عواملَ الثباتِ على دينِ الله.
----------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير 3/327.
[2] الحديث ذكر عبد الرزاق، وابن أبي حاتم وابن جرير، وقال الحافظ ابن كثير: ورد من طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً، والله أعلم. (تفسير ابن كثير3/328).
[3] تفسير ابن كثير 3/328.
[4] حديث حسن أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما..(صحيح الجامع 5/162).
[5] الحديث رواه صحيح الجامع 5/149.
[6] حديث حسن رواه الطبراني عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، صحيح الجامع 5/163.
[7] حديث حسن رواه الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - إلا ما أبهل الغرص وأعظم الثمر(صحيح الجامع 5/ 34).
[8] حديث صحيح رواه الطبراني عن الحسن - رضي الله عنه -، صحيح الجامع 5/291.
[9] في ظلال القرآن 4/2215.
[10] الفتح/8 وكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبه (الإصابة 2/6).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد