بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص الخطبة
1- الدنيا دار عمل. 2- الحكمة من الخلق. 3- السؤال عن العمر وعن مرحلة الشباب. 4- السؤال عن مصدر المال وعن نفقته. 5- السؤال عن العلم والعمل. 6- فائدة المحاسبة الجادة. 7- من صور المحاسبة. 8- فضل شهر المحرم. 9- فضل صوم عاشوراء.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله - تعالى -حقَّ التّقوى.
في الترمذيّ عنه قال: ((لا تزال قدَما عبدٍ, يوم القيامة حتى يُسأَل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن عمره: ما عمل فيه؟))[1].
أيّها المسلم، الدّنيا دارُ عمَل، يغتَنِمها الموفَّق، ويتزوّد منها عملاً صالحًا لمعاده، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى [البقرة: 197]، دارُ عمَل، والآخرةُ دارُ الجزاء، لِيَجزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجزِيَ الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنَى [النجم: 31].
أيّها المسلم، إنَّ اللهَ - جل وعلا - لم يخلُقنا عَبثًا، خلَقَنا لأمرٍ, عظيم عبادتِه وطاعتِه، وأخبَرَنا أنّه سيجمعنا في يومٍ, لا ريبَ فيه، يجمع الله فيه الأوَّلين والآخِرين: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ, لا رَيبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ [آل عمران: 9].
في ذلك اليومِ يومِ الجزاءِ والحسابِ يقِف الخلائقُ على أعمالِهم كلِّها، دقيقِها وجليلِها، على الأقوال والأعمالِ، (وَكُلَّ إِنسَانٍ, أَلزَمنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلقَاهُ مَنشُورًا اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13، 14]، (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ, مِن خَردَلٍ, أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]. في ذلك اليومِ يَقِف كلُّ منّا على عمَلِه، إن خيرًا وإن شرًّا، (يَومَ تَجِدُ كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ, مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ, تَوَدٌّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30].
أيّها المسلم، ولا تزالُ قدمَا عبدٍ, منّا في ذلك اليومِ العظيم حتى يُسألَ عن خمسٍ,، يسأَلَ عن عمرِه: فيم أفناه؟ هذا العمُر الذي مضى، قلَّت سنونه أو كثُرت، ستُسأَل: فيمَ أفنيتَ هذا العمر؟ هل أفنيتَ هذا العمر في طاعة الله؟ هل أفنيتَه في القيام بما أوجَبَ الله عليك؟ هل مضى ذلك العمُر في عملٍ, صالح تتقرَّب به إلى الله، أم عمر مضَى في البطالةِ والجهالاتِ، عمر مضى في السّفَه واللّعِب، عمر مضى في الغفلةِ والإعراض؟ وسيندم العبدُ على ذلك، (وَلَو تَرَى إِذ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيتَنَا نُرَدٌّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِن المُؤمِنِينَ بَل بَدَا لَهُم مَا كَانُوا يُخفُونَ مِن قَبلُ وَلَو رُدٌّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 27، 28].
إنّ هذا العمرَ ستُسأَل عنه أيّها العَبد، تُسأَل عن هذا العمرِ: فيم أفنيتَه؟ أَوَلَم نُعَمِّركُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُم النَّذِيرُ [فاطر: 37]، تسأَل عَن شبابك: فيمَ أبليتَه؟ هذا الشبابُ موضِع القوّةِ والنشاطِ تسأَل: [في] ماذا أبليته؟ هل أبليتَه بالخيرِ أم مضى شبابٌ في الطّيشِ والجهل والإعراض؟ إنّه سؤال حقُّ واقع، فعلى كلٍّ, منّا أن يحاسِبَ نفسَه، ويعِدَّ لهذا السؤالِ جَوابًا.
سنُسأَل عن هذا المالِ الذي بأيدِينا سؤالان: مِن أين هذا المال أتى؟ وفيمَ أنفِقَ هذا المال؟ هذا المالُ الذي بيدِك وهو زينةٌ من زينةِ الدنيا ستُسأَل يومَ القيامة عنه: عن طرقِ اكتسابِه وعن وسائِل إنفاقِه، من أين اكتسبتَ هذا المال؟ أمِن حلٍّ, أم حرام؟ هذا المالُ الذي بيدِك من أين أتاك؟ ما هي طرق اكتسابه؟ هل كان الاكتساب طريقًا مشروعًا؟ هل كان طريقًا مأذونًا به شرعًا أم كان هذا الاكتسابُ حرامًا سرِقةً أو غصبًا، غشًّا وخداعًا، ربًا ومَيسرًا وقِمارًا وأمورا باطلة؟ ستسأَل عنها يوم القيامة، عن هذا المال [من] أين أتاك؟ من أيِّ الطريق كان؟ فاستعدَّ لهذا الحساب، وحاسِب نفسَك، وطهِّر مالك من كلِّ مكسبٍ, خبيث.
وتسأَل أيضًا يوم القيامة: فيم أنفقتَ هذا المال؟ هل كان الإنفاق في وجوهِ الخير أم كان الإنفاقُ في الباطل؟ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ) [الأنفال: 36]، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدٌّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ )[الأنفال: 47].
وتُسأل عن عِلمِك: ماذا عَمِلتَ في هذا العِلم؟ علِمتَ حقًّا ماذا عمِلتَ فيه؟ هل كان هذا العلمُ سببًا للعمَل وسببًا للاستقامةِ أم كان هذا العلمُ سببًا للطّغيان والأشَر والإعجاب بالنّفس وسببًا للإعراضِ والصّدود عن سبيل الله؟ فكم مِن علم ينفَع عالمَه ويقوده إلى كلِّ خير، وكم من علمٍ, هو وَبالٌ على صاحبِه وحجّة على صاحبِه، في الحديث: ((والقرآنُ حجّة لك أو حجة عليك))[2].
أيّها المسلم، فإذا علِمنا أنّنا مسؤولون عن أعمالِنا وعن الجزءِ المهمِّ منه وهو الشّباب، سنُسأَل: فيمَ أمضينَا هذا العمر؟ وفيم أبلَينا هذا الشباب؟ ونحاسِب أنفسَنا يمرّ بنا العام تلوَ العام فماذا قدمنا؟ هل كان يومُنًا خيرًا من أمسِنا أو كان أمسُنا خيرًا من يومنا؟ وهل نيّةٌ صادقة للاستقامةِ على الطاعة وتبديلِ السيِّئات بالحسنات وصحائفِ الأعمال السيّئة بصحائف أعمال خيِّرة، فيها الخيرُ والتقى والصّلاح.
أيّها المسلم، إنَّ من تدبَّر حالَه وعلِم أنّه مسؤول عمّا قال وعمِل أحدث له ذلك تحوٌّلاً في حالِه واستقامةً على الخير وطلبًا للعمل الصالح وسؤالَ الله الثباتَ على الحقّ، لا بدَّ أن نسأَل عن أعمالِنا وأقوالنا، يقول الله - جل وعلا -: (وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعلَمُونَ مَا تَفعَلُونَ) [الانفطار: 10-12]، والله يقول: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُم اقرَءُوا كِتَابِيَه إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ, حِسَابِيَه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ, رَاضِيَةٍ, فِي جَنَّةٍ, عَالِيَةٍ,) [الحاقة: 19-22]، وغيره ممّن أوتي كتابَه بشماله يقول: (يَا لَيتَنِي لَم أُوتَ كِتَابِيَه وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه يَا لَيتَهَا كَانَت القَاضِيَةَ مَا أَغنَى عَنِّي مَالِيَه) [الحاقة: 25-28].
أيّها المسلم، فلا ينفَعُك يومَ القيامة مالٌ جمعتَه، ولا كثرةُ ولدٍ,، ولا طول عمر، إنما ينفعك عملٌ صالح عمِلته، مالٌ طيّب أنفِق في وجوهِ خير، وعمُر مديدٌ استغِلَّ في العمل الصالح، وتربيةٌ لأبناء أو بناتٍ, يكونون لك عقِبًا صالحًا تسعَد بهم في آخرتِك.
أيّها المسلم، إنَّ محاسبةَ الإنسانِ نفسَه محاسبةً دقيقة يخلُص منها بالنّتائج، فإمّا تقصير وإهمالٌ فيتدارك نقصَه وتقصيرَه بالتوبة إلى الله والإنابةِ إليه، وإمّا استقامة فيسألُ الله الثباتَ على الحقّ والاسقامة عليه وأن لا يزيغَ قلبَه بعد إذ هداه.
إنّ المؤمن وهو يمرّ به العام وينقضِي ثمّ يستهلّ عامًا جديدًا ليفكِّر في نفسه: بأيِّ شيءٍ, أمضينا العام الماضي؟ ماذا مضى عليه العام الماضي؟ أمضى في خيرٍ, وصلاح واستقامةٍ, أم مضى في سوءٍ, وفساد ومظالمَ للعباد؟ فيستقبِل عامَه الجديد بتوبةٍ, نصوح وتفكّر في حاله ومحاسبة لنفسِه وتوبة إلى اللهِ من تقصيرِه وإساءَته.
أيّها المسلم، فحاسِب نفسَك فيما بينك وبينَ الله، هل أنت محافِظ على فرائض الإسلام حقًّا؟ هل أنت مؤدٍّ, لفرائضِ الإسلام حقًّا أم أنت مهمِل أو مقصِّر؟ هل أنت مؤدٍّ, للواجبات الشرعيّةِ أم هناك تقصيرٌ فتدارَكِ النقص والتقصيرَ؟
أيّها المسلم، حاسب نفسَك، وهل ربَّيتَ الأولاد من بنينَ وبنات تربيةً صالحة؟ وهل سعيتَ في توجيههم وإعدادِهم الإعدادَ الصالح وبذلتَ السببَ الممكن في توجيهِهم وإصلاحهم وهدايَتهم للطريق المستقيم؟ تحاسب نفسَك مع زوجتك: هل أنت قائمٌ بحقِّها خيرَ قيام؟ هل أنت مقصِّر في أمرها؟ هل معاشَرتُك لها بالمعروف؟ وهل سيرتك معها سيرةٌ طيّبة؟ فالحمد لله وإلاّ فتداركِ النقص والتقصير.
أيّها المسلم، تحاسِبُ نفسَك مع الأبوين الأمّ والأب: هل أنت قائمٌ ببرِّهما؟ هل أنت محسِنٌ إليهما؟ هل أنت قائمٌ بحقِّهما أم أنت مقصِّر ومخلُّ وعاقّ بهما؟ فاستبِحهما في الحياة، وتدارَك ما بقِي من أعمارِهما بالقيام بحقِّهماº عسى أن تلقَى الله وأنت بهما بارّ. وهل علاقتُك برحمِك علاقةُ الخير والصّلَة أم هناك شحناء وعداوة وبعدُ بعضٍ, عن بعض؟ فتدارك هذا الأمرَ، وأصلح ما بينك وبين رحمك، يبارِكِ الله لك في عمرك وولَدِك.
أيّها المسلم، تحاسب نفسَك إن كنتَ من أهل البيعِ والشّراء: هل أنت مِن أهل الصِّدق في تصرٌّفاتك المالية، أم أنت مخادِع وكاذب وغاشّ؟ وهل في ذمَّتك حقوق للآخرين غفَلوا عنها ولم يعلَموا بها؟ فهل عقدتَ العزمَ أن تنبِّههم وتردَّ إليهم حقوقَهم وتعطيهم حقوقهم بطيبِ نفس قبل أن تلقَى الله فيمكِّنهم الله من حسناتك؟
أيّها المتعامِل مع الغير، فاتَّق الله فيما ائتُمِنتَ عليه من أموال، واتّقِ الله فيما ائتُمنت عليه من وصايَا وأوقاف، واتّق الله في حقوقِ الآخرين، فحاسِب نفسَك، وسجِّل ما عجزتَ عن تسديده، وأعلم بذلك حتّى لا يفجَأَك الموت وأنت في غفلةٍ, وإعراض.
أيّها المسلم، ويا من أنيطَت به مسؤوليّة من مسائِل الأمّة، حاسب نفسَك: هل أنت أدَّيتَ الحقَّ الوظيفيّ على الوجهِ المطلوب أم أنت مقصِّر ومهمِل ومضيِّع فيما عُهِد إليك؟ فحاسِب نفسَك، فإنّ هذا أمرٌ مطلوب منك، لتؤدِّيَ الأمرَ على الوجه المطلوب، فلا تقبِض مرتَّبًا مع إخلالٍ, بعمل وعدَم قيام بالواجب.
إنّنا لو حاسبنا أنفسَنا عن أموالنا: ما هي هذه الطرقُ التي نِلنا بها هذا المال؟ أفي أموالِنا غلول وأكلُ مال بالباطل؟ فلنتخلَّص منه، أفي أموالنا أكلٌ للحقوقِ العامّة؟ فنردَّها إلى أهلها، أفي أموالنا حقوقٌ مشتبِهة؟ فتخلّص من هذه المشتبهات، أفي أموالنا مالٌ ما أدَّينا زكاته؟ فلنؤدِّ زكاتَه لنتخلَّصَ من حقِّ الله قبل أن نلقاه. إنّنا لو حاسبنَا أنفسَنا هذا الحساب وعُدنا على أنفسنا فيما بَيننا وبين الله لكان ذلك خيرًا منّا، (بَل الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة: 14].
أيّها المسلم، لا أحد أحرَص منك على نجاةِ نفسك وفكاكها من عذابِ الله، فحاسِبها الحسابَ الدقيق قبلَ أن تحاسَبَ أمام الله، قال عمر - رضي الله عنه -: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، وتهيّؤوا للعَرض الأكبر على الله)[3]، إنّ الكيّسَ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، وإنَّ العاجِزَ من اتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني، أعذَرَ الله لعبدٍ, بلَّغَه الستّين، ما جَعَل له بعدَ بلوغِها من عذرٍ, إن هو أرادَ الانتباهَ وتصحيحَ أوضاعه، فقد مضَى ستّون سنَة، فاتَّقِ الله فيما بقِيَ من عمرِك، واسأل الله الخاتمةَ الحميدة، وتخلَّص من مظالم العباد، واستقبِل عامَك الجديد بنيّةٍ, صادِقة وتوبةٍ, نصوح والتجاء إلى الله وقيامٍ, بما أوجب الله.
أسأل الله أن يجعلَ عامَنا عامَ خيرٍ, وبركة، وأن يهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسلامةِ والإسلام، وأن يعيذَنا فيه من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلَ [خيرَ] أعمالنا خواتمها و[خيرَ] أعمارِنا أواخِرَها وخيرَ أيّامنا يومَ نلقى الله فيه، إنّه على كلِّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417) عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ - رحمه الله -، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي والله أعلم.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة، باب: فضل الوضوء (223) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.
[3] روي هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص2930)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه - رضي الله عنه -، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله - تعالى -حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، شهرُ الله المحرّم أحد الأشهرِ الحُرُم التي قال الله فيها: مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، هذه الأشهر الحرم قال الله فيها: فَلا تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم [التوبة: 36]، ونبيّنا لما سئِل عن أفضلِ الصيام بعد رمضان قال: ((شهرُ الله المحرم))، وعن أفضلِ القيام بعد الفريضة قال: ((جوفُ الليل الآخر))[1].
أيّها المسلم، فشهرُ الله المحرّم هو مبدَأ التاريخِ الهجريّ من هجرة محمّد، فإنَّ المسلمين في عهد عمَر - رضي الله عنه - أرادوا تارِيخًا يضبِطون به الأشياء ولا سيّما دواوين الخَراج والأوامِر التي ترِد من أميرِ المؤمنين لوُلاته، فاختَلَفوا وطرَحوا آراء، فمِنهم من أراد أن يكون مبدَأ التاريخ بعام الفيل وهو مولِد محمّدٍ,، ومنهم من أراده بمبعَثه، ومنهم ومنهم..فأشار عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه - على أميرِ المؤمنين أن يجعَلَ مَبدأ التاريخ الهجريّ بشهرِ الله المحرَّم وقال: (إنّه الشهر الذي يلِي شهرَ ذي الحجة وهو آخرُ الأشهر الثلاثة)، فارتَضَى الصحابة أنَّ شهر محرّم هو مبدأ التاريخ الهجري، أي: هِجرة محمّد [2].فمِن هنا ابتدأ التاريخ الهجريّ، وهو اليومَ السادِس والعشرون بعد الأربَعة مائة وألف من مهاجر محمد.
هذا الشهر خصائصُه ما بيّنه النبيّ من كونِه استحبَّ لنا أن نصومَ اليومَ العاشر من هذا الشهر، أي العاشر من شهر محرّم، وكان هذا اليومُ يومًا معظَّمًا في الجاهلية، كان أهلُ الجاهليّة يصومونه، وهو مما تلقَّوه من أهل الكتاب، وصامه النبيّ معهم بمكّة، فلمّا هاجر إلى المدينة أوجَبَ على الصحابةِ صِيامه وقال: ((من أصبَحَ وقد أكل فليتِمَّ صومَه، ومن لم يكن أكَلَ فليمسِك بقيّةَ يومه))[3]، ثمّ لما افترَض الله على المسلمين صِيامَ شهر رمضان جعَل النبيّ صيامَه سُنّةً، من أحبَّ أن يصومَ فليصم، ومن لا فلا شيءَ عليهº لأنَّ المسلمين مجمِعوه على أنّ الشهرَ الذي يجب صومُه بِابتداءِ الشّرع هو شهر رمضان خاصّة، وما سِوى ذلك فإنما هو من السّنَن والمستحبّات.
أيّها المسلمون، النبيّ لما قدِم المدينة ووجد اليهودَ يصومون ذلك اليوم فسألهم عن سبَب الصيام، فقالوا: إنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومَه، واليوم الذي أغرق فيه فرعونَ وقومه، فصمناه شكرًا لله، فقال لهم محمّد: ((نحن أولى وأحقٌّ بموسى مِنكم))[4]. أجل، إنَّ محمدًا وأمّتَه أولى بموسى وأولى بجميعِ الأنبياءº لأنَّ محمّدًا وأمّته آمنوا برسالاتِ جميع الأنبياء الذين ابتَعثَهم الله وصدّقوهم وإن كان الاتِّباع والتّأسِي إنما هو بمحمّد، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلُّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ, مِن رُسُلِهِ) [البقرة: 285]، والله يقول: (إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيٌّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيٌّ المُؤمِنِينَ) [آل عمران: 68]. فمحمّد وأمّتُه أولى النّاس بالأنبياءِº لأنهم صدَّقوهم وآمنوا بصحَّة ما جاؤوا به، وأنهم رسلُ الله حقًّا، أدَّوا الواجبَ الذي عليهم، وبلَّغوا رسالاتِ الله أُمَمَهم.
فمِن هنا صام النبيّ هذا اليوم، وصِيامنا لهذا اليومِ إنما هو اقتداءٌ بنبيِّنا وتأسٍّ, بنبيِّنا، صام النبيّ اليومَ العاشِر مدّةَ بقائه بالمدينةِ، وقال بعد ذلك في آخر العام العاشر: ((لئن عِشتُ إلى قابلٍ, لأصومَنّ التاسعَ))[5] يعني: مع العاشِرِ، وقال لنا: ((صوموا يومًا قبله أو يَومًا بعدَهº خالِفوا اليهودَ))[6]. فأمَرنا أن نسبِقَ اليومَ العاشر إمّا باليوم التاسع، أو نصومَ اليوم الحادي عشر، فلا بدّ من صيام اليوم العاشر، لكن يستحَبّ لنا إمّا أن نسبِقَه بيوم أو نأتيَ بيومٍ, بعده، فإما أن نصومَ مع العاشر التاسعَ، وإما أن نصومَ مع العاشر الحاديَ عشر. ونبيٌّنا يعظِّم صومَ ذلك اليوم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما علِمتُ رسول الله صام يومًا يستحبّ فضلَه على الأيّام إلا هذا اليوم يعني: يوم عاشوراء[7]، وقال أبو قتادةَ عن رسولِ الله قال: ((صيامُ يومِ عاشوراء أحتَسِب على الله أن يكفِّر به السّنةَ [التي قبله]))[8].
أيّها المسلم، فصم هذا اليومَ احتسابًا ورجاءً للثواب. وهذا اليومُ أعني اليومَ العاشر احتِمال أن يكونَ الجُمعة الآتي يومَ العاشر، أو يكون اليوم التاسع، فمن صام الجمعةَ الآتية والسّبتَ فإنّه بتوفيقٍ, من الله صام اليومَ العاشِر أكيدًا، فصام يوم الجمعة وصام اليوم الحادي عشر وهو يومُ السبت، ومن صام الخميسَ والجمعة فقد صام اليومَ العاشر وسبَقَه باليوم التاسِع، المهمّ أن نصومَ هذا اليومَ احتسابًا ورَجاءً للثواب واقتداءً بسنّة محمد، وموالاةً لأنبياءِ الله، فموسى - عليه السلام - صامه شكرًا لله، ونحن نصومه أيضًا شكرًا لله على إنجاء موسى وقومِه وإغراقِ فرعون وقومِه، لكننا تأسَّينا بنبيّنا في صيامِه حيث شرع لنا الصيامَ، فصمناه اقتداءً به وتأسّيًا به.
أسأل الله أن يباركَ لنا ولكم في الأعمار والأعمال، وأن يجعل أعمالَنا وأعمارنا في خيرٍ, وسلامة وعافية، وأن يوفِّقَنا لعملٍ, صالح، إنه على كل شيء قدير.
في الحديثِ يقول: ((إذا أرادَ الله بعبدٍ, خيرًا استعمله))، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: ((يوفِّقه لعملٍ, صالح قبل الوفاة))[9]، فيعينه على الخير، ويفتح له أسبابَ الخير، فاسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، واعلم أنَّ ما مضى مِن العمر فلن يعودَ إلى أن توافِيَ الله به يومَ القيامة، كلّ يومٍ, كلّ شهرٍ, كلّ عامٍ, مضى فلن يعودَ، صحائفُ أعمالنا سنَقِف عليها يوم لقاءِ الله، (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبٌّكَ أَحَدًا) [الكهف: 46].
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهَديِ هدي محمَّد، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ, ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى نبيّكم محمّد امتثالا لأمَر ربّكم، قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محَمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الراشدين...
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[2] قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/15) من طريق سعيد بن المسيب قال: جمع عمر الناس، قال الحاكم: \"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\"، ووافقه الذهبي، لكن في سماع سعيد من عمر خلاف، وأخرج الطبري سبب تأريخ عمر في تاريخه (2/3) من طريق الشعبي قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر... وهو مرسل، وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135) عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - نحوه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[6] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): \"فيه كلام\"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[7] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (2006)، ومسلم في كتاب الصيام (1132) نحوه.
[8] أخرجه مسلم في كتاب الصيام (1162).
[9] أخرجه أحمد (3/106، 120، 230)، والترمذي في القدر (2142)، وعبد بن حميد (1393)، وابن أبي عاصم في السنة (393)، وأبو يعلى (3756، 3821، 3840)، والطبراني في الأوسط (1941)، والبيهقي في الاعتقاد (ص157-158) عن أنس - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حبان (341)، والحاكم (1257)، والضياء في المختارة (1936، 1937، 1938)، وهو في السلسلة الصحيحة (1334).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد